تبادل السفارات بين سورية ولبنان: المقدمات والنتائج (2)

الجمل: بعد استجابة سوريا لرغبة الساسة اللبنانيين الحاليين بإقامة العلاقات الدبلوماسية بما يضفي الطابع المؤسسي الرسمي بدلاً من اعتماد سياسة "البيت الكبير" التي كانت سائدة على خط دمشق – بيروت فإن بعض الأسئلة المحورية بدأت تطرح نفسها بقوة وتمارس حضوراً مكثفاً أمام أي محاولة للتحليل السياسي لمستقبل وطبيعة العلاقات في ظل وجود التمثيل الدبلوماسي الرسمي.
* السفارة اللبنانية في دمشق – السفارة السورية في بيروت:
تحدث الزعماء السياسيون اللبنانيون وعلى وجه الخصوص الذين ظلوا يطالبون بإقامة العلاقات الدبلوماسية مع سوريا كثيراً واللافت للانتباه عند القيام بإخضاع خطابهم السياسي إزاء العلاقات مع سوريا يتمثل أنه كان مجرد خطاب تعبوي وليس تحليلياً يقوم على منظور أطروحات علم السياسة الخارجية بالمتعارف عليه والآن طالما أن "ذلك" قد أصبح "كذلك"، فإن إشكاليات ما بعد إقامة هذه العلاقات ستتضمن –على الأقل- على مستوى عموميات علم تخطيط السياسة الخارجية الآتي:
• أولاً، تتضمن السياسة الخارجية اختيار الأهداف فهل حددت بيروت أهداف سياساتها الخارجية تجاه سوريا؟
• ثانياً، يتضمن تحقيق أهداف السياسة الخارجية حشد وتعبئة الموارد اللازمة لجهة التنفيذ فهل حشدت وعبأت بيروت القيم والموارد اللازمة لذلك؟
هذه التساؤلات لابد منها لأنه في الماضي كان طابع رد الفعل الآلي التلقائي هو المسيطر على علاقة أطراف البيت الكبير الواحد ولكن بعد تفعيل الأطر المؤسسية لهذه العلاقة على حد رغبة بيروت، فإن المطلوب على الأقل هو التأقلم مع البيئة الدبلوماسية الرسمية المؤسسية الجديدة وهي بنية مؤسسية تستلزم على الأقل وجود مجموعة من الأهداف والقدرة الحقيقية على تنفيذها.
تحديد طبيعة أهداف السياسة الخارجية اللبنانية إزاء سوريا كما هو مفترض من إقامة العلاقات الدبلوماسية وفقاً لأطروحات علم العلاقات الدولية هو تحديد يخضع لمدرستين تفسيريتين:
• المدرسة الأولى: ترى بأن السياسة الخارجية هي عملية تكيفية تقوم على تحديد أهداف معينة والعمل على تنفيذها بما يؤدي إلى إحداث التغييرات في الطرف الآخر وتأسيساً على ذلك، ما الذي ستسعى بيروت لتغييره في علاقات دمشق بها؟
• المدرسة الثانية: ترى بأن السياسة الخارجية هي مجرد معالجة بيروقراطية للعلاقات وليس بالضرورة أن تهدف إلى تحقيق أهداف محددة وإنما بالأحرى تسعى بدلاً عن ذلك إلى التعامل عبر مجموعة من التفضيلات المتفق عليها. وتأسيساً على ذلك، كانت بيروت تحصل على كل شيء من دمشق خلال الفترات الماضية ولكن بعد أن قيدت نفسها بالأطر المؤسسية كيف ستستطيع تكييف هذه الأطر بما يؤدي إلى استمرار المزايا النسبية التي كانت تحصل عليها في الماضي؟
قد يرى البعض أن منظور المدرستين اللتين تعرضنا لهما هو مجرد مغالاة في التحليل السياسي لجهة التنظير، ولكننا نقول أن منظور المدرستين قد ظل يعرض نفسه بقوة على مسرح العلاقات الدولية ليس بين الدول وحسب وإنما بين المنظمات كذلك.
* إشكالية دبلوماسية سوريا في لبنان: بيروت واحدة أم بيروتان؟
تشير المعطيات الجارية إلى أن دبلوماسية سوريا إزاء علاقاتها الخارجية تتميز بالواحدية المؤسسية لأن الجهة التي تقوم باعتماد التوجهات الدبلوماسية هي جهة واحدة رسمية مؤسسية ولم يحدث أن اتسمت الدبلوماسية السورية بتعددية المصدر أو المركز أو المنشأ. أما في لبنان فهناك العديد من الدبلوماسيات:
• دبلوماسية قصر بعبدا.
• دبلوماسية مجلس النواب.
• دبلوماسية مجلس الوزراء.
• دبلوماسية الزعماء اللبنانيين.
وبكلمات أخرى، حتى وإن تقيدت دبلوماسية قصر بعبدا ومجلس النواب ومجلس الوزراء بالحد الأدنى من الثوابت، فإن دبلوماسية الزعماء ظلت لا تتقيد لا من بعيد ولا من قريب بثوابت السياسة الخارجية اللبنانية وأصبح من المفهوم أن الزعماء السياسيين قد ظلوا يقومون بالتحركات الدبلوماسية التي لا تتجاوز وزارة الخارجية اللبنانية والسياسة الخارجية اللبنانية وإنما تعاكس ثوابت السياسات اللبنانية الداخلية والخارجية. ولن نكون بعيدين عن الواقع إذا قلنا أن دبلوماسية سوريا ستكون الملف الأكثر سخونة في تاريخ السياسة الخارجية اللبنانية وبالطبع لجهة الاعتبارات المتعلقة بشبكة المصالح والمزايا التي ظلت تقدمها سوريا للبنان، وإنما لجهة تدخل الأطراف الخارجية في صنع واتخاذ القرار السياسي اللبناني إضافة إلى جاهزية واستعداد بعض الأطراف اللبنانية للتعاون الكامل مع أجندة الأطراف الخارجية وبكلمات أخرى:
• سيسعى تيار المستقبل بزعامة سعد الحريري لفرض أجندة حلفائه الخارجيين على ملف العلاقات الدبلوماسية مع سوريا.
• سيسعى الحزب التقدمي الاشتراكي بزعامة وليد جنبلاط لفرض أجندة حلفائه الخارجيين على ملف العلاقات الدبلوماسية مع سوريا.
• سيسعى حزب القوات اللبنانية بزعامة سمير جعجع لفرض أجندة حلفائه الخارجيين على ملف العلاقات الدبلوماسية مع سوريا.
• سيسعى حزب الكتائب بزعامة أمين الجميل لفرض أجندة حلفائه الخارجيين على ملف العلاقات الدبلوماسية مع سوريا.
وبالتدقيق في الحلفاء الخارجيين فإننا بالتأكيد سنجد تل أبيب – واشنطن – باريس – عواصم المعتدلين العرب، وبالتدقيق في الأجندة فإننا سنجد تسويق العداء لسوريا وتعزيز حملة بناء الذرائع ضدها وهلمجراً.. وبالتالي، فإنه عند التدقيق في ملف العلاقات مع سوريا فإنه من الصعب جداً أن تجد وزارة الخارجية اللبنانية والتي من المفروض أن تكون هي المصدر الرسمي المؤسسي الوحيد المسؤول عن بناء العلاقات مع سوريا.
كما تعود الزعماء اللبنانيون على اعتماد فكرة أن لبنان هو ساحة لتقاطع المصالح الإقليمية والدولية وبالتأكيد مثلما سعى الكثيرون منهم للتعامل مع العواصم الأجنبية تحت تأثير هذه الفكرة فإن نفس هؤلاء الزعماء سيحاولون استخدام هذه الفكرة كـ"مذهبية" في محاولة إدارة ملف العلاقات الدبلوماسية مع سوريا، وتوجيه دفته بما يخدم متطلبات هذه المذهبية.
تعود بعض الزعماء اللبنانيين خلال فترة ما قبل العلاقات الدبلوماسية السورية على استخدام ملف الارتباط مع سوريا من قبيل المناورة لجهة ترغيب الأطراف الخارجية وتسهيل ابتزازها وقد نجح السيناريو من جراء قيام خصوم سوريا الإقليميين والدوليين بتقديم نفس هؤلاء الزعماء الذين دفعوا باتجاه إلغاء علاقات البيت الكبير الواحد، واستبدالها بالعلاقات الدبلوماسية التي سوف لن يكون أمامهم المتسع الكبير وهامش الحركة والمناورة الذي كان في الفترة الماضية، وذلك لجملة من الأسباب في مقدمتها أن دمشق ستكون أكثر التزاماً بالأطر المؤسسية المتعارف عليها وفق معاهدة جنيف وبروتوكولاتها وهو الأمر الذي سيترتب عليه أن دبلوماسية الزعماء اللبنانيين سوف لن تندرج ضمن دبلوماسية المسار الأول الرسمي ولا دبلوماسية المسار الثاني دائماً ضمن المسارات الأقل. وبكلمات أخرى، إن فتح سفارة في لبنانية دمشق سيؤدي بالضرورة إلى تحديد الأطر المؤسسية التي تنظم العلاقات والتفاعلات وعلى الزعماء اللبنانيين الذين تعودوا أو بالأحرى عودتهم دمشق على فتح بواباتها السبعة دون قيود باعتبارهم جزء ممن يعيشون داخل أسوار دمشق  أن لا يغضبوا إزاء لجوء دمشق إلى اعتماد المعايير المؤسسية الدبلوماسية طالما أنه توجد سفارة لبنانية في دمشق وبنص القوانين والمواثيق الدبلوماسية الدولية تعتبر هذه السفارة هي المسؤول الأول عن كل ما هو لبناني في سوريا!!

الجمل: قسم الدراسات والترجمة