ضد الصراحة والنقد
قد تستغربون، أيها القراء الأعزاء، موقفي، أنا محسوبكم، إذا قلت لكم إنني ضد الصراحة والنقد!
إن لهذا الموقف، بالطبع، أسباباً وجيهة، أهمها أن الأديبَ الراحلَ صدقي اسماعيل كانت لديه حكمةٌ رائعة يثبتها في ترويسة مجلته الشهيرة "الكلب" تقول بأن الصراحة تورثُ الضغينة، وأما المحاباة فتجلب "الأصدقاء"!.. وأنا في غنى، والحمد لله، عن الضغينة والبغضاء وحقد الآخرين، وفي حاجة ماسة إلى المزيد من "الأصدقاء"، حتى ولو كانوا أصدقاء عديمي النفع!
إن الأديب الساخر غازي أبو عقل هو الوريث الشرعي والقانوني لمجلة "الكلب"، فقد كان يعمل فيها بصفة "محرر تحت التمرين"، وكان على وشك أن يصبح محرراً معتمداً لولا أن الأشخاص الذين يحق لهم التوقيع على قرار ترفيعه في هذا المجال، وهم: صدقي اسماعيل، وحسيب كيالي، وأحمد ابراهيم عبد الله قد ماتوا.. فبقي يراوح عند مرتبة "محرر تحت التمرين" حتى بعد أن أصبح في حيطان الثمانين!
والأديب "أبو عقل" هو واحد من أكثر المنقبين في ثنايا الصحف المحلية والعربية، على نحو يومي، لا ليأخذ منها معلومة تفيده في دنياه أو في آخرته، لا سمح الله!.. ولا لكي يقتنع بالتصريحات الحكومية العربية، وبالأخص ما يتعلق منها بالخطط المستقبلية، حاشا وكلا!.. بل لكي يعثر على طرفة نادرة، أو على تصريح ناري لأحد المثقفين، ليتناول، من توه، أقرب ورقة وقلم، ويكتب- على حد تعبير المرحوم حسيب كيالي- في حق ذلك المثقف "قَرَّادِيّة" شعرية تجعله يُنَفِّث و(يفشّ) مثل البالون المعبأ بقدر من الهواء يزيد عن قدرته على استيعاب الهواء، مصدراً صوت التنفيث المعروف: فش ش ش!
التقيت الأديب غازي أبو عقل، قبل أيام، وهو في طريق عودته من حلب إلى اللاذقية، وجلسنا نتسامر، فوجدت لديه فكرة تؤرقه إلى أبعد الحدود، وهي أن المثقفين العرب، عدا استثناءات قليلة، لا يقبلون النقد، ويطربون للمديح و(اللحمسة)، و(تمسيح الجوخ)!..
وضرب لي مثلاً بكاتب معاصر أدلى بتصريح متسرع، فخصص له عدداً خاصاً من مجلة "الكلب".
قال لي: هل تعلم ماذا حصل على إثرها؟ لقد قامت قيامة ذلك الكاتب، وأصدقائه، وزملائه في الجامعة، وتلامذته، وجيرانه في البناية، وحتى جراسين المطعم الذي اعتاد أن يتغدى فيه،.. وأنا ما عدت أعرف كيف أتخلص من المشكلة معه، هذا مع أن مجلة "الكلب"- كما يعلم الجميع- تُكتب بخط اليد، وتصدرُ في نسخة وحيدة، ولا يقرؤها أحد سوى كاتبها!.. فما بالك لو كتبنا عنه في صحيفة واسعة الانتشار؟!
وقال: وفي مرة أخرى.. كنت، كعادتي، أنقِّبُ في الصحف الناطقة بالعربية، فعثرت على خبر يفيد بأن فرقة مسرحية ما، ستقدم عرضاً مسرحياً على أحد مسارح العواصم العربية، في الفترة الواقعة بين.. وبين.. المهم، بعد أيام قليلة، انطلقت صحف تلك الدولة العربية تشيد بالعرض الذي قُدِّمَ على ذلك المسرح.. ومعظم (النقاد) الذين كتبوا عن العرض أشادوا بمتانة النص، والفهم الخاص العميق الذي يتحلى به السيد المخرج، بدليل أنه وضع لمساته الإبداعية على النص، فزاد في جماله جمالاً، واختار له حركية (ميزانسين) مناسبة، هذا كله عدا عن براعة الممثلين، ومهندس الصوت، والإضاءة، وحتى الملقن كان رائعاً!
إلى هنا، كما ترى، والأمور كلها تمام.. إلى أن عثرنا، فجأة، على مادة نقدية كتبها طالب في الكلية العلمية للفنون المسرحية في تلك الدولة، ونشرها في إحدى الصحف. هل تعلم ماذا جرى إثر هذه المقالة؟
قلت: ماذا؟
قال: قامت قيامة المعنيين بالعرض وفار تنورهم، وفتحت الصحف المتوفرة في تلك الدولة صدورها لكل من يريد أن يشن هجوماً على ذلك الطالب المخطىء، المتسرع، المتحامل، المُغرض، المعادي لتطور الحركة المسرحية في البلاد، غريم الإبداع والتجديد، الذي يعمل، وهو يدري أو لا يدري، لمصلحة الأعداء! ولم يبق أحد لم يرد عليه سوى قاطع التذاكر عند باب المسرح، والآذن الذي يكنس المسرح بعد خروج الجمهور.. لا لأنهما لم يرغبا في الرد عليه، بل لأنهما لا يجيدان الكتابة بالمعنى الإملائي للكلمة.
ولعل أجمل رد على الطالب المسكين هو ذلك الذي كتبه مشرف الإضاءة، ويقول فيه إن منفذ الإضاءة لم يحرك البرجكتور (في المشهد الذي تحدث الطالب عن سوء الإضاءة)، وبالتالي لم يسقط (السبوت) على الممثلين المتحاورين، علماً أن البرجكتور موجود على سكته في أعلى المسرح، ولو كان ذلك الطالب منصفاً لتأكد من وجود البرجكتور قبل أن يكتب، حتى ولو اضطر إلى اعتلاء سلم، أو قفز في الهواء عدة قفزات.. وحتى ولو كسرت رجله.. ففي سبيل الحقيقة كل صعب يهون!
خطيب بدلة- البعث
إضافة تعليق جديد