2006: عمالة الأطفال في الوطن العربي
تمثّل عمالة الاطفال ظاهرة عالمية قديمة، تفاقمت مع التطور الاجتماعي فاتخذت منحى خطيراً في القرون الاخيرة. استوجب اتساعها وضع تشريعات خاصة من قبل الأمم المتحدة والدول الحديثة سعياً للحد من استغلال الطفولة واعطائها حقها في الحياة.
تقدر منظمة العمل الدولية عدد الاطفال العاملين في العالم بـ246 مليون طفل ممن تصل اعمارهم الى الخامسة عشرة وما دون ويمثل العالم العربي نصيباً وافراً من انتشار الظاهرة حيث تقدر الاحصاءات عدد الاطفال العاملين بـ13،5 مليون طفل، يقومون باعمال لا تتناسب واعمارهم، وذلك وفق تقرير أعده المكتب الاقليمي لـ"اليونيسيف" في الشرق الاوسط وشمال افريقيا بالتعاون مع الامانة العامة للجامعة العربية تحت عنوان "عالم عربي جدير بالاطفال، دراسة حول واقع الطفولة في الدول العربية".
اما منظمة العمل الدولية فتشير الى ان نسبة الاطفال العاملين في العالم العربي تصل الى 20 في المئة من مجمل عدد الاطفال، بينما يؤكد "المجلس العربي للطفولة والتنمية" ان عدد الاطفال الذين يتسربون من التعليم الى سوق العمل يسير في تصاعد سنوي بحيث بلغ خلال السنوات الاخيرة نسبة 11 في المئة من قوة العمل الموجودة في السوق. هذا مع الاشارة الى ان غالبية المنظمات الدولية تشكك في الارقام العربية حول عمالة الاطفال وتعتبر ان الاعداد تفوق بكثير ما هو مصرّح عنه.
أوردت منظمة العمل العربية في أحد تقاريرها عام 2006 ان 70 في المئة من عمالة الاطفال تتركز في مجال الزراعة والخدمة في المنازل والباعة المتجولين وماسحي الاحذية والتسوّل في الشوارع، اضافة الى المصانع وحرف الحجارة والبناء وغيرها. يتعرض الاطفال خلال قيامهم بأعمالهم الى حوادث متعددة منها ما هو قاتل، ومنها ما يتسبب باعاقات وتشوهات جسدية بالنظر الى تنفيذهم أعمالاً تفوق قدرتهم الجسدية. كما يتعرضون ايضاً لاضطهاد واذلال وضرب ولاعتداءات جنسية، مما يجعل الظاهرة منضوية في سياق الازمات الاجتماعية - الاقتصادية - النفسية المتعددة البعد والجانب وتطاول بنية المجتمعات العربية في واقعها وثقافتها وقيمها.
اولاً- تتقاطع التفسيرات المتعلقة بانتشار الظاهرة عند عامل مركزي هو درجة الفقر في المجتمع واضطرار العائلة لارسال صغارها الى العمل لتأمين لقمة العيش. وتُفاقم البطالة التي تصيب القوة العاملة هذه المعضلة من خلال عجز الدول عن توفير فرص العمل، خاصة ان اصحاب المؤسسات والمشاريع وارباب العمل يفضلون هذه العمالة لاسباب تتصل بحجم الاجور المنخفض الذي يدفع لقوة العمل هذه ويقبل الطفل بها. في جانب آخر، تشير الظاهرة الى قضية سياسية بامتياز تتصل بفشل مشاريع التنمية التي سعت اليها الانظمة العربية، فعجزت خلال حكمها عن مواجهة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية لشعوبها. تكشف الظاهرة مفارقة تمتع عالم عربي بموارد مالية هائلة مقابل سيادة الفقر والجهل والبطالة بشكل مريع. وهو أمر ناجم عن خضوع الشعوب العربية لنهب مزدوج لثرواتها تمارسه القوى الحاكمة في الداخل والشركات الاجنبية العابرة للقوميات في الخارج.
ثانياً - ترتبط ظاهرة عمالة الاطفال بالتسرب المدرسي، فيحرم الاطفال من حقهم في التعليم لاضطرارهم للنزول الى سوق العمل. ويترتب على ذلك ازدياد في عدد العرب الأميين وتمكّن الجهل منهم مما يفاقم التخلف الاجتماعي والثقافي السائد اصلاً في المجتمعات العربية. وهو أمر يطرح اسئلة حول الزامية التعليم ومجانيته اللذين تقول بهما الدول العربية نظرياً فيما تعاني فجوة كبيرة في التطبيق العملي.
ثالثاً - يؤدي انخراط الطفل في سوق العمل الى تداعيات اهمها الآثار النفسية التي تنعكس على مجمل شخصيته. وتشير دراسات سيكولوجية تناولت ظاهرة عمالة الطفل الى حصول حد كبير من الانحرافات السلوكية لدى الاطفال، بحيث يتحول الظلم والاضطهاد الممارس عليهم في عملهم الى كره وحقد على المجتمع بأكمله، بكل ما يترتب عليه من تغذية عقلية الارهاب داخل الطفل وقابليته للانحراف نحو الجريمة. وتحذر تقارير المنظمات الدولية من هذه الآثار التي تصيب جميع المجتمعات، وتالياً لا تعتبر المجتمعات العربية فريدة في هذا المجال. كما يضاف الى هذه الآثار السلبية، عقلياً ونفسياً، تعرض الطفل لانواع متعددة من الامراض نظراً الى الظروف غير الصحية التي يعمل فيها.
رابعاً - تؤثر الظاهرة سلباً على واقع الاسرة فتؤدي الى تفككها. اذ يحرم العمل الباكر الطفل من الرعاية الاسرية والحب والاستقرار الذي يحتاجه بقوة في سني حياته الاولى. وتؤكد جميع الدراسات النفسية على انعكاس مراحل الطفولة على مجمل شخصية الانسان لاحقاً سواء تطورت ايجاباً أم سلباً. في هذا المجال تندرج قضية ازدياد عدد السكان في العالم العربي بصفتها معضلة اجتماعية واقتصادية في آن واحد، ترتبط بالعجز عن تأمين المعيشة اللازمة لعدد كبير تضمه الاسرة، أو تأمين الرعاية اللازمة للاولاد بكل موجباتها. ولا يبدو العالم العربي امام معالجة جدية لهذه الظاهرة والحد من نسبة الولادات المرتفعة، بل ان التقاليد والثقافة السائدة لا تزال ترى في زيادة افراد الاسرة عناصر ايجابية ليس اقلها تأمين قوى عاملة اضافية للعائلة.
خامساً - تطرح عمالة الاطفال مسألة الحقوق القانونية المكرّسة لحمايتهم ومدى تطبيقها في الدول العربية. وقد صنّفت التشريعات الدولية الظاهرة في خانة الانتهاك الفاضح لحقوق الانسان، وقد دعت الأمم المتحدة الدول المنضوية في عضويتها الى التزام هذه التشريعات وترجمتها قوانين محلية. وعلى رغم ان مجمل الدول العربية وافقت على هذه القوانين والتشريعات، الا ان ترجمتها على ارض الواقع لا تزال قاصرة جداً، مما يجعل الاطفال العرب اسرى هيمنة قوى متسلطة وقادرة على تجاوز القوانين واستخدام نفوذها وفسادها في تكريس استغلال الطفولة.
سيشكل الاطفال جيل الشباب القادم في العالم العربي، ويبدو السؤال مشروعاً بقوة عن أي مستقبل ينتظر هذا الجيل المكبل بالفقر والجهل والأمية والاعاقات النفسية، مما يجعل السؤال أبعد فيطاول المجتمعات العربية التي تبدو سائرة حثيثاً في خط تراجعي لا تورّث شبابها سوى الاحباط واليأس.
خالد غزال
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد