"صديقي الأخير" فيلم خسرته المهرجانات وكسبته ذاكرة السينما
في اللحظات الأخيرة منعوه من العرض. في أكثر من مهرجان سينمائي عربي، ودولي أيضاً، منعوه. لكنهم لم ينجحوا في أن يمنعوه من الوصول إلى قلوب وعقول الناس. مُنع لمزاعم سياسية تدعي الدفاع عن حرية شعب. مُنع لأن هناك في الغرف المغلقة شخصيات تخشى من "شوشرة" أنصاف الموهبين المحتمين في مواقف سياسية مشكوك في نزاهتها، شخصيات تخشى أن تعلن بجرأة أنها تنتصر للسينما متغاضية عن الظروف السياسية الملتبسة. سيثبت التاريخ والذاكرة السينمائية - مستقبلاً - أن هذا العمل السينمائي الجميل هو الأبقى وما دون ذلك – من قرارات ومنع وشجب وتنديد – زائل للأبد. إنها إشكالية فيلم "صديقي الأخير" للمخرج السوري الشاب المبدع "جود سعيد" الذي تم إقصائه من كافة المهرجانات العربية، ذلك المخرج الذي كتب ذات يوم وصيّة سينمائيّ حيّ قائلاً في متنها: "إن قُتلت لا تحملوا اسمي ثأراً. إن قُتلت لا تجعلوا صورتي طريقاً للقتل. إن قُتلت فقط شاهدوا السينما التي صنعت. إن قُتلت أعفو. ولكن لن أموت فأنا أحبّ الحياة والسينما."
من قلب الظلام الدامس يبدأ الفيلم، ومنه أيضاً يفتح الطبيب خالد باباً واسعاً، ليس فقط، على حارة السكة، ولكن أيضاً على الضوء الباهر، بابا يخرج منه إلى نهاره ويُخرجنا معه من الظلمة لنعرف حكايته وحكاية أهل حارته وآخرين معه. بجرأة يفتح خالد الباب، بحفاوة وابتسامة يودع أهل حارته للمرة الأخيرة دون أن يدرك أحد منهم أنه قد عزم على الانتحار. في ذلك اليوم الأخير من عام 2010 حيث يحتفل الجميع بليلة رأس السنة انتحر خالد، على وقع الأجواء الاحتفالية والألعاب النارية التي تطلق في عنان السماء أطلق الرصاص على رأسه، وكأنما يحتفل هو بطريقته الخاصة، يحتفل بخلاصه من تعب الحياة ووجعها، تاركاً خلفه إرثاً يتعلق بطفلة متبناه ترفضها عائلته الثرية جداً صاحبة السلطة والنفوذ القوي، واسطوانات وشرائط فيديو يُسجل عليها مشاهد من حياته وتفسيرات لما أقدم عليه وما قام به من أفعال، معلناً فيها أن حياته كانت سلسلة من الهزائم، منذ رحلت أمه، تركها تروح، لا يعرف إلى أين؟ كان صغيراً وقتها. الموت رحمة.. هكذا أيضاً أقنع نفسه في تلك اللحظة التي قتل فيها أقرب الناس إلى قلبه.
يبدأ الفيلم من خطين متوازيين، أحدهما يمثله الطبيب المنتحر خالد والذي يُطرح من خلاله جدلية الموت الرحيم ونظرة المجتمع إليه، وإلى أي حد يمكن الإصرار على كونه جريمة؟ وأثناء ذلك يتطرق لمجتمعه وعائلته التي لا تشبهه إذ أنها غارقة في الفساد السياسي والاجتماعي، أما الخط الثاني فيخص العقيد يوسف المحقق النزيه، الشريف المتشائم، المصاب بالملل، والذي أوشك على التقاعد. ثم بعد قليل من بداية الفيلم ينبثق رافد ثالث يغذي الأحداث ويثريها لأن في وجوده يتيح الفرصة لمزيد من المكاشفات الاجتماعية التي تُعري بؤر الفساد في المجتمع وتنزع القناع عنها، وأقصد به الخط المتعلق بالمحقق الشاب النقيب أمجد الذي يسير في خط متواز مع شخصية يوسف، ومن خلال احتكاكهما والصراعات الخفية الدائرة بينهما تتكشف بوضوح التناقضات الصارخة بين شخصيتين متنافرتين، وأسلوبين في الحياة وفي العمل على طرفي نقيض، فيوسف مثال للانضباط والشرف والأخلاق في سلوكياته، وثقافاته الأمنية، والاجتماعية ويتسم بالصدق رغم قسوته وصلفه أحياناً، بينما أمجد تلقّى في أوروبا دورات تدريبية على أساليب التحقيق الحديثة التي تنتهك حقوق الإنسان بأدب شديد وإجرام ناعم، وهو أيضاً مثال للانتهازية والاستغلال والفساد الوظيفي إذا ينقب بدأب عن الثغرات ليستغلها في إلقاء الشباك من حول ضحاياه وعقد الصفقات ولا مانع لديه من تلقي الرشوة وتزييف الحقائق لإشباع رغباته.
البنية الجمالية
"صديقي الأخير" نموذج للعمل السينمائي الذي ينطلق من سيناريو محكم البناء كتبه جود سعيد والفارس الذهبي، كما شارك في مراجعته آخرين، سيناريو يهتم برسم الشخصيات بواقعية، بتناقضاتها، بحيويتها، بأنفاسها اللاهثة أو البطيئة، بصمتها ويأسها، أو ثرثرتها وسذاجتها. شخصيات ثرية بتفاصيلها، على تنوعها ذكوراً وإناثاً، وعلى اختلاف أعمارها طفولة وشبابا وكهولة، وعلى تباين مستوياتها الفكرية والاجتماعية والاقتصادية. ربما فقط ما يُؤخذ علي السيناريو أن فعل القتل الرحيم الذي ارتكبه الطبيب لم يكن له مبرر ودافع درامي مُلح خصوصاً في ظل أمرين؛ أولهما أن الطبيب ثري وأن وجود زوجته على أجهزة التنفس الصناعي مدى الحياة لم يكن يؤثر عليه مادياً، وثانيهما؛ أنها لم تكن تشعر بالمعاناة لأنها مغيبة عن الوعي، فالتفاصيل المتعلقة بتلك الجزئية لم تكن مقنعة أو مبررة بالقدر الكافي في طرح إشكالية القتل الرحيم بعكس لو تم ذلك في ظل حالة مأساوية تعاني من إهدار الكرامة الإنسانية انتظارا للموت، هنا ربما تظهر قوة الجدلية ويحتدم الصراع الإنساني حول فعل الاختيار.
باستثناء تلك الجزئية فالشخصيات مترعة بالتفاصيل الحيَّة الصادقة، والتصوير تطغى عليه جماليات فنية ودلالية تظهر في الميزانيس وزوايا الكاميرا وتكوين الكوادر والتشكيلات البصرية بكل ما يحمل من دلالات رمزية ومنها على سبيل المثال ظهور لوحة كبيرة لدون كيشوط معلقة في بيت خالد في الزاوية المواجهة له عقب انتحاره، أو المشاهد الافتتاحية لكل شخصية ومنها النقيب أمجد الذي قدمه "جود سعيد" لأول مرة على الشاشة في لقطة له بينما يجلس مع أحد الشخصيات التي يتم التحقيق معها، والتي تنتمي لعائلة خالد الفاسدة، إذ جعلهما المخرج يجلسان في مستوى واحد فبدت جلستهما خارجة عن اطار التحقيق وكأنما هي جلسة ودية لأصدقاء أو لشخصين يعقدان صفقة، وهو ما تتأكد صحته فيما بعد.
هناك أيضاً ذلك التكوين للعقيد يوسف أثناء استماعه لتسجيلات خالد، إذ رسم المخرج كادرا وضع فيه شاشة العرض - التي نرى عليها الطبيب يدلي باعترافاته وتصريحاته - وإلى جوارها على مسافة قريبة منها نرى في المرآة انعكاس للمحقق يوسف الذي يجلس في مواجهة الأثنين، يجلس في مواجهة ذاته وفي مواجهة الطبيب الذي أثبتت أحداث الفيلم أنهما متشابهان، رغم أنهما غير متشابهان.
بميزان من ذهب كان "جود سعيد" يتعامل مع حركات الكاميرا، فهي إما ثابتة راسخة تتأمل طويلاً هدفها الدرامي، ترصده دون كلل، تنتظره أحياناً حتى يأتي إليها أو تذهب هى إليه في مرات قليلة، تسير معه طويلاً وعلى مهل عرضياً أو إلى الأمام والخلف، تصحبه في الظلام وفي النور، تلتقط أدق التفاصيل المتعلقة بالبشر، بالكبار والصغار من أهالي الحارة، كاشفة تناقضاتهم ونميمتهم وتقلب أمزجتهم وانتهازية بعضهم. كما أن الموسيقى التصويرية المصاحبة في لحظات الحزن والفرح والبهجة والدهشة مختارة برهافة الفنان الحساس المقتصد، حتى تلك الأغاني المختارة سواء من التراث الشعبي السوري أو من أغاني أم كلثوم مثل "ودارت الأيام" أو من أشعار محمود درويش، جميعها تم توظيفها بمهارة شديدة موسومة بالتلقائية.
أما على صعيد التمثيل فقد أتقن معظم الأبطال أدوارهم، لكن المفاجئة الكبرى هي إعادة اكتشاف ممثل في قامة المخرج عبد اللطيف عبد الحميد الذي يستحق جائزة أحسن ممثل عربي في ذلك العام، فهو في دور العقيد يوسف يؤكد موهبته في التمثيل ببساطة وتلقائية هامسة، في أغلب المشاهد على تنوعها، في لحظات السذاجة أو الدهشة، عند الغضب والسخرية والتعجب، أو عندما تكسو ملامحه الريفية شبح ابتسامة بريئة يملأها حنان الأب ودفئه، أو عندما يُغلف عينيه الحزن الشفيف، أو عندما يلمع بريق الدموع في مقلتيه سواء في مشاهده مع الطفلة "ماريا" أو في تلك اللحظات المتشظية لاعترافات خالد، أو هو في الحافلة بين الناس ليلاً يستعيد كلماته وكأنما يراجع حياته في ضوء حياة هذا الشاب المنتحر.
عندما انتهيت من مشاهدة "صديقي الأخير" تذكرت كلمات جود سعيد التي يقول فيها:
أصنع اليوم فيلماً..
كقلبي ينبض بكل ما أوتي من قوة..
أصنع اليوم فيلماً..
كإسمي يحبّ بكل ما أوتي من قوة..
أصنع اليوم فيلماً..
كعينيّ يضحك ويبكي بكلّ ما أوتي من قوة..
"صديقي الأخير" هو عمل سينمائي مشحون بالعواطف، بالإنسانية، بالمواجع ولكن أيضاً بالضحك المتفجر من تلقائية وعفوية المواقف والشخصيات، عمل يحكي عن الخير والشر، عن الفساد والشرف، فيلم مشحون أيضاً بالتناغم الجميل والتفاعل الهارموني بين الشخصيات والبيئة المحيطة. هو عمل سينمائي يحمل خصوصية إبداعية لمخرجه، خصوصية لا تظهر فقط في كل التفاصيل وأدقها، ولكن أيضاً في الطريقة التي ينسج بها التفاصيل، وفي الإطار الذي يضع فيه التفاصيل، وفي قدرته على تحريك الممثلين فرادى ومثنى وثلاث وحتى في أعداد كبيرة. "صديقي الأخير" فيلم خسرته المهرجانات وكسبته ذاكرة السينما.
التعليقات
&
إضافة تعليق جديد