دمشق.. التطبيع مع إسرائيل محرّم رسمياً وشعبياً
لا تزال التوقّعات في شأن مستقبل التطوّرات في سوريا تتركّز على إمكانية بروز تحولّات سياسية واقتصادية، مرتبطة بالملفّات الأكثر سخونة كالوضع المعيشي، ومواجهة تداعيات الحرب، فضلاً عن إعادة ترتيب أوراق العلاقات الخارجية للبلاد، عربياً وإقليمياً ودولياً. يحصل ذلك وسط مؤشرات إلى تغييرات جارية، أبرزها الحديث المتزايد عن إمكانية اتّخاذ بعض الدول العربية، وفي مقدّمتها السعودية، خطوات تطبيع تجاه دمشق، فيما يبدو أن التحدّي الخاص بمواجهة العدو الإسرائيلي اكتسب زخماً إضافياً بعد النقلة النوعية التي أظهرتها حركات المقاومة الفلسطينية في مواجهة العدو، خلال عملية "سيف القدس" الأخيرة، والتي مثّلت صفعة لبرنامج الدول المُطبّعة مع إسرائيل. وفي هذا الإطار، بدت لافتة التسريبات التي تعمّدت جهات عربية أو من القوى السورية المعارضة للحكم بثّها، حول أن في سوريا مَن دخل النقاش فعلياً حول ملفّ التطبيع مع العدو. وهو ما ترافق، أيضاً، مع لجوء وسائل إعلام أجنبية الى تسريب معطيات غير صحيحة عن سعي بعض الحكومات إلى فتح قنوات حوار بين الجانبين السوري والإسرائيلي، وتصعيد الضغط الاقتصادي الغربي الرامي إلى إحداث تحوّل في المزاج الشعبي السوري المتشدّد اتجاه مسألة العلاقة مع العدو.
لكن صورة الموقف الرسمي والشعبي في سوريا مختلفة تماماً. بالنسبة إلى الحكومة، ليس هناك من يفكّر بالأمر. ويقول الدكتور جمال المحمود، الأستاذ في كلية العلوم السياسية في جامعة دمشق : "لن يكون هناك تطبيع بين سوريا وإسرائيل لسببين: الأول هو وجود أراضٍ سورية لا تزال محتلّة وترفض تل أبيب إعادتها إلى أصحابها، وهذا بخلاف وضع دول الخليج والسودان والمغرب التي ليست لها أيّ حدود مع الكيان الصهيوني، والسبب الثاني هو انتفاء ثقافة التطبيع بين السوريين قيادة وشعباً، وإن كان هناك حديث شعبي أخيراً حول هذا الملفّ، وتالياً فإن الضغوط والعقوبات المفروضة منذ العام 2011 والتي زادت خلال العام الماضي، لن تكون مدخلاً للتطبيع للسببين المذكورين".
وعليه، فإن الملفّ الأهمّ في المرحلة المقبلة، في نظر المحمود، ليس التطبيع مع إسرائيل، وإنما تطبيع الدول العربية علاقاتها مع سوريا، وبالتحديد مصر، السعودية، والإمارات، والتي لا تزال خطوات كلّ منها في هذا السياق خجولة. ومن هنا، يدعو المحمود إلى متابعة الأمور المتّصلة، إذ " تحافظ قطر على مسارها غير البنّاء، وهذا ما تجلّى في موقفها خلال اجتماع وزراء الخارجية العرب الأخير، ومعارضتها عودة سوريا إلى الجامعة العربية". لكن إلى أيّ حدّ يمكن أن تذهب تلك الدول في الانفتاح على دمشق؟ وهل ستسمح الولايات المتحدة الأميركية بذلك، وهي التي كانت قد تدخّلت في العام 2019 لفرملة الانفتاح العربي الذي بدأته الإمارات عبر افتتاح سفارتها في سوريا؟
ليس الأمر بهذه السهولة، ولا يمكن اعتبار قرار التطبيع شأناً وطنياً خاصاً بكلّ دولة، سواءً كانت عربية أو أجنبية، ويقول الدكتور نمير عيسى، رئيس قسم العلاقات الدولية في كلية العلوم السياسية في جامعة دمشق، إنه "لا يمكن التكهّن بدقّة بمستقبل العلاقات السورية ــــ الغربية بسبب كثرة التعقيدات في التفاعلات الدولية البينية والجماعية في ملفّات المنطقة، وخاصة بين الولايات المتحدة من جهة، والقوى الصاعدة من جهة أخرى. فالعلاقة السورية ــــ الغربية ليست محكومة فقط بمحدّدات ثنائية بين سوريا وكلّ من هذه الدول، بل تحكمها أيضاً عناصر إقليمية ودولية، مرتبطة بالولايات المتحدة، وبالعلاقة الأميركية ــــ الروسية، وبمواقف الدول في النظام الإقليمي". ويضيف عيسى، أن "هذه العلاقة مرتبطة أيضاً بالتطوّرات التي قد تحصل في الملفات الإقليمية، وعلى رأسها التفاوض الإيراني ــــ الأميركي، والإيراني ــــ السعودي، حيث من الممكن أن تؤدّي الانفراجات في هذين الملفّين إلى حدوث تطوّرات مهمّة في الملفّ السوري، قد تُفضي إلى حلول ما، وتالياً إلى انفتاح في علاقات سوريا عربياً ودولياً".
أوراق سورية هامّة
في الملفّ الثالث، المتعلّق بمستقبل علاقات دمشق بالدول "الحليفة"، لا يتطابق الموقف الرسمي مع الرؤية الخاصة بشريحة من المهتمّين بالشأن السياسي، خاصة لجهة العلاقة مع روسيا. فالدكتور المحمود يرى أن "موسكو وقفت إلى جانب سوريا سياسياً، واستخدمت حق النقض أكثر من 20 مرّة، كما أن تدخّلها عسكرياً ساهم في الحدّ من توسّع سيطرة الإرهابيين، إلا أن موسكو لم تقدّم اقتصادياً لسوريا شيئاً ملموساً، وهناك عدة أدلّة على ذلك، أبرزها أنه عندما حصلت أزمة البنزين للمرّة الأولى في آذار ونيسان من العام 2019، حيث خرجت إحدى الصحف الروسية تطالب الرئيس بوتين باستغلال تلك الأزمة للحصول على تنازلات من الحكومة السورية". ويضيف: "نحن كوطنيين سوريّين، وبعيداً عن الموقف الرسمي السوري، لدينا ملاحظات على الأداء الروسي حتى في الجانب السياسي، بدليل أنه في مؤتمر سانت بطرسبورغ في الثاني من شهر حزيران الحالي، أعلنت موسكو أنها تؤيّد السياسة القطرية الإقليمية. والسؤال: كيف تؤيّد موسكو السياسة القطرية، وهي تعرف أن وزير الخارجية القطري عندما التقى الرئيس المصري في شهر أيار الماضي، قال إن الدوحة ضدّ الرئيس الأسد، ولا ترغب بعودة سوريا إلى الجامعة العربية. وهذا ينطبق كذلك على وصف الرئيس بوتين لأردوغان بالشريك والرجل الصادق، في وقت يستمرّ فيه الرئيس التركي في دعم المنظمات المسلّحة واحتلال أراض سورية؟"
لكن أيّاً كان موقف الرأي العام السوري من العلاقات الخارجية، فإن المتغيّرات الإقليمية والدولية تبقى هي الأكثر تأثيراً في خريطة تلك العلاقات. وكما يعتقد الدكتور عيسى، فإن "الخيارات المتاحة أمام الدولة السورية في إدارة علاقاتها الخارجية تضيق نتيجة سنوات الحرب العشر، وما تركته من تداعيات خطيرة على سوريا وقدراتها وإمكاناتها ودورها الإقليمي. ولكن، بفعل صمود الدولة وشبكة تحالفاتها، واستمرار عمل مؤسّساتها، لا تزال تملك بعض الخيارات المهمّة، والتي من الممكن أن تلعب دوراً هامّاً في إعادة علاقات سوريا الخارجية". ويَذكر في هذا السياق بعض الأمثلة منها: "الملفّ الأمني، إذ إنه لدى المؤسّسات الأمنية السورية بنك معلومات مهمّ جدّاً، وقد سعت الدول الأوروبية للحصول على بعض ما فيه، إلّا أن دمشق ربطت التعاون الأمني بالعلاقات السياسية. وهناك ملفّ اللاجئين الذي يستحوذ على اهتمام المؤسسات الأوروبية، ولا يمكن للدول الأوروبية معالجته من دون التعاون مع الدولة السورية، وكذلك ملفّ إعادة الإعمار، الذي سيكون جاذباً للعديد من الشركات الأوروبية بعد انتهاء الحرب ونجاح العملية السياسية". وأخيراً، يبقى محدّد أساسي في هذا السياق، وهو إمكانية لجوء بعض الدول العربية والغربية إلى الانفتاح على دمشق، في محاولة للحدّ من النفوذ الروسي ــــ الإيراني في سوريا، وبشكل خاص الإيراني، لأنها ترى أن استمرار سياسة العزل سيدفع بسوريا إلى تمتين علاقاتها مع روسيا وإيران والصين، وحركات المقاومة في المنطقة.
زياد غصن - الأخبار
إضافة تعليق جديد