هل تهاجم الولايات المتحدة الأمريكية إيران؟
عقد رئيس الوزراء الإسرائيلي منذ أيام مؤتمرا صحفيا عرض فيه “أدلة” تثبت أن طهران تواصل برنامجها النووي لامتلاك أسلحة نووية، وعلى الرغم من الكوميديا المحيطة بتلك “الأدلة” التي بدت وكأنها جميعا تأتي تحت لافتة كبيرة “إيران تكذب”، إلا أن العالم تابع ذلك المسلسل باهتمام وهو يخمّن ما إذا كانت تلك الكوميديا كافية كي تبدأ الأعمال العسكرية ضد إيران بعد يوم 12 مايو الجاري، التاريخ الذي ينوي فيه ترامب الخروج من الاتفاق النووي مع إيران.
كان لي نصيب أن أعيش في الاتحاد السوفيتي قبل انهياره، لذلك أعرف جيدا السبب في ذلك، وهو ما يجعلني أرى بكل وضوح أن الولايات المتحدة في الوقت الراهن أصبحت صورة طبق الأصل من الاتحاد السوفيتي قبيل انهياره، وهو وضع خطير بالنسبة للجميع، وبخاصة بالنسبة للشرق الأوسط.
كان السبب الرئيسي في انهيار الاتحاد السوفيتي إلى جانب المشكلات الاقتصادية التي كان يعاني منها، هو فقدان الشعب السوفييتي للثقة.. ليس بالقيم الاشتراكية وحدها، وإنما بكل شئ يصرّح به القادة السوفيت، وكل ما تبثه آلة الدعاية الرسمية. إن ما أنهك الشعب السوفيتي حقيقة هو الكذب اليومي، فلم يعد يصدّق حتى الحقيقة، التي أحيانا ما يصرّح بها قادته، ولم يكن الشعب وحده في ذلك، بل شاركه في ذلك الجيش والمخابرات السوفيتية (الكي جي بي) والنخب وحتى الزعماء الشيوعيين.. لم يعد أحد يصدق القادة، فكانت النتيجة المنطقية أن أحدا لم يبادر بإنقاذ الاتحاد السوفيتي من الانهيار، على الرغم من وجود القوى اللازمة للحيلولة دون ذلك.
عقد منذ أيام مؤتمر في المقر الرئيسي لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية في لاهاي، تضمن المؤتمر اعترافات شهود العيان المشاركين في الفيديو المفبرك لواقعة “الهجوم الكيميائي” على دوما، والذي اتخذ كذريعة للعدوان الثلاثي على سوريا، قاطع المسؤولون الغربيون وكذلك الصحافة الغربية هذا المؤتمر، وكأن هؤلاء الشهود لا وجود لهم.
بالتزامن مع ذلك أجاب رئيس منظمة حظر الأسلحة الكيميائية على شخص روسي انتحل شخصية مسؤول غربي وسجّل المكالمة من باب الدعابة بقوله ان “السم الذي تجرعه العميل المزدوج سركيبال في بريطانيا، من الممكن أن يكون من صناعة أي دولة، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية نفسها”، وتجاهلت الصحافة الغربية هذه الشهادة أيضا.
في نفس السياق نشرت محكمة التحكيم الرياضية الدولية شهادة غريغوري رودتشينكوف والرئيس السابق للوكالة العالمية لمكافحة المنشطات ريتشارد ماكلارين، التي أنكرا فيها البيانات التي أدليا بها سابقا ضد روسيا، والتي استندت إليها اللجنة الأوليمبية الدولية في منع الكثير من الرياضيين الروس عن المشاركة في الأولمبياد، وكان رد فعل الصحافة الغربية أيضا هو الصمت.
في الوقت نفسه نشر في الولايات المتحدة الأمريكية تقريرا رسميا، ليس الأول من نوعه، يعترف بعدم وجود أي مؤامرة بين بوتين وترامب.. ولا شئ في الصحافة الغربية.
قبل ذلك صمتت الصحافة الغربية وكذلك المسؤولون الغربيون صمت القبور، حينما اعترف القناصة الجيورجيون بأنهم أطلقوا النار على الشرطة والمتظاهرين في آن واحد، أثناء أحداث الميدان في أوكرانيا، بأوامر من زعماء الانقلاب الممولين من الولايات المتحدة الأمريكية، وهي التهم التي اتهم بها الرئيس الأوكراني الشرعي فيكتور يانوكوفيتش.
كما نشر بعض القراصنة على موقع يوتيوب تسجيلا للحديث التليفوني بين نائب وزير الخارجية الأمريكي وفيكتوريا نولاند سفيرة الولايات المتحدة في أوكرانيا، بينما ناقشا تفاصيل الانقلاب ضد السلطة الشرعية في أوكرانيا، والأسماء المحتملة لرئاسة الوزراء هناك، ولم تنبس نولاند أو الصحافة الغربية ببنت شفه.
وقبل ذلك كانت فضيحة رقابة الفيسبوك على مستخدميه، ثم قمع مظاهرات السود في الولايات المتحدة الأمريكية، وسنودن والرقابة الشاملة للأجهزة الأمنية في الولايات المتحدة الأمريكية على كافة المواطنين الأمريكيين، بل ومواطني جميع الدول، وقبلها كان التعذيب في سجون أبوغريب وغوانتانامو والسجون السرية لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وقبلها كانت “الأسلحة الكيميائية في العراق”.
إن الولايات المتحدة الأمريكية دائما ما تنصّب نفسها قائدة “للعالم الحر”، ونموذج الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم، لكن من تنطلي عليه هذه “الحقيقة” اليوم لابد وأن يكون أحمقا بلا عقل، والأسوأ بالنسبة للولايات المتحدة والغرب بشكل عام، هو أن مواطني الدول الغربية أنفسهم لم يعودوا يصدقون ذلك، لتتحقق في الغرب أحد الأسباب الرئيسية في انهيار الاتحاد السوفيتي، وليتحول ذلك إلى تسونامي مدمّر يقترب فعليا من الشاطئ. وإذا كانت الفضائح على غرار أبوغريب تحدث مرة كل عدد من السنوات، فإن نصف العام الماضي وحده حمل ما لا يقل عن عشر فضائح مماثلة بحجم فضيحة سجن أبوغريب، اتضح فيها جميعا بما لا يدع مجالا للشك أكاذيب الغرب، وعجزه عن التستر عليها.
لقد كان الغرب في الماضي قادرا على إخفاء أكاذيب مماثلة، إلا أن عصر الإنترنت اليوم ومع وجود العديد من البدائل للقنوات التلفزيونية الرسمية مثل RT، تسبب في فقدان الغرب لاستحواذه على المعلومة، وفي الوقت الذي يكذب فيه الغرب في كل خطوة يخطوها، أصبح نقل الحقيقة، والإشارة إلى المواضع التي يكذب فيها الغرب فسحب، كافيا لنجاح منقطع النظير لآلة الدعاية الروسية.
من أحد المحددات الدقيقة للوضع الثوري كما قال فلاديمير لينين، هو حينما تعجز النخب عن الحكم بأساليب الماضي، بينما يرفض المجتمع أن يعيش كما كان يعيش في الماضي، ويظهر على الساحة حزب ثوري قادر على قيادة الثورة. فيما يتعلق بالموقف الراهن، فلم يعد الغرب قادرا على أن يحكم العالم بمناهجه القديمة، كما أن المجتمع بدوره يتجه بعزم نحو الانفجار.
وهنا يصبح لجوء الغرب إلى الكذب المفضوح واستخدام أساليب الاستفزاز المستمر شاهدا على فشل أدواته الأقل وطأة، تلك هي أزمة الغرب وسلطته مع العالم، فلم تعد الأساليب القديمة تصلح. لذلك فإن محاولات الحد من حريات الصحافة في الغرب، بما في ذلك حجب قنوات RT، وهي محاولات فاشلة تتصاعد حدتها مع الوقت، تعبّر عن أزمة السلطة مع العقل، تعبّر عن أزمة في الأيديولوجيا، فالغرب لم يعد يميّز الفرق لا بين ما يفكر فيه الأرجنتينيون أو العرب أو الأندونيسيون فحسب، بل لم يعد يميز الفرق بين ما يفكر فيه مواطنيه أنفسهم، وسوف تؤدي أزمة الدعاية الغربية إلى أن يعتمد الغرب بشكل أكبر على القوة العسكرية، دون أن يهتم بالمنظر العام، متجاهلا فشل دعايته، ودون أن يلتزم بالحد الأدنى من اللياقة.
قد يبدو ذلك أمرا ناجحا، فالولايات المتحدة الأمريكية تمتلك أقوى جيش في العالم، وبعيدا عن الدول النووية، فإن بإمكانها تدمير أي دولة في العالم دون الالتفات إلى شكاوى الضحايا بشأن عدم التزام أمريكا بالديمقراطية أو حقوق الإنسان، لكن أزمة الداخل الأمريكي لن تصلحها القوة، لقد كان الاتحاد السوفيتي هو الآخر دولة عظمى ذات قوة عسكرية هائلة، لكن ذلك لم ينقذه من مصيره. وكذلك نموذج العالم اليوم.. نموذج منهار، فزعامة الولايات المتحدة الأمريكية والغرب أصبحت جزءا من الماضي، ولم يعد الغرب تلك القِبلة التي تسعى إليها الشعوب الأخرى، والأزمة بداخل الولايات المتحدة هي أزمة شاملة، داخلية وخارجية واقتصادية وأيديولوجية، لذلك لم يتبق للولايات المتحدة سوى القوة العسكرية، التي لن تتمكن بدورها من إنقاذ الانقسام الداخلي الذي يشتد على كافة الأصعدة بما في ذلك الصعيد العرقي، وصعيد الديمقراطيين والجمهوريين، وكذلك عدم ثقة الشارع الأمريكي في الصحافة وفي السلطة وفي أي أحد أيا كان.
لعل قليل من العرب من يعرفون أن متوسط الأعمار في الولايات المتحدة الأمريكية قد بدأ في الانخفاض، وأنه من الملاحظ انتشار وباء الأفيون، وكل ذلك من مظاهر الأزمة الداخلية التي تحتاج إلى وقت حتى تصل إلى ذروتها، لكن معدل الكذب والادعاء والاستفزاز يبرز كيف يتسارع إيقاع تطور الأزمة.
إن النخب الأمريكية تحسّ بهذه الأزمة، لكنها لا ترى مخرجا منها، من هنا يصبح من المنطقي ظهور شخص شعبوي مثل ترامب بكل ما يحمله من تخبط، وهو يغيّر وجهة عدوانه كل أسبوع، من سوريا إلى كوريا الشمالية إلى إيران ثم إلى روسيا، وهكذا دواليك بينما يكرر تلك الدائرة عددا من المرات. كما أن هناك الاقتصاد الذي يوشك على الانهيار، وهناك الصين التي تلوح في الأفق، وروسيا. تتكاثر الأزمات، وهناك عجز عن التعامل معها، وكل شيء يخرج عن السيطرة، ليس هناك وقت للدعاية، لابد من اللحاق بالرد من خلال القوة العسكرية، فحينما تغرق الولايات المتحدة الأمريكية في الأزمات، تتزايد لدى النخب الأمريكية رغبة في حل الأمور بالطريقة الأفضل، التي لازالوا يجيدونها أكثر من أي شئ آخر.. بالقوة العسكرية.
لذلك نرى هذا القدر من العدوانية في سياسة الولايات المتحدة الأمريكية، فأمريكا تحتاج إلى حرب، على الرغم من أن الحرب لن تنقذها. سوف تكون إيران المرشح الأول للعدوان بعد تجميد الأزمة الكورية، بفضل مجهودات اللوبي الإسرائيلي، وفريق ترامب، وترامب نفسه. لقد تمكنت كوريا الشمالية من تجنب العدوان، وإظهار قدر من الصلابة.. فهل تتمكن إيران من ذلك؟ إن غدا لناظره قريب.
على كل الأحوال، فإنني أعتقد أن الأزمة في الولايات المتحدة الأمريكية تصل إلى مراحلها النهائية، وهي مرحلة قصير بمقاييس تاريخ الأمم قد تمتد إلى عدد من السنوات، وربما عقدين، لكنه من الواضح أن ما ينتظر الولايات المتحدة الأمريكية نصيب لا تحسد عليه، بصرف النظر عن صعود الصين. في الوقت نفسه قد تتمكن الولايات المتحدة الأمريكية من سفك بحر من الدماء الأجنبية قبل انهيارها، إذا لم يتمكن أحد من إيقافها.
المحلل السياسي ألكسندر نازاروف
إضافة تعليق جديد