'واحد ... منا' عرض جاءنا من تونس لنكتشف أنه 'منا'
يمتلك المسرح التونسي قدرة على أن يُفاجئنا باستمرار، قدرة على صنع الأمل والدهشة لدينا ونحن نرى خشبة المسرح تنبض مُجدداً بالحياة، حتى عندما يكون العرض عابراً بالصدفة كما حدث مع عرض 'واحد.. منا' الذي شارك في مهرجان المسرح الحر في عمان، ونتيجة ترتيبات اللحظة الأخيرة في مديرية المسارح في دمشق أتيح لنا مشاهدته لمرة واحدة في مسرح القباني.
لم يحظ العرض بإعلانٍ كافٍ، ولم نكن نعرف أنّ هذا العرض يحمل الرقم 190 لهذه المسرحية، مع ذلك امتلأت الصالة بالحضور، وامتلأت بالحب أيضاً، خلال ساعة ونصف ساعة من الزمن، وهي مساحة كبيرة نسبياً على عرض مونودرامي. لكن الممثل 'جعفر القاسمي' استطاع خلال تسعين دقيقة أن يشدنا إلى حكايته. بل استطاع أن يُقنعنا بأنها ليست أكثر من حكايتنا نحن أو حكاية أي فرد 'منا'، حتى ونحن نضحك على التفاصيل التي عاشها أو عشناها ولا نزال نعيشها بشكل يومي.
نجلس كمشاهدين في الصالة بانتظار بدء العرض، غياب الستارة يسمح لنا برؤية عناصر الديكور التي وزعت على خشبة المسرح، عدد من الكراسي الجلدية على نسقٍ واحد وضعت مقابل 'كونتوار' صغير للخطابة، ولا شيء آخر. ستغذي هذه العناصر البسيطة إيحاءات مُسبقة لدى كل واحد منا، لكنها خاتلت الصديق الجالس بقربي وهو لا يعرف أن العرض مونودرامي، فعدد الكراسي أمدّه بإيحاء وجود جمهور مقابل الخطيب.
تظلم الصالة مع ارتفاع صوت موسيقى صاخبة للحظات، ثم تعود الإضاءة مع تراجع الموسيقى، لم يتغيّر شيء على المنصة، تفاجئنا الحركة القادمة من يمين الصالة، فها هو الممثل يتقدم في محاذاة الجمهور ويصعد من بيننا إلى الخشبة، يأخذ وضعيته خلف منصة الخطابة. ويبدأ جملة من الحركات الإيمائية بيديه وملامح وجهه أيضاً. قبل أن يتحدث إلينا، قبل البدء برواية الحكاية، حكايته التي لا تبدو مهمة في حد ذاتها، لكن تلك التفاصيل تشكل في المحصلة المشهد العام للحكاية بل للحياة أيضاً.
وهي حكاية أو حياة أي مواطن عربي، يعيش فقره وخيباته، يعيش أحلامه وانكساراته، يعيش قهره ورغباته، والتي لم تكن قادرة في مجموعها على صنع أي تميز لولا حادث طارئ في نهاية الحكاية، حين عاد 'بطلنا' بالطائرة من ليبيا حيث كان يعمل ليكتشف في المطار أن حبيبته 'منيرة' قد تزوجت أو أنّ والدها قد قام بتزويجها، فتثور ثائرته، وفي لحظة انفعال قد يحطم الكرسي أو يهجم على والد حبيبته، قد يبكي أو يصرخ في وجوهنا أو وجوه مستقبليه، ليس مهماً ما يفعله هذا الشخص، بل المهم أنّ هذا الانفعال سيشكل الحدث الأهم ليس في حياته فقط، بل في حياة البلاد، حين يُتهم بالإرهاب، ويصير حديث الإعلام والإعلاميين. في هذه اللحظة نكتشف مُبرّر كل التفاصيل التي قام الممثل بسردها أمامنا، بل تلك التفاصيل التي جعلنا نعيشها أو نضحك من أنفسنا ونحن نعيشها، في هذه اللحظة تكتمل الحكاية حين يكتشف حكيم ونكتشف معه أننا رغم سذاجتنا وفقرنا وتعاستنا متهمون بالإرهاب، وأننا نشكل خطراً على سلامة المجتمع الدولي!.
يقول المخرج 'محمد منير العرقي' عن اختياره لهذا النص، أنه وقع أسير مقولته المهمة: (نحن كعرب لسنا إرهابيين، رغم محاولات الغرب إلصاق هذه التهمة بنا، ورغم الكثير من الهنات والعيوب والمساوئ التي تكتنف مظاهر حياتنا، والتي جعلناها محط سخرية وتهكم في العرض ليس بقصد الإساءة، بقدر ما هو تحريض على تجاوز تلك الحالة، وهو ما يمنح حكاية العرض عمقها وأهميتها).
ومع ذلك لا تبدو هذه الحكاية قادرة لوحدها على منح العرض أهميّته، وإنما تكامل التفاصيل الصغيرة يساعد على تشكيل الصورة الكاملة لتلك المقولة التي أعادت الثقافة العربية إنتاجها بأكثر من صيغة عبر السنوات الأخيرة، لكن ما منح حكاية حكيم تلك الأهميّة التي جعلتنا نستمر معه لأكثر من تسعين دقيقة هو اللعبة الإخراجية التي أتقنها محمد منير العرقي. وهي التجربة الثالثة له مع الممثل القدير 'جعفر القاسمي'، إذ سبق وقدما معاً مسرحية 'محارم'سنة 2001، ومسرحية 'أنا والكنترباص' سنة 2003، وقد حصدت هذه الأخيرة الكثير من الجوائز في مهرجان المسرح التجريبي في القاهرة، في مهرجان درب الحرير في ألمانيا، في مهرجان المونودراما في الإمارات العربية المتحدة، دون أن تحظى بنجاح موازٍ في تونس. وقد أدرك المخرج وهو أستاذ مسرحي أنّ المشكلة ليست في الجمهور، وأنّ عليه إعادة اكتشاف صيغة للتواصل مع هذا الجمهور.
وهنا يقول: (إنّ طزاجة الموضوع وقربه من الجمهور إضافة لتقنية المزج بين الموندراما وبين One Man Show في هذا العرض شكلا رافعة حقيقة ليس لنجاح العمل فقط، بل لوصوله إلى أكبر قدر من الجمهور في تونس وخارجها كذلك. فالتقنية الأخيرة تنهض على قدرات الممثل الاستعراضية حين يمزج بين السحر والرقص، بين دور المنشط الذي يحاور جمهوره في القاعة وبين الحكواتي الذي يقص علينا سيرة، بين البهلوان الذي يتحرك بخفة أمامنا وبين فنون الإيماء والبانتوميم وتقنيات الكوميديا ديلارتي. كل هذه العناصر الفرجوية ساعدتنا على تجاوز إشكالية اللهجة العامية التونسية، كما ساعدتنا هذه العناصر على فهم العرض والتفاعل معه بعيداً عن بعض الجمل والمفردات التي غابت عن إدراكنا لكنهها.
كما وظف العرض الكثير من المفردات المعاصرة في نقده التهكمي على واقعنا، فوالدته التي تبكي حداداً على وفاة جده الذي قارب عمره المئة عام، نكتشف أنها تبكي على 'مهند' بطل المسلسل التركي، إذ لن تتمكن من متابعته خلال أربعين يوماً من طقوس الحداد.
كذلك لعب الممثل 'جعفر القاسمي' بشكل جميل على الارتجال، في مستوى الحوار مع الصالة والجمهور، وكانت الذروة حين أخذ يُقنعنا أنّ ما سبق وقدمه كممثل ليس مسرحاً، لأنّ المسرح يقوم على الصراع بين اثنين وهو كان راوياً واحداً مفرداً أمامنا. فطلب من طفلة صغيرة في الصالة أن تصعد إلى خشبة المسرح، لعبة يستخدمها في كل عروضه، امتثلت هذه الطفلة لرغبته وصعدت إلى الخشبة، ثم قدمت نفسها إلى الجمهور، وأدت بعض المشاهد التي كان يُلقنها إياها قبل أن تعود إلى كنف والدتها في الصالة.
ممثل حدثنا عن علاقته بالمسرح وعن اتجاهات فن التمثيل من 'ستانسلافسكي' إلى 'غروتسكي' وصولاً إلى 'بريخت'، ورغم الصيغة التهكمية في تفسير هذه الاتجاهات المسرحية إلا أنه كان بريختياً في أدائه، حين أكدّ على شخصيته كـ 'جعفر القاسمي' أكثر من مرّة وهو يؤدي دور 'حكيم' في العرض المسرحي. أو حين كان يصطنع الاتصال بالمخرج لخروجه عن النص، أو عندما يؤدي لنا 'مسرحاً داخل مسرح' مشهد مقتل 'ديزدمونة على يد عطيل' كما قدمها له صديقه يوم نجاحه في امتحان الشهادة، على خلفية موسيقى 'غلادياتور'، ويبدأ في الشجار مع منفذ الموسيقى 'يوسف' حول متى عليه أن يرفع صوت الموسيقى ومتى عليه خفضها... ممثل يحمل على كاهله تاريخ تسعة عروض في المسرح المدرسي ثم الجامعي، وما يوازيها في المسرح المحترف، إضافة إلى عدد من الأعمال الدرامية والأفلام السينمائية، لكنه يُنبئ بما هو أكثر من ذلك، حالة إبداعية استطاعت بقليل من الإكسسوارات التي حملها في جيوبه الواسعة أن تعيد إنتاج العديد من الحوارات أمامنا، كما استطاع أن يُقدم لنا العديد من الشخصيات، خالقاً لكل منها كركتره الخاص، صوتاً وشكلاً، وهو كركتر حاول أن يسير به إلى حدود التنميط، مُتكئاً على قدرته في اللعب على الصوت وملامح الوجه إذ كانت كل عضلة من عضلات وجهه وجسده تتحرّك بإيقاع منفرد لتؤدي الإيحاء المطلوب، ممثل بارع ومخرج ذكي استطاعا إدهاشنا في العرض 190 لهذه المسرحية الكوميدية 'واحد... منا'، وخلال تسعين دقيقة متواصلة.
ببلوغرافيا العرض:
المسرحية: واحد... منا.
نص: محسن بن نفيسة.
إخراج وسينوغرافيا: محمد منير العرقي.
تمثيل وديكور: جعفر القاسمي.
الإنتاج: واب الفنون للإنتاج والخدمات الثقافية.
أنور بدر
المصدر: القدس العربي
إضافة تعليق جديد