تأبين الربيع العربي في دمشق
علي فواز:
منذ سنوات، قضى “الربيع الأميركي” في سوريا المُسمّى اصطلاحاً بـ”الربيع العربي”. موته المتيقّن تأكّد عند أسوار دمشق وحلب، لكن جثته بقيت في الثلاجة. زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى الشام بدلالاتها ورمزيتها تمثّل تشييعاً رسمياً من حليفين استراتيجيين لهذا المولود المُستنسخ من جينات “الثورات المُلوّنة”. لكن الأمر لا يتوقف هنا.
مرّ الكثير على سوريا وما زالت تعاني من تبعات الحرب الكونية ضدّها. أكثر من 12 عاماً كانت كفيلة لمن أراد، أن يدرك أدوار اللاعبين الإقليميين والدوليين وغايتهم، وحقيقة الهجمة غير المسبوقة على هذا البلد العربي. كان في صلب الهجوم استهداف سوريا بموقعها وهويتها وتحالفاتها، وباعتبارها ركناً أساسياً ومحورياً في حلف القدس. لا يعني ذلك على الإطلاق عدم أحقية المطالبات الشعبية التي انتفضت قطاعات وشرائح واسعة من الشعوب العربية لتحقيقها، بدءاً من تونس مروراً بمصر وليبيا واليمن والبحرين وصولاً إلى سوريا.
في مرحلة مبكرة من “الربيع السوري”، عبّر برهان غليون، رئيس ما كان يُعرف بـ”المجلس الوطني السوري”، عن حقيقة موقف أولئك الذين أرادوا إسقاط النظام والدولة، وسعوا إلى اختزال مطالب جزء واسع من الشعب ومصادرتها وتحويرها.
مثّل غليون وقتها الوجه المعتدل والعلماني لتحرك لم يطل الأمر كثيراً قبل أن يكشف عن جوهره وطبيعته، ويحتّل المشهد وكلاؤه الحقيقيون. لم يكن حزب الله حينها، ولا أي من المستشارين الإيرانيين، أو الفصائل التي قاتلت أدوات أميركا، قد انخرطوا في معركة الدفاع عن سوريا. رغم ذلك، تعهّد غليون أواخر العام 2011 بقطع علاقات دمشق مع إيران وحزب الله وحماس عند تولي “المعارضة” حكم سوريا.
في مقابلة مع صحيفة “وول ستريت جورنال” قال غليون: “لن تكون هناك علاقة مميزة مع إيران، وقطع العلاقة الاستثنائية يعني قطع التحالف الإستراتيجي العسكري”، مضيفاً أنه “بعد سقوط النظام السوري، لن يبقى حزب الله كما هو الآن”.
خلال انهماك محور المقاومة في الدفاع عن سوريا طوال “عشرية النار”، حاولت “إسرائيل” أكثر من مرة استغلال الظروف والاستفراد بالجبهات الأخرى. خاضت ضد غزة حربين؛ عام 2012 استمرت 8 أيام، وعام 2014 استمرت 51 يوماً. فشلت في القضاء على جذوة المقاومة وتركيع غزة.
لكن، مع لبنان، بقيت الجبهة هادئة، رغم فرصة الانقضاض على حزب الله الذي خصص وقتها جزءاً من موارده وعديده في الدفاع عن سوريا ضد الجماعات الإرهابية والتكفيرية.
ماذا لو كانت “إسرائيل” تعلم مآلات الحرب على سوريا والنتائج التي ستتمخّض عنها، والتي اختزلتها منذ أيام بشكل مكثّف صورة اجتماع الرئيسين السوري والإيراني؟ هل كانت لتشنّ حرباً على حزب الله في لبنان أثناء ذروة انشغاله في القتال بسوريا؟
يجد السؤال مبرّراته انطلاقاً من المعطيات التالية:
أولاً، لماذا حزب الله؟ ببساطة، لأنه يشكّل رأس الحربة المتقدّم الأكثر خطورة على المشروع الصهيوني، بما لديه من إمكانات ومساحة عمل غير متوفّرة في الجبهات الأخرى المحيطة بـ”إسرائيل”، وكونه ساهم بشكل أساسي وفاعل في مواجهة الجماعات الإرهابية في سوريا، وبما له من دور في دعم الجبهات الأخرى، خصوصاً داخل فلسطين التاريخية.
مدى خطورة الحزب على “إسرائيل” جلّاها، من بين عدد من الأدلة، وزير الأمن الإسرائيلي السابق بني غانتس في آذار/مارس 2021. في أول تصريح رسمي من نوعه أقّر وقتها الرجل، الذي شغل سابقاً منصب رئيس هيئة أركان “جيش” الاحتلال، بأن الصواريخ الدقيقة التي يمتلكها حزب الله تشكّل في مرحلة من مراحل تطورها كمّاً ونوعاً، “خطراً وجودياً على إسرائيل”.
ثانياً، انتقال مفهوم “وحدة الساحات” في غضون فترة قصيرة لا تتعدى العامين، من إطار الترابط بين الساحات داخل فلسطين المحتلة إلى الإطار الإقليمي الأوسع ليشمل كل جبهات محور المقاومة، بموازاة تآكل الردع الإسرائيلي معطوفاً على حاجة إسرائيلية إلى كسر قواعد الاشتباك الجديدة. قواعد دشّنتها الصواريخ المنسوبة إسرائيلياً إلى “حماس”، والتي انطلقت من جنوبي لبنان الشهر الفائت، وجاء الرد عليها باهتاً.
ثالثاً، ازدياد جرأة حزب الله بتعبير الطرف الإسرائيلي. تجلّت هذه الجرأة وفق معلقين ومسؤولين سابقين إسرائيليين في التدرّج من إرسال المسيّرات في اتجاه حقل كاريش، والتي سبقتها مسيّرات أخرى، ثم في عملية مجيدو التي يعزوها هؤلاء إلى حزب الله من دون أن يجرؤ على تبنّيها المستوى الرسمي إذا صحّ ادعاؤه، وصولاً إلى كون الحزب مُتهماً أيضاً من قبل الأوساط الإسرائيلية بأنه على صلة بعملية إطلاق الصواريخ من جنوبي لبنان خلال شهر رمضان المنصرم، إن لم يكن بشكل مباشر، ففي الحد الأدنى تسهيلاً أو بعلم مسبق.
رابعاً، تعاظم قدرات الحزب وتعزّز تسليحه كمّاً ونوعاً وعديداً، حتى بات يمتلك أسلحة كاسرة للتوازن، لم يكن يملكها على الأرجح بهذا الحجم عند بداية “عشرية النار” في سوريا، وفي خضمها. اليوم، يقف الطرف الإسرائيلي مردوعاً أمام معادلات القوة التي أسس لها حزب الله، ويبحث عما يمكن أن يكون في حوزته، إضافة إلى الصواريخ الدقيقة والمسيّرات والمنظومة البحرية التي كشف عنها خلال الفترة التي سبقت ترسيم الحدود البحرية.
خامساً، وفق مقاييس الكلفة والجدوى التي تشكل قاعدة مرجعية في العقل الإسرائيلي، ألم تكن كلفة الحرب على حزب الله وقتها لتكون أقل بكثير من أي حرب قد تضطر “إسرائيل” إلى خوضها مستقبلاً مع الحزب؟
بناء على ما سبق، الجواب المنطقي هو نعم
في الجدوى، ألم يكن أجدى في ذلك الوقت القيام بهذه المغامرة انطلاقاً من انهماك الحزب وانشغاله في سوريا، وانطلاقاً من الظروف الدولية السانحة، حينما كانت تُهاجم سوريا عسكرياً وسياسياً وإعلامياً، وكل من يقف إلى جانبها؟
الأرجح هو نعم، خصوصاً قبل الانسحاب الأميركي من أفغانستان وانشغالها اليوم في معركة ضد الصين وفي حرب بالوكالة ضد روسيا.
يمكن الافتراض أن “إسرائيل” كانت أمام فرصة أقل الخسائر الممكنة لتقليص المخاطر المُحدقة التي تتربّص بها اليوم، وفكّ عقدة “وحدة الساحات” قبل تحقّقها، عبر عمل استباقي. هذه الفرصة المُفترضة لم تعد سانحة اليوم ولا في المستقبل على الأرجح. بات هذا الأمر متعذراً بفعل اختلال توازن الردع ومعادلات القوة التي تنامت من جانب المقاومة في لبنان، إلى جانب التطورات الخطيرة داخل “إسرائيل” والتحوّلات في البيئتين الإقليمية والدولية.
لماذا إذاً لم تقدم “إسرائيل” على ذلك؟
انطلاقاً من قاعدة الجدوى والكلفة نفسها، لم تكن “إسرائيل” وقتها تضمن تحقيق أي نصر عسكري بائن من دون أن تدفع كلفة عالية في ما لو شنّت مثل هذه الحرب، وإلا لكانت أقدمت على ذلك. مع بداية العقد الثاني من القرن الحالي، كان حزب الله رمّم قوته العسكرية بعدما خرج منتصراً من حرب 2006. لم تكن “إسرائيل” إزاء ذلك واثقة من إمكان تحقيق ما عجزت عنه خلال حرب الـ 33 يوماً ضد لبنان، عدا عن أن تجربة جولتي عام 2012 وعام 2014 ضد غزة جعلتها تجمع ما يكفي من دروس وخلاصات وتقيسها مع ما يمكن أن يحدث في أي اعتداء على لبنان.
لكن الأهم من ذلك هو الرهان الذي كان يبدو واعداً وقتها على استنزاف المقاومة في سوريا، وجعلها تغرق وكل محور القدس في مستنقعات الشام وحلب وحمص والبادية وصولاً إلى العراق. أحد أهم جوانب مشروع “الربيع” تمثّل بتفتيت سوريا وتقسيمها وإشاعة الفوضى والحرب المذهبية، بما يؤدي عملياً إلى كسر ركن أساسي من أركان محور المقاومة، ويتيح لاحقاً الاستفراد بكل جبهة على حدة وصولاً إلى طهران.
لو نجح المشروع فإن وعيد برهان غليون كان سيتم وضعه على سكة التنفيذ. في مرحلة ما، كان سيتم الانقضاض على المقاومة في لبنان بعد قطع شريانها الحيوي الممتد من طهران إلى بيروت، وبعد تدمير رئتها الدمشقية التي تمثّل عمقها الاستراتيجي. وكذلك الحال بالنسبة إلى سائر جبهات المقاومة من فلسطين وصولاً إلى طهران.
تشاهد “إسرائيل” ما يحدث اليوم وهي غارقة في شتائها الطويل:
طهران تجاوزت قطوع “الربيع الإيراني”، وآخر محاولات الحروب الناعمة والهجينة. “أنصار الله” خرجت منتصرة من “الربيع اليمني”. حزب الله أدار معركة “الربيع اللبناني” وخرج منها بأقل الخسائر الممكنة، رغم ما يُؤخذ على أدائه في الملف الداخلي. “حماس” عادت إلى سوريا بعد أعوام الفتنة والخطيئة.
تراقب “إسرائيل” وهي غارقة في شتائها تقلّب الأحوال والفصول، وقد التقطت أحد جوانب زيارة رئيسي الذي قال بنفسه إنها تأتي في إطار دعم جبهة المقاومة.
اليوم، تبدو المتغيرات التي تتعلّق بمحور المقاومة أقوى وأشد من معركة “إسرائيل” بين الحروب. لهذا السبب، يصبح مفهوماً منسوب القلق الإسرائيلي من الزيارة التي تم التعبير عنها في الإعلام الإسرائيلي على أنها احتفاء بـ”انتصار”.
اللواء في الاحتياط عاموس غلعاد يقول إن الزيارة ترمز إلى أن الإيرانيين في ذروة ارتياحهم “فلديهم خرق العزلة، ويرون إسرائيل وهي تدمر نفسها”.
حيزي سيمانتوف، معلق الشؤون العربية في القناة 31 يذهب أبعد من ذلك ويقول إن “الزيارة تعبّر عن العهد الإيراني الجديد في الشرق الأوسط. عهد هم فيه أكثر جرأة ومخاطرة بعد الإسناد العربي والحرب في أوكرانيا والانقسام في المجتمع الإسرائيلي”.
لا يبتعد المعلق العسكري في القناة 12 نير دفوري عن هذا المنظور كثيراً، إذ يرى أن جزءاً من الزيارة هي “من أجل تعزيز وإعادة بناء محور الشر الذي يبدأ بطهران وينتهي في بيروت وتشكيل الائتلاف حول إسرائيل”.
لكنّ روعي كايس، معلق الشؤون العربية في “قناة كان”، يلتفت إلى شيء آخر، إذ يرى أن الرسالة الأهم من ناحية هذا المحور في إيران وفي سوريا محاولة القول “إننا انتصرنا”. ويضيف: “كان الربيع العربي والتمرد على النظام السوري ودول وقفت ضدنا، وعقوبات، ونحن رغم كل ذلك، ما زلنا واقفين على أرجلنا وتحالفنا الاستراتيجي لا يمكن كسره”.
مشاهد استقبال إبراهيم رئيسي في دمشق تمثّل برمزيتها، ليس فقط تشييعاً لـ”الربيع الأميركي” المستورد والمُستنسخ، إنما بداية ربيع آخر من رحم المنطقة هو “ربيع فلسطين”.
الصورة ليست إلا تعبيراً مُلوناً عن حقيقة أخرى: انتقال حلف القدس من مرحلة الدفاع الاستراتيجي خلال “عشرية النار”، إلى محطة متقدمة من الهجوم الاستراتيجي بالتزامن مع “شتاء إسرائيل”.
الميادين
إضافة تعليق جديد