كيف نقرأ انتفاضة العشائر العربية شرقيّ سوريا؟
لم يفاجأ أصحاب القرار في الولايات المتحدة ألأميركية بالصراعات بين العشائر العربية ، وميليشيات سوريا الديموقراطية ، إذ أن عدة تقارير أميركية قد حذرت من حدوث ذلك.
وقد ورد أحد أبرز تلك التحذيرات في “التقرير النهائي لمجموعة دراسة سوريا” Syria Study Group Final Report، الصادر في 24/9/2019 عن لجنة وكّلها الكونغرس الأميركي رسمياً بوضع استراتيجية أميركية عامة في سوريا، رداً على إصرار الرئيس السابق دونالد ترامب على الانسحاب منها.
و توصّلت تلك اللجنة، المكوّنة من ممثّلين بارزين للحزبين الديمقراطي والجمهوري في الكونغرس، إلى ضرورة تعزيز الدور الأميركي في سوريا سياسياً وعسكرياً، من أجل: مواجهة “عودة داعش”؛ تصاعد النفوذين الروسي والإيراني؛ سعي نظام إردوغان لاجتثاث “قسد”؛ وحالة الانفلات المحتملة نتيجة إساءة تعامل “قسد” مع الأغلبية العربية في المناطق التي تسيطر عليها.
بينما تلخّص الفقرة السابقة ما أوردته عن ذلك التقرير (وغيره) في مادة “ماذا تريد الإدارة الأميركية من سوريا؟”، في الميادين نت في 3/1/2023، لمن يرغب بالاستزادة. وكان واضحاً، منذ نشر ذلك التقرير على الأقل:
أ– أنّ “عودة داعش”، أو إعادة تفعيل التنظيم في سوريا، باتت حاجة داخلية أميركية للدولة العميقة في الولايات المتحدة، كي تبرّر استمرار احتلالها للمنطقة الشرقية، في مواجهة نزعة تيار ترامب للانسحاب منها.
ب– أنّ “تصاعد النفوذ الروسي”، بحسب ذلك التقرير المنشور عام 2019، كان يُقرأ أميركياً بعدسة احتدام الصراع الدولي، حتى قبل أزمة أوكرانيا.
ج– أنّ “تصاعد النفوذ الإيراني”، بحسب التقرير ذاته، كان يُقرأ بعدسة الصراع الإقليمي، ومن وجهة نظر ميزان القوى مع العدو الصهيوني.
د– أنّ الصراع بين نظام إردوغان و”قسد” كان يُقرأ أميركياً بعدسة الإخلال بمعادلات الساحة السورية لمصلحة المشروع التركي، في حين أن المطلوب أميركياً بقاء حالة توازن القوى بين “قسد” والنظام التركي وأدواته على الأرض السورية، بما يخلّ بتوازن الدولة السورية وسيادتها ووحدة أراضيها، وسيطرتها على مواردها في المحصّلة.
ه– أنّ تغوّل الميليشيات الانفصالية التابعة للأميركي على الأغلبية العربية في المنطقة الشرقية كان يدقّ أجراس إنذار في دوائر صنع القرار الأميركية منذ سنوات، وبالتالي نقول إن ما حدث لم يكن مفاجئاً.
حول النقطة الأخيرة بالذات، لم يكن “التقرير النهائي لمجموعة دراسة سوريا” وحيداً في التحذير من الأزمة المقبلة في المنطقة الشرقية. فهناك مثلاً، لا حصراً، تقريرٌ آخر صدر عن “مجلس الأطلسي”Atlantic Council في 20/1/2021، بعنوان “عيوب السياسة الأميركية تجاه العشائر في سوريا”، يحذّر من أن السياسة الأميركية في سوريا “تبدو” أكثر انحيازاً للكرد منها إلى العرب، وأن ذلك يدفع العشائر إلى أحضان لاعبين آخرين “مثل النظام السوري وإيران اللذين يستغلان صلاتهما مع العشائر لزعزعة استقرار المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية”.
لا بدّ من الإشارة، على الهامش، إلى أن “مجلس الأطلسي” ليس مركز أبحاثٍ عادياً، لأنه يحظى بصلات متينة مع صنّاع القرار عبر الأطلسي، ولا سيما واشنطن ولندن، وأن عائداته، بحسب موقعه الإلكتروني، بلغت نحو 69 مليون دولار عام 2022، وأن مسؤولين كباراً في الدولة العميقة الأميركية تعاقبوا على رئاسته أو تخرّجوا منه، وأنه يعد، بصورةٍ غير رسمية، من مؤسسات حلف الناتو، مع أنه مسجّل كمنظّمة غير حكومية، وأنّ قائمة كبار المتبرّعين لهذا المجلس تضم شركة “فيسبوك”، والخارجية البريطانية، وعائلة الحريري، وصندوق الاستثمار الأميركي العملاق “غولدمان ساكس”، ومؤسسة روكفلر الأميركية، وحكومة الإمارات العربية المتحدة وآخرين.
في جميع الأحوال، يضيف تقرير “مجلس الأطلسي”، بشأن نقائص السياسة الأميركية في الحسكة والرقة ودير الزور، أن واشنطن سعت إلى دمج عشائرها في “قسد”، في حين بقي القرار النهائي في المجالس المحلية بأيدي “مستشارين” كرد لتلك المجالس.
وبأن المطلوب هو منح العشائر مزيداً من التمثيل والصلاحيات في المجالس المحلية، وبأن تؤكد الولايات المتحدة حضورها والتزامها بالبقاء في سوريا، كي تطمئن القيادات العشائرية بأنها لن تعاقب من طرف الدولة السورية وحلفائها إذا تعاونت مع احتلال أميركي (لا يعده التقرير احتلالاً طبعاً) على وشك الانسحاب. وبقراءةٍ أخرى، كي تضطر القيادات العشائرية إلى التعامل مع الاحتلال الأميركي شرقيّ سوريا كـ “أمرٍ واقع”.
أشارت تقارير إعلامية سورية وروسية في 23/7/2023 إلى زيادة عديد القوات الأميركية في سوريا، بعد نقل بعضها من العراق، هذا الصيف، على خلفية تزايد الاحتكاكات مع روسيا. لكنّ المصادر الأميركية ما برحت تتكتّم على عدد الجنود الأميركيين في سوريا، وإن كانت مواقع أميركية مختلفة تصرّ على نغمة “900 جندي على الأقل، إضافةً إلى عدد غير معلن من المتعاقدين العسكريّين”.
العبرة أن زيادة عديد القوات الأميركية في سوريا لم يحدث بصورةٍ رسميةٍ أو نظامية بعد، والعائق داخلي أميركي، إذ ما برح تيار الانسحاب من سوريا قوياً في الكونغرس والمجتمع الأميركيّين. وفي الأسبوع الأول من شهر آذار/مارس الفائت، صوّت 56 نائباً من الحزب الديمقراطي، إلى جانب 47 نائباً من الحزب الجمهوري، مع مشروع قرار يدعو إلى سحب القوات الأميركية من سوريا في غضون 6 أشهر.
فشل القرار طبعاً، وكان ممن ساندوه مشرّعون كثرٌ يرون استمرار الوجود العسكري الأميركي في سوريا منذ 2015، من دون تفويض رسمي، تجاوزاً لصلاحياتهم من طرف السلطة التنفيذية. ومن هنا أهمية “إعادة تفعيل داعش” سوريّاً. فما دام “داعش” مفعّلاً، فإن هؤلاء يغلبون كفة “محاربة الإرهاب”، وإلا فإنهم يدعون إلى تحديد مهمة واضحة للقوات الأميركية في سوريا يقرّها الكونغرس. فإذا كانت المهمة الانخراط مباشرةً في الحرب على سوريا، لا عبر أدوات فحسب، فإن ذلك يفتح باباً كبيراً لا يمكن إغلاقه.
الميادين نت
إضافة تعليق جديد