الديوان العربي كما أخرجه أدونيس الى لغة الآخر
كان لا بدّ من الحداثة ليتحرّر الشّعر العربي من نظرة «مغلقة»، ارتاحتْ إلى ما قاله السابقون، فأسكنتْ الفنّ الأكثر رقيّاً عند العرب في برجٍ يموج بالأفكار المسبّقة التي تحجبه عن الروح حين تصنفه مدحاً وهجاء وفخراً ورثاء. كان لا بدّ من الحداثة إذاً، ليخرج الشّعر إلى حديقة اللغة، متسلّحاً بنظرة «حداثية» تفرز وتنتخب وتنتقي من التراث الجميل، ما يوافق انتصارها لأمرين ينضحُ كل منهما بـ «أمرين» آخرين: الشّعر ينضح بالفنّ، والشاعر ينضح بصوته الشخصي والخاص. هذا ما حكم اختيار أدونيس الأوّل من «ديوان الشّعر العربي» بأجزائه الثلاثة الذي صدر في بيروت (1964-1968): «حاولت أن أنظر إلى الشعر العربي من ناحية القيمة الفنية الخالصة، وأن يكون للشاعر صوتٌ خاصٌ به دون غيره». ويبدو أنه الأمر عينه الذي حكم الاختيار «الثاني»، المعدّ خصيصاً للترجمة إلى اللغة الفرنسية، فقد صدر حديثاً عن دار غاليمار الفرنسية ضمن سلسلة «شعر»، «ديوان الشّعر العربي الكلاسيكي»، بترجمة حورية عبدالواحد وأدونيس، فضلاً عن «نِظرة» فرنسية للشاعر ليونيل راي.
أسئلة الترجمة
ليست هذه المرة الأوّلى يفارق فيها الشّعر العربي لغته الأصليّة صوب لغة أجنبيّة (الفرنسية هنا)، فقد سبقَ للسوري الراحل رينيه خوام، أن أصدر أنطولوجيا ضخمة عن الشّعر العربي، (دار فيبوس - 1995) انتخب فيها قصائدَ من العصر الجاهلي وصولاً إلى الشّعر الحديث، من دون أن يغفل بعض الموشح والفنون الشّعرية الأخرى (الكان وكان، الدوبيت، القوما، المواليّا)، على نحوٍ جاءت فيه «ممثلةً» للشعر العربي ولكن من منظورٍ نعرفه، يبطنُ قصائد «طبّقتْ شهرتها الآفاق»، مشيرةً إلى ذائقة عربية نألفها. وليستْ الإشارة إلى هذه الأنطولوجيا نافلةً هنا، بل لعلّها المدخل الأنسب لسبر شؤون الترجمة، لا من حيث اختلاف مذاهبها، ولكن من زاوية الشّعر نفسه؛ كيفَ يسافر من لغته إلى لغة أخرى؟ ماذا يضع في «حقيبته»؛ الصور أم الإيقاع؟ الإيحاء أم الأفكار؟ سياقُ المفردة، أم معناها؟ وأيّ معنى من معانيها في ظلّ تجاورِ أطيافها والتباساتها؟ أيختارُ حقاً أم يأخذها كلّها معاً وإن اختلفت مقاديرها؟
لا شك في أن الإجابة عن الأسئلة هذه يحتاجُ بحثاً لا مقام له في هذا المقال، ومع ذلك، قد نستطيع بالاستناد إلى ما نعرفُ من شعرنا العربي أن نستشفّ شيئاً ولو يسيراً من الجواب، لكي نجسّ نبض ما كسبته لغة موليير مرتين من القصيد.
وأوّل الغيث شكل القصيد، لأنّه المحتفى به في كلا الكتابين، ولأنّه الأكثر إثارةً لجدل الأسئلة، فهو ظلّ القصيدة لا قالبها المعطى، ويظهرُ أنه تحكّم إلى حدّ غير قليل في الترجمة، من حيثُ هو فرضَ نفسه لا من منظور العَروض قطعاً - إذ هو منفصلٌ عنه - بل من حيثُ تركيب الجمل النحوية، التي تجنحُ عادةً للامتلاء وتمام «القياس»، فتشغل شطراً، وبذا يكون البيت الشّعري مؤلّفاً من جملتين غالباً. هذا ما يحدث في بحور محدّدة تميل إلى الطول (الطويل والبسيط غالباً)، الأمرُ الذي لفتَ انتباه رينيه خوام في ترجمته، فوضع مقابل كلّ شطرٍ شعريٍ عربي، سطراً فرنسياً، مستنداً في ذلك إلى تمام القياس الناتج عن امتلاء الشطر بجملة، وتمّ له هذا مع أغلب الشعراء. أمّا الترجمة الجديدة فقد خضعتْ بهذا القدر أو ذاك لظّل القصيد أو شكله، ذلك لأنّ مذهب ترجمتها ينتصر لعين أدونيس التي لا تخفي شغفها بالاختلاف والتفرّد، إذ إن اختياراته تجلو عن التراث غبار الأفكار المسبّقة، ليظهر ناصعاً بتنوّعه وتشعب مذاهبه، طازجاً. وقد مرّ عليه نسيمٌ من الحداثة، إن جازَ التعبير، لا تحفّ به إلا اللغة من منظور أدونيس: «اللغة العربية لغةُ انبثاق وتفجّر، لغةُ وميض وبصيرة، امتدادٌ إنساني لسحر الطبيعة وأسرارها»، «في كل قصيدة عربية عظيمة، قصيدة ثانية هي اللغة»، «كانت اللغة... في نظر العربي بعامة عطية الله». ويبدو أن الانحياز إلى اللغة، مكّن أدونيس أوّلاً من اختيار غير متوقع تماماً؛ فثمة قصيدة مثلاً عن ضرّتين (جران العود النمري) ممتلئة بالصور الغريبة الطريفة، وأخرى عن الهرّ (ابن العلاف) خفيفة لطيفة، وأخرى أبيقورية (عمرو بن قنعاس الامرادي)، تمدح إشباع «الأنا» بالملّذات الطيبة. ومكّنه ثانياً من اختيار قصائد «شخصيّة» للشعراء المعروفين (بشار بن برد، المتنبي، أبو العلاء المعري، أبو فراس الحمداني، جميل بثينة، مجنون ليلى، طرفة بن العبد، أبو نواس، أبو تمّام)، وفي الجملة، ظهرَ الشعر العربي متنوعاً، بعيداً من صورة نمطية أُلصقتْ به على نحوٍ مجحفٍ.
هذا الانحياز الجميل إلى اللغة، أظهرَ روحاً شعريةً عربيةً أكثر تحرّراً، إذ ان «ظلّ» القصيد، أي شكله فارق اللغة العربية في أكثر من قصيدة، ذلك لأنّ بعض المقولات الصحيحة عن «الحشو» الذي يفرضه الشكل، حتّم إلى حدّ ما التخفّف أحياناً من جزء شطر أو من أحد الشطرين، كما في قصيدة الوليد بن يزيد مثلاً: (لا أَسألُ اللَهَ تَغييراً لِما صَنَعَت / نامَت وَقَد أَسهَرَت عَينَيَّ عَيناها / فَاللَيلُ أَطوَلُ شَيءٍ حينَ أَفقِدُها / وَاللَيلُ أَقصَرُ شَيءٍ حينَ أَلقاها)، ذلك لأن المعنى العامّ للقصيدة يتوّلد من الشطور الثلاثة الأخيرة، على نحوٍ قد يبدو فيه شطرها الأوّل زائداً. وحتّمتْ اللغة الأجنبية في أحايين أخرى قلب شطري القصيد كما في قصيدة أبو فرعون الساسي (لَيسَ إِغلاقي لِبابي أَنَّ لي / فيهِ ما أَخشى عَلَيهِ السَرَقا)، حيث بدأ مطلعها من الشطر الثاني لا الأوّل، من دون أي مسّ بشكلها.
كانَ لا بدّ من الحداثة إذاً، ليرتاحَ القصيد من شكله فيتحرّر منه إن بدا ثقيلاً في لغة موليير، مثلما كان لا بدّ منها، ليرتاح إلى شكلِه فيعكسه في مرآة اللغة الفرنسية.
«بصمة» الحداثة
ومن هذا المنظور، تمكنُ رؤية كيف أن «بصمة» الشاعر العربي أدّت دوراً كبيراً في الترجمة، إذ إن الانحياز إلى القصائد التي تظهرُ صوته الشخصي، الذي هو في أصل الاختيار، يعني أيضاً الانحياز إلى «الشخصيّة الشعرية» بمعنى الأسلوب المتميّز لكل شاعر. ويظهرُ أن الترجمة الجديدة أولتْ هذا الجانب اهتماماً وعنايةً كبيرين.
ونستدلّ على ذلك مثلاً من قصائد المتنبي الشهير بأسلوبه التركيبي الذي يفتحُ المعاني ويخلقها لا من خلال الصور الشعرية فحسب، بل من خلال لفّ الجمل بطريقة تدلّ عليه وحده، ومن خلال التقديم والتأخير الذي يكثّف المعنى فيعطي القصائد جزالةً ومتانةً، فضلاً عن تعدّد مستويات «قراءة» القصيدة. هذا الأسلوب الخاص بالمتنبي ذي «الروح الجامحة» واللصيق بقدرة اللغة العربية على استبطان إيحاءات لا حصر لها، «لغة الوميض والبصيرة» بتعبير أدونيس، احتاجَ إلى «تفكيك» إن صحّ التعبير، لينتقل بفخامته وكثافته إلى لغة موليير، الأمرُ الذي نجم عنه، «بسْطٌ» لشكل القصيد، إن صحّ التعبير، فأتتْ الجمل في الفرنسية طويلةً، متخففةً من ظلّ القصيد، لتتّسقَ مع «أسلوب» المتنبي وتنحاز إليه، كما في القصيدة التي يقول فيها: «كَأَنَّ دُجاهُ يَجذِبُها سُهادي / فَلَيسَ تَغيبُ إِلا أَن يَغيبا / أُقَلِّبُ فيهِ أَجفاني كَأَنّي / أَعُدُّ بِهِ عَلى الدَهرِ الذُنوبا/وَما لَيلٌ بِأَطوَلَ مِن نَهارٍ / يَظَلُّ بِلَحظِ حُسّادي مَشوبا». فالانتصار للأسلوب هو انتصار لـ «الشعر لا موضوع الشعر».
أمّا أبو العلاء المعري، فيتفرّد في اللغتين: الأصلية والأجنبية، حيث تبدو «المقطّعات» التي اختارها أدونيس وترجمها مع حورية عبدالواحد، كأنّها لم تفقد شيئاً من ألقها، إذ إن «أوّل شاعر ميتافيزيقي في تراثنا الشعري» والتعبير لأدونيس كما لا يخفى، رامَ باستمرار أبعد من الحياة الدنيا، ففي شعره «يكشف عن الغياب الأصلي للحياة فالحياة غائبة جوهرياً، لا الآن وحسب بل أمس وغداً». وقد لفتت نبرته، أو صوته الشخصي، انتباه أدونيس: «هو في شعره يتحدث بنبرة أليفة، نبرة الذي يعلم الحقيقة. لذلك يتوجه إلى الفكر أكثر مما يتوجه إلى الشعور فالمعنى هو ما يهمّه في المقام الأوّل»: وَلي عَمَلٌ كَجَناحِ الغُرابِ / أَو جِنحِ لَيلٍ إِذا ما رتب / فَإِن كانَ يَكتُبُهُ كاتِبٌ / فَقَد سَوَّدَ الصُبحَ مِمّا كَتَب». وفي هذه النبرة الأليفة التي تغوص في النفس البشرية فتمسك بجوهرها، ما يكفي لانتقال سلسٍ صعبٍ من لغة أصلية تُبطن معاني لا حدّ لها، إلى لغة أجنبية تتفتح بمعانٍ «شرقية»، ذلك لأنّ «النبرة الأليفة» لأبي العلاء تنحازُ للفكر الإنساني، وهي من هذا المنظور تُخضعُ الشكل للمعنى ولا تخضع له مطلقاً، فالمعري الذي هو أيضاً عَروضيٌ متمكّنٌ من بنية القصيد، يدرك أن الشكل ليس إلا ظلّ القصيدة، ولعلّه عدّ الشطرين جناحين لأفكاره التي لا تخطئ سهم الوصول مهما تعقدّت، فطار القصيدُ وظّله إلى اللغة الفرنسيّة وحطّ فيها كأبهى ما يكون.
كان لا بدّ من الحداثة إذاً، ليخرج الشّعر العربي من حديقته «الأصلية» إلى حديقة «أجنبية»، حرّاً بتنوعِ مذاهبه، وفرادة أفكاره، واختلاف رؤاه، بل وتناقضها، وبغنى خياله، حرّاً بكلّ ما فيه، كطائر سحري يبدّل شطري جناحيه، بسطرين فرنسيين أو أقلّ أو أكثر، حرّاً لا يتبعُ إلا «الصوت الشخصي» للشعراء كلّهم، والمعاني التي لا تحدّها «الأفكار المسبقة»، والاختيار المرهف لأدونيس.
وختاماً لا بدّ من الإشارة الى أن هذا الديوان صدر برعاية من الشاعر الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم رئيس الوزراء في دولة الإمارات وحاكم دبي.
ديمة الشكر
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد