قدر الأكراد وفجائعهم الهازلة في ثلاثية قوبادي الكردية
كما لو أن المخرج باهمان قوبادي يستكمل ثلاثيته حول «كردستانية» الإيراني ومقابله العراقي في جديده «نصف قمر» (110 دقائق)، حيث تقف الحدود مثل نصل جارح يمنع الوحدة العاثرة تاريخياً، فلا يتبقّى للكرديّ سوى سرمدية المحاولة في العبور نحو القريب الذي زادت السياسة والحروب وأعوان شرطة الحدود من ابتعاده ونأيه. يقف قوبادي في «نصف قمر» (الحائز على «المحارة الذهبية» في «مهرجان سان سباستيان» في إسبانيا، وكان فيلم افتتاح الدورة الرابعة لـ«مهرجان الفيلم الكردي» في لندن مؤخراً) على طرف الحكاية، التي ظّن قبل عامين في «السلاحف يمكن أن تطير» (2004) مع تصويره الاجتياح الأميركي لأرض الشمال العراقي عبر تركيا أنها صيرورة الدولة الموعودة، لنجده في «قمره» قالِباً الأدوار عبر مساعي الموسيقي والمطرب الشعبي العجوز مامو في العبور الى ما يصطلحون على تسميته بـ«كردستان الجنوبية»، كي يؤدّي أغانيه ووصلاتها الى أقرانه العراقيين قبل أن يخطفه الموت. إن فكاهة الحكاية في الفيلم السابق غلّفت، بمُكر سينمائي، نيات قوبادي في التأكيد على أن مصير الكردي سيكون في يديه، لذا نرى البطل الصبي الملقب ستالايت وهو يركض بين جنود الإحتلال، أو لاعباً فوق المخلّفات الصدئة لجيش صدام، من دون أن يشير ولو مرة واحدة إلى أن لُعب الإطاحات السياسية ربما لن تضمن وعد الوطن، أو أن تُحقّق فَرَجَه.
- الثلاثية السينمائية لقوبادي (وقبلها رائعته «زمن الجياد الثملة»، 2004) تؤكّد أن الكردي في قتال أزلي مع حدوده، وأنه هو صاحب المنازلة الدؤوبة مع الموانع التي تصده عن تحقيق «الجماعية الكردية» المتمثّلة بالمراجع السلطوية المحيطة بالدولة المستحيلة. لذا، سيعي مشاهد أفلام قوبادي مغازي «الجيلانات» (الرحلات) التي يقوم بها أبطاله المنذورون الى «عذاب سيزيفي» قدري يجعل منهم «بدو جبال» يحملون حلماً عنيداً (أشارت إليه بحذاقة عالية المخرجة سميرة مخملباف في فيلمها الإشكالي «السبورات») لا راد له. أما سؤال كيفية تحقيقه، فجوابه زمني بحت: يبقى الكردي دائراً إلى أمد بعيد حول أسئلة الهوية وأرضها، والاستقلال واعترافه، والدولة ومؤسّساتها.
لئن فلح صبي «السلاحف يمكن أن تطير» في إمتاع شيوخ القرية بصُوَر سقوط نظام بعث بغداد عبر قناة فضائية أميركية، فإنه غير آبه بضجيجهم. كيانه موسوم بولهه بالصبية أغرين الصموتة (تورية ملتبسة للوطن المكتوم) التي تجول مع طفل صغير هو نتاج اغتصابها من قبل جنود صدام، ومعهما شقيقها الشاب الذي فقد ذراعيه في انفجار لغم لا بدّ أن أولئك الجنود قد زرعوه. ستلايت وصبيته مهجرّان يرتزقان عبر بيع ألغام الجيش العراقي الى فرق الأمم المتحدة. هو المعزّز بشلّته من الزعران وهي المكلّومة بعارها الداخلي الذي سيقودها الى أنتحار متأخر. فالرذيلة التي توصم رمز الوطن لا يجب أن تُعمِر. فأن نراها عند حافة هاوية وهي مشرعة على تغييبها الأرادي, وقبلها توهان طفلها بين الألغام, هو الفعل اللازم الذي يبرر فرحة ستلايت لمجنزرات الأميركيين وهي تحرث أرض كردستانه وأن يمشي في محاذاتهم عسى أن يكون الخلاص قد جاء مع خوذ المارينز ومهمتهم العصية.
يعبر ستلايت حدود الداخل. فهذا المهجر لا يعرف إن كانت عودته، إن تحقّقت، الى قريته ستجلب فأل استقراره النهائي أم لا. من هنا، بان جلياً أن قوبادي نفسه لا يعرف الجواب، وعمد الى إغلاق فيلمه على منظر سير بطله بين جنود الاحتلال، الذي قد يكون مؤشراً الى تيه آخر متواصل.
- في المقابل، فإن شخصيات «زمن الجياد الثملة» تعبر الحدود من أجل تهريب حوائج وأسلحة و... بشر. إنهم تجار، لا شفاعة لهم سوى الطرف الثاني كضامن اقتصادي. وكي يصلوه، عليهم أن يطوّعوا قسوة الله الطبيعية ويشجعوا بغال هجراتهم الضمنية (باعتبار أن أرضهم واحدة) على مقارعة البرد القارص، بإرغامها على كسر عطشها إيراد ماء مخلوط بالويسكي! لكن، هذه ليست الحكاية كلّها، إذ إن المُعاق الصغير مهدي سيتحوّل الى نُذر عائلي يجب على شقيقه أيوب أن ينجح في تهريبه الى الطرف العراقي كي يجتاز علّته بعملية جراحية (في فيلم مخملباف، هناك عجوز كردي مع الجموع التي أُغُصبت على الرحيل، يعاني عسر تبوله). إن درامية هذه الشخصية المحورية (أيوب) تتلّبس رداء مختلفاً وتجسيداً لا يبتعد كثيراً عن صفته كمرتحل يسعى إلى الحصول على خلاص شخصي عبر البطل الموسيقي والمغنّي في فيلم «أغنيات الى وطني» (نصادف امتداده لاحقاً في «نصف قمر»)، ويتشبه بالأول في عزمهما على اجتياز التخوم. ولأجل تحقيق ذلك، يقطعان مسافات شاسعة. المعاق على ظهر بغل حرّون والعجوز على مقعد دراجة نارية. الناصع في الهجرتين أن جماعية العائلة هي التي تقود الإرادات ذات الشكيمة القوية في إذلال العوائق. ميرزا العجوز يُجبر ولديه البالغين بارات وعودة على السفر معه نحو حدود العراق سعياً الى معرفة مصير زوجته المغنية الشهيرة هاناه، التي مُنعت من الغناء في إيران وتوجّهت الى بلدات أكراد العراق كي تحتفي بالإرث الشعبي من دون موانع. العجوز مامو (أداء قوي لإسماعيل غفاري) بطل «نصف قمر»، هو الوجه الآخر لميرزا والمكمل الدرامي لجيلانه ومساعيه بحثاً عن نصف زيجته (في حالة مامو هو الصوت لا جسد الزوجة). هنا، يقرّر المغني الهرم، الذي يرى دنو موته منه، لمّ شمل أولاده الموسيقيين العشرة والتوجّه صوب كردستان الجنوبية ليختتم مشواره الفني في أداء أجمل آثاره الغنائية والموسيقية أمام جمهور العراق الكردي، نقصه الوحيد صوت ملائكي لمغنية منفية تدعى هيشو.
بعد عناء، يرحل الجمع في حافلة يقودها كاكو الكردي المتحمس الذي يصوّر الوقائع بكاميرا ديجيتال، نكتشف لاحقاً أنها خالية من الأشرطة. ذلك الهدف (المرأة) يسقط من السماء فوق سقف الحافلة. فلا حل قميناً بتحقيق وصية ميت مؤجل سوى الفردوس الكردي الذي لا حدّ له ولا تخوم. بيد أن بصاصي الحدود الإيرانيين يكتشفون مخبأ هيشو ويعيدون اعتقالها. تُهشّم الآلات الموسيقية، ويهرب الأبناء متخلّين عن الأب الغضوب والشتّام الذي يدخل في معركة تشبه معركة الديوك التي افتتح بها قوبادي مشاهد فيلمه الأخّاذ هذا.
- مامو هو العناد الكردي الشهير. ما أن يُمنع من منفذ إلاّ ويجد حلاً سحرياً يقوده لاستكمال رحلته/قدره. هذه المرة، ستكون على يد صبية حسناء تُدعى «نصف قمر»، كنا رأيناها تحاذي مسيره الى تلك القرية النائية التي تستعمرها 1334 مغنية منفيات وممنوعات من الغناء حسب أعراف الثورة الخمينية، سيستقبلنه، في مشهد صاعق بجماليته وطلقه الإنساني (تصوير حسّاس للمحيط الجبلي من توقيع نايجل بلوك وكريتون بوني) بالدفوف والأغاني الممنوعة وهن مرصوفات فوق سطوح البيوت الطينية.
وحدها الصبية الضحوك تؤدي طقس موت مامو المتوّحد والفاشل في استكمال وعده. يرقد في تابوت منتظراً نظرة الرب التي تجعله خالداً في رحاب الذاكرة الكردية، باعتباره رمزاً حيوياً للنية غير المستكفاة. وماذا عن وجهته؟ أيضاً، وعلى الرغم من رحيله، تسحب نصف قمر، بجَلَد نادر لا يتوافر إلاّ في كيان جبار متخيل، تابوته وتعبر به ثلوج الحد الأخير. فمثوى مامو الناوي على إنهاء حياته بين جمهور لم يستعرض وإياه تراثه الموسيقي منذ 35 عاماً، يجب أن يكون في ثرى العراق البعيد. من هنا، تُبرر المقطوعات الموسيقية القصيرة التي بثها قوبادي في ثنايا الفصول كونها في واقع الحال ترنيمات مسبّقة لرحيله. (إن فيلم «نصف قمر» هو تلوين سينمائي استوحاه قوبادي من مقطوعة «قداس» للموسيقار النمسوي فولفانغ موتسارت، بتكليف أوروبي بمناسبة مرور 250 سنة على ميلاده).
يصّر قوبادي في أحاديثه على أنه لا يرغب في السياسي، وخطابه ضمن قراءة أفلامه. لكن حكاياته العائلية المتخمة بالتفكه الصافي (ما عدا «زمن الجياد الثملة»، الذي حمل فواجع أيوب الى النهاية الأليمة لشقيقه المعاق)، لا تني من وضع السؤال الكردي المسيّس في الواجهة النقدية. فالعزلات المفروضة على أبطاله تُستكَمل ما بين إرادة الجغرافيا التي جعلت السياسة من أوصالها المتعددة عُرفاً دولياً لا يرغب في جمع دولتها القومية بسهولة وأنصاف. وبقدر ما أن المخرج قوبادي (ولد عام 1969 ويعد عمله الوثائقي «العيش في الضباب» الأشهر في السينما الإيرانية، قبل أن يعمل مساعداً لكياروستامي)، استفاد من جيلانات أبطاله في «كردستاناته»، فإن غرضه جلّي: القوماني الكردي متوحّد في احتفائه بالحياة على الرغم من استنزاف أمته التي تعوّدت الحروب وسبيها الدموي الذي كاد يتخذ شكل الدائم، لولا الخيمة الأميركية التي مدّت السياسي الكردي في العراق، الى حين، ببصيص أمل انفصال وتشكّل ملامح الدولة التي تواجه ناقص عمقها الاستراتيجي اللازم والضروري لديمومتها.
زياد الخزاعي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد