دمشق وكردها: متلازمة أمريكا!
لم يغير الوجود الأمريكي من مدارك ومصادر التهديد في منطقةُ الجزيرة السورية التي تمثل “الإدارة الذاتية” وذراعها العسكرية “قسد” سيطرة رئيسة فيها ولم يغير منها الإشكالي الداعم لها والمتحالف مع خصمها الرئيس تركيا، والمهتم بتشكيل ميليشيات من العشائر قد تكون “بديلاً جزئياً” عنها في مناطق خط الفرات والحدود بين سوريا والعراق.
وتحيل التقديرات إلى احتمالات عنف وصراع في شرقي سوريا أكثر منها احتمالات حلول وتسويات وزاد في ذلك التوترات بين “قسد” من جهة، والعشائر العربية في خط الفرات من جهة ثانية. و”تَسَاهُل” أمريكا مع الاعتداءات التركية ضد “قسد”. وتزايد الهجمات ضد القوات الأمريكية في المنطقة، سواء من قبل مقاومة محلية، لا تزال غير مكتملة الملامح، أم مجموعات وشبكات مقاومة في سوريا والعراق التي تعمل بإشراف الحرس الثوري الإيراني. وبالتالي، ثمة “لا يقينية” حادة حيال الوضع الراهن في الجزيرة السورية. وهذا ما يجعل المنطقة عرضة لتحولات بالغة الحدة والخطورة.
ويتابع كاتب المقال الذي نشره الموقع : يتعلق الأمر بنوع من “متلازمة” يمكن أن نسميها “متلازمة أمريكا” في الموقف بين دمشق وكردها. ونستعير كلمة أو تعبير “متلازمة” من العلوم النفسية والاجتماعية، ويحيل إلى مجموعة من الأعراض والظواهر المترابطة والمتزامنة، التي عادة ما يمثل كل منها مدخلاً أو سبباً للآخر، ويكون من الصعب تدبيرها أو تفكيكها أو تجاوزها.
وهذا ينسحب إلى أمريكا نفسها، التي تعاني من “متلازمة شرقي سوريا” أو “متلازمة شرق الفرات”، وهي “متلازمة معكوسة” إن أمكن التعبير، إذ يمثل وجود أمريكا في المشهد السوري مسألة مركبة ومعقّدة، ومن الصعب أن تجد سبيلاً آمناً ومستقراً (من منظورها) للتعاطي معه: بقاء أو خروجاً، استمراراً أو قطيعة… إلخ، إذ إن لكل خيار إكراهات وتبعات، مهددات وفرص، وبالطبع مؤيدين ومناهضين… إلخ.
ويكاد الوجود الأمريكي في شرقي سوريا يمثل “مقولة تفسيرية” لما يجري في جبهات عدة في سوريا والعراق (والإقليم)، بمعنى أنه من الصعب قراءة ما يحدث بمعزل عن أمريكا وسياساتها وتدخلاتها وتحالفاتها ورهاناتها، سواء بشكل مباشر أم غير مباشر. وتبدو أمريكا:“عاملاً مؤسساً” للأوضاع في شرقي سوريا ومنطقة الجزيرة، من جهة، إذ لولا أمريكا لما كان وجود (أو بالأحرى استمرار) “الإدارة الذاتية” -حتى الآن- ممكناً ، و”عامل تفجير”، من جهة أخرى، إذ إن أمريكا هي سبب رئيس لعدم التوصل إلى تسويات أو حلول مع دمشق والفواعل الأخرى، كما أنه سبب لكل الرهانات التي تريد “احتواء” “الإدارة الذاتية” وتفكيك عوامل بقائها واستمرارها.
بينما تحدث مظلوم عبدي قائد “قسد” عن مخاوف قواته من الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، قال: “إن الرئيس الأمريكي جو بايدن وعدنا بأنه لن يتخلى عنا مثلما فعل مع الأفغان”. وكانت واشنطن قد أرسلت الجنرال فرانك ماكنزي، قائد القيادة المركزية الأمريكية (في زيارة غير معلنة) لتقديم تطمينات شخصية إلى مظلوم عبدي. وقال الأخير: “إن القلق انتاب سكان المنطقة مما حدث في أفغانستان”. وأضاف: “لنكن صادقين.. كان الناس خائفين.. من أن يواجهوا المصير نفسه”.
أما أن أمريكا تعيق التوصل إلى حلول أو تسويات بين دمشق والإدارة الذاتية، فهذا ما يركز عليه خطاب الحكومة السورية السياسي، وهو فكرة مستقرة تقريباً في المزاج السياسي في سوريا، وتوافقها عليه تقديرات وتحليلات سياسية واستراتيجية غير سوريّة. ذلك أن الدعم الأمريكي يعزز “إدارة” أُعلنت من جانب واحد، ولم تعترف بها دمشق، بل أن الأخيرة كانت أحد عوامل تمكين الحركة الكردية (حزب الاتحاد الديمقراطي) في الجزيرة في بداية الأزمة، قبل أن ينقلب الموقف بين الطرفين.
ولاحقاً، أعلن الرئيس بشار الأسد مواقف رافضة بشدة، ليس للاعتراف بالإدارة فحسب وإنما لوجود مسألة كردية في سوريا. قال الرئيس الأسد في لقاء مع قناة “روسيا اليوم”: “لا يوجد شيء اسمه القضية الكردية في سوريا، لسبب بسيط هو أن هناك أكراداً يعيشون في سوريا تاريخياً، ولكن تلك المجموعات التي قدمت إلى الشمال أتت خلال القرن الماضي فقط بسبب القمع التركي لها، وقد استضفناهم في سوريا”.
الرئيس الأسد حسم كثيراً من الجدال هو مسألة كان مسكوت عنها رسمياً تقريباً، ولو أن جانباً من كلامه، لا يتعلق بالكرد بوصفهم كرداً، وإنما بالفواعل الكردية (وغير الكردية) التي تتحالف مع أمريكا. وهذا موقف يتطلب مزيداً من التحليل. إذ إن موقف الدولة والرئيس الأسد بالذات لا يقوم على أسس أثنية أو عرقية أو جهوية، وهو غير متحيز سلبياً حيال أي تكوين اجتماعي أو ثقافي أو ديني… إلخ في البلاد. قال الرئيس الأسد في حديث مع قناة “روسيا اليوم”:
“الموضوع الكردي إذا أخذناه بالمعنى القومي، فهم قومية موجودة في سوريا عبر التاريخ، والجزء الأكبر من هذه القومية هم أشخاص وطنيون، ولكن هناك جزءاً منهم كما هناك جزء من العرب، وجزء من غير العرب من مختلف الشرائح يضع نفسه بموقع العميل، خاصة للأمريكيين. المشكلة هنا لا تتعلق أبداً بموضوع لا الرئيس ولا المعارضة السياسية، تتعلق بموضوع وحدة الوطن السوري”.
تتركز الأمور في شرقي سوريا، في جانب كبير منها، على الوجود الأمريكي في شرقي سوريا أو الموقف منه، الذي يمثل “شرطاً موضوعياً”، كما تتكرر الإشارة، لوجود أو استمرار “الإدارة الذاتية”، ذلك أن أمريكا: تدعم “قسد” مادياً وتقنياً، وتهيّئ لها الظروف للسيطرة على موارد الطاقة، وبالتالي تمويل مشروعها المدني والعسكري. وتدعمها بالمعدات والسلاح والتدريب، وتيسر وتعزز تفاعلاتها الدولية…إلخ ، تقيم قواعد عسكرية وتحشد مزيداً من القوات والعتاد في مواقع عدة في شرقي سوريا ومنطقة “التنف” الحدودية مع العراق، الأمر الذي ما زال يمنع القوات السورية (والقوات الحليفة لها) من توسيع النطاق الجغرافي لسيطرتها شرقي سوريا ، و “تمنع” دمشق من استعادة السيطرة على موارد الطاقة، بالطبع الجغرافيا السورية (شرقي سوريا)، كما سبقت الإشارة، ويحاول “احتواء” أي عمل تعده أمريكا و”قسد” تهديداً لهما، بما في ذلك التواصل أو التفاعل مع العشائر العربية والبنى المجتمعية العربية والكردية وغيرها في الجزيرة ، كما “تمنع” -أو بالأحرى “تضبط”- سلوك تركيا حيال “الإدارة”، إذ تسمح أمريكا لـ (تركيا) بالمزيد من الاعتداءات وأحيانا قضم واحتلال المزيد من الجغرافيا، لكن بالقدر الذي يتوافق مع خطط وأولويات ورهانات أمريكا في الجزيرة وسوريا عموماً. وهذه مسألة تتطلب مزيداً من التقصي والتدقيق ، و”تضبط” وجود ورهانات فواعل أخرى مثل روسيا وإيران؛ ذلك أن خط الفرات كان من أوائل خطوط السيطرة التي توافقت عليها روسيا وأمريكا في سوريا. ومع ذلك فإن الطرفين يتجاوزان ذلك، ويؤدي كل منهما أدواراً وتفاعلات واتصالات على جانبي خط الفرات، وقد يحاول التدخل في منطقة عمل الآخر، وثمة توترات تظهر بين مدة وأخرى، لكن مع الحرص على عدم كسر التفاهمات الرئيسة بهذا الخصوص.
لكن هذا الشرط الوجودي (أو الدعم الأمريكي) هو نفسه ما يجعل تجربة “الإدارة” غير مستقرة ومفخخة بالعنف ومهددة بالانهيار في حال قررت الولايات المتحدة، لسبب أو آخر: الانسحاب من شرقي سوريا ومنطقة التنف، نتيجة تقديرات وعوامل أمريكية تقرر مراجعة الموقف حيال “الإدارة الذاتية” وسياسات أمريكا في سوريا كلياً أو جزئياً، أو نتيجة إكراهات تتمثل في بروز مقاومة وعوامل تهديد للقوات الأمريكية. وتتخوف “الإدارة الذاتية” من هذا الاحتمال. ويفضل مظلوم عبدي قائد “قسد”: “أن يتعهد الأمريكيون بالبقاء حتى يتم التوصل إلى تسوية سياسية نهائية للصراع السوري. وذلك لأنه، وبوجود عسكري أمريكي، ستكون لديه (عبدي) آمال كبيرة في الفوز بالاعتراف الرسمي الذي سعى إليه منذ مدة بعيدة بالحكم الذاتي الكردي – وربما أيضاً للمناطق النائية ذات الغالبية العربية في محافظتي الرقة ودير الزور، الخاضعة في أجزاء منها لسيطرته أيضاً”.
أو قررت أمريكا تمكين تركيا من توسيع الاعتداءات على “الإدارة الذاتية”، وربما احتلال مزيد من الجغرافيا، أو تشكيل بنى مسلحة من العشائر تكون موالية لأمريكا، وبمنزلة “حاجز قبلي مسلح” بين مناطق “الإدارة الذاتية” من جهة ومناطق سيطرة الحكومة السورية من جهة أخرى. وقد ينسحب ذلك إلى مناطق التماس بين “قسد” والمسلحين الموالين لتركيا في ريف حلب وبعض مناطق الحدود بين سوريا وتركيا.
أو في حال أمكن التوصل إلى “تسويات” في إطار إدارة الأزمة السورية، تفضي إلى استعادة دمشق سيطرتها على مناطق شرقي سوريا. وهذا احتمال ممكن، ولكن لا يزال بعيد المنال في الظروف الراهنة.
وبذلك فإن الشرط الموضوعي المذكور هو أقرب لـ”شرط وجودي” لـ “الإدارة الذاتية”، لكنه مع ذلك “شرط ناقص” و”مضطرب” و “لا يقيني”، كما تتكرر الإشارة. وهو نفسه الشرط الذي:
“يمنع” الإدارة الذاتية من تحقيق قابلية تلقٍّ تتجاوز مناطق سيطرتها إلى مناطق سوريّة الأخرى. وما زالت “قسد” تقدم مشروعها بوصفه مشروعاً لكل سوريا. انظر مثلاً تسمية “قوات سوريا الديمقراطية”، والقرارات التنظيمية والإدارية التي تعلنها “الإدارة الذاتية”، والتي تقول صراحة أن مشروع “قسد” هو مشروع لمستقبل سوريا.
كما “يمنع” الإدارة من فرض سيطرة مستقرة في مناطق سيطرتها بالذات وخاصة في الرقة ودير الزور وريف حلب. وقد اندلع صراع بين “قسد” والعشائر العربية في ريف دير الزور منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، تراجعت وتيرته ولكنه لم ينتهِ. ومن المحتمل أن تزداد المواجهات في المستقبل، في حال توفرت شروط موضوعية مناسبة.
والواقع أن الشرط المذكور –وهذا ما تتكرر الإشارة إليه_ يعوق التوصل إلى حل أو تسوية مع دمشق. ذلك أن أمريكا تقدم تطمينات متزايدة بشأن تحالفها مع “قسد” وحمايتها لمشروع “الإدارة الذاتية”، وهذا يعزز مدارك الأمن والقوة لدى “قسد” حيال دمشق، الأمر الذي يقيم مزيداً من الجدران بين الطرفين.
أساس “المتلازمة” هنا أو معناها هو أن شرط الوجود والبقاء، هو نفسه شرط الانهيار والفناء، وليس من السهل على الأطراف تدبير الموقف: الدخول في مواجهة، أو الدخول في حل أو تسوية. وهذا هو واقع الحال منذ سنوات عدة.
وحيث تتجاور أو تتلاقى قوات من مختلف الأطراف في منطقة الجزيرة: دوريات لقوات سوريّة وروسيّة وأمريكيّة وتركيّة، وتشكيلات عسكرية ومسلحين يتبعون مختلف الأطراف، بشكل متكرر وشبه اعتيادي أو روتيني. وقد تحدث بعض التوترات، وأحياناً الهجمات، لكن لا مواجهات عسكرية كبيرة أو مؤثرة. لا أحد يفضل الدخول في مواجهات مباشرة غير مستوفية الشروط ومن الصعب توقع تبعاتها، بوصف موازين القوى والتفاهمات الحاكمة للموقف عموماً.
المفارقة أن معنى “المتلازمة” ينسحب إلى سببها أو موضوعها، إن أمكن التعبير، أي أن أمريكا نفسها تكاد تعاني من “متلازمة شرقي سوريا” أو “متلازمة سوريا” عموماً، إن أمكن التعبير أيضاً. وتتجاذب فواعل القرار في واشنطن اتجاهات متعاكسة بهذا الشأن، أي بين البقاء أو الانسحاب، أو بين زيادة التدخل العسكري والسياسي أو التخفيف منه. وتعلن الإدارة الأمريكية في حين وآخر إجراء مراجعات وتقييمات لسياساتها في الجزيرة السورية، وتقديرات التهديد -الفرصة في تلك المنطقة.
صحيح أن الأرجحية النسبية هي (حتى الآن) للبقاء، لكن عوامل أو دوافع الانسحاب موجودة، ومن الممكن أن تزداد حضوراً وتأثيراً، وخاصة إذا برزت قوى مقاومة لها في تلك المنطقة، أو قررت هي لاعتبارات مختلفة أن تنسحب أو تخفف من دعمها للإدارة الذاتية…إلخ.
وهكذا، يمثل التدخل الأمريكي في شرقي سوريا، وفي الحدث السوري كله، أحد أهم العُقَد التي تحكم مسارات وتطورات الأمور في سوريا والإقليم، وخاصة ما يتعلق بـ”الإدارة الذاتية” في شرقي سوريا، والتي أعلنت من جانب واحد، كما سبقت الإشارة، وتتجه لتركيز وتعزيز بنى “سلطة بديلة” وصولاً إلى “ما يشبه الدولة”، وهذا يمثل مصدر تهديد لطبيعة المجتمع والدولة في سوريا كما نعرفهما، ويهدد بنوع من الأزمات العميقة والممتدة، وربما “التقسيم الناعم” على غرار ما حدث في شمال العراق، على الرغم من وجود فروق كبيرة بين الحالتين.
وإذ يمثل الوجود الأمريكي “إكسير لحياة” لـ”الإدارة الذاتية”، فإن احتمال الانسحاب الأمريكي يجعل موضوع “الإدارة” بكليته “في مهب الريح”، وهذا هو مصدر القلق والتوجس لدى فواعل “الإدارة” و”قسد”، وهو نفسه (أي الانسحاب) هدف رئيس لسوريا وحلفائها، ولو أنه يتطلب توفر شروط لا تزال متعذرة حتى الآن.
ثمة كلام كثير عن الموقف بين دمشق وكردها، قل: بين دمشق و”الوضع الطارئ” في منطقة الجزيرة السورية، لكن هذا لا يمنع من التفكير في “جذر المشكلة”، من منظور مختلف الأطراف، إنما في أفق مجتمع ودولة سوريين. وهذا باب فيه كلام كثير. والواقع أن الوضع الراهن هو بمعظمه، أقرب لنتائج “غير مقصودة بذاتها”، في بدايات الأزمة على الأقل، إنما تغيرت التقديرات والرهانات لدى “حزب الاتحاد الديمقراطي” الذي أعلن لاحقاً “إدارة ذاتية” من جانب واحد. وإذا كان ثمة من يريد للأوضاع الطارئة أن تصبح دائمة، فهذا مصدر تهديد لكرد سوريا قبل عربها، بل للكرد والعرب في آن، والصحيح أنه تهديد لسوريا كلها.
أثر برس
إضافة تعليق جديد