المرض النفسي ظاهرة مُركّبة لتفاعل الفرد والمجتمع
عقب نزوله الى الشاشات أخيراً، استجلب فيلم «بيفر» Beaver (لفظة ترجمتها القندس) اهتماماً ضخماً من النقاد والجمهور معاً. يتحدث هذا الشريط (إخراج: جودي فوستر، بطولة: ميل غبسون وفوستر)، عن رجل يصاب بكآبة مرضية Psychiatric Depression، تكاد تطيح حياته. ومن دون طائل، يجرب العلاجات كلها، بما فيها الأدوية والإختصاصيون النفسيون ومجموعات الشفاء الروحي وغيرها. ولا تنقذه سوى لعبة من زمن الطفولة، تمثّل حيوان «القندس». وبغض النظر عن المآل الذي يرسمه الفيلم للمستجير بلعبة «القندس» دواءً لكآبته، إلا أن من اللافت أنه يستخفّ بالعلاج النفسي وأدويته، في طرق مختلفة. ومن المثير أنه يأتي من هوليوود، التي تشهد نقاشاً حاداً في مفهوم المرض النفسي، على رغم شهرة نجومها وصُناع أشرطتها، بأنهم شديدو الإقبال على الطب النفسي وعياداته.
واستطراداً، ثمة مثل أميركي شائع يقول: «تنفق نيويورك ملايين الدولارات على المُصابين بأمراض نفسيه عُصابية، لكنها تبخل بحفنة من الدولارات على المُصابين بأمراض نفسية قوية مثل الشيزوفرينيا Schizophrenia».
المعروف أن الممثل طوم كروز يعتبر الطب النفسي وهماً وليس علماً، ويرفضه كليّاً. وعلى نحو مماثل، بل أشد قوة، يذهب الممثل (والمغني الراقص سابقاً) جون ترافولتا. ويلاحظ أن كلاهما ينتمي إلى مذهب غربي حديث اسمه «ساينتولوجيا» Scientology. ولعله قرع مبكّر لناقوس الخطر القول بأن مذهب الـ «ساينتولوجيا» آخذ في الانتشار في كثير من الدول العربية، مثل لبنان ومصر والمغرب ودولة الإمارات العربية المتحدة وغيرها.
تقود المعطيات السابقة إلى دروب متعددة من الأسئلة، منها السؤال عن طبيعة المرض النفسي. ويزيد السؤال حدّة أن الصعود المتواصل لعلوم الجينات جعل البعض يلجأ الى تفسير الأمراض كلها (وحتى بعض الظواهر البشرية غير المرضية) بالعناصر الوراثية.
هل المرض النفسي مسؤولية يتشارك فيها الفرد، بجسده ومعطيات عيشه، مع المجتمع الذي يعيش فيه، أم أنها مشكلة يمكن تقليصها واختزالها لتصبح معضلة الفرد نفسه الذي يعاني مرضاً يستلزم حلاً طبياً متخصصاً؟
الفارق كبير بين النظرتين. في الحال الأولى، يعبّر المرض عن اضطراب يتحمل المجتمع وبُناه وسلطاته الكثير من المسؤولية حياله. في النظرة الثانية، وهي اختزالية المنهج «مينيمالست» Minimalist بامتياز، تسير الأمور على نحو معاكس. يصبح المرض النفسي حال الأفراد ومسؤوليتهم، ولا يطاول المجتمع مسؤولية سوى الاحالة الى العلم المتخصص (وهو الطب في هذه الحال) ومؤسساته.
لنبدأ من مثال مشكلة الادمان. هل هي مسؤولية حصرية على المدمن (وكذلك معالجيه) أم أنها تؤشر الى اضطراب أكبر في المجتمع وانتظامه، ما يجعله شريكاً فعلياً في تلك الظاهرة، وبالتالي فإن الفرد المُدمن هو، في جانب من معاناته، إشارة الى مجتمع تتحمل سلطاته وآلياته مسؤولية وصول أفراده الى حال من الادمان. واستطراداً، هل يمثّل المدمن إشارة الى وهن المجتمع وخواء قواه واضطراب تراتبياته، فكأنه «مجتمع إدماني»؟ هل يبدو الإدمان مثالاً قاسياً؟ لنُجرب الكآبة المرضية Clinical Depression.
لن يطول البحث عن عقلية الاختزال. ففي الذكرى العشرين لاكتشافه التي حلّت قبل 4 سنوات، صدرت النسخة الدولية من مجلة «تايم» وعلى غلافها عنوان لافت: «هل بريطانيا أمة البروزاك Prozac»؟ والمعلوم أن البروزاك دواء حديث ومهم لعلاج الكآبة المرضية.
وسرعان ما عملت المؤسسة الطبية، مع تأييد السلطات والاعلام، الى تكريسه «حلاً نهائياً» للكآبة المرضية. إنها معادلة سهلة: الكآبة مرض حلّه البروزاك! اختفت، بضربة من سحرة غير بارعين، الأبعاد الاجتماعية والثقافية لمشكلة الكآبة المرضية. واختفت مشكلة علاقة الفرد مع مجتمعه ومؤسساته وقيمه وآليات التكييف (في نجاحها وفشلها) وضغوط البنية الاجتماعية يومياً على الفرد واستنزافه ومعاناته وغيرها. لم يعد سوى بضع مواد كيماوية يضطرب عملها في أحد مناطق الدماغ، فيأتي البروزاك ليصنع معجزة الشفاء! مثّل البروزاك استمراراً لمسار في الطب النفسي، صعد بقوة في خمسينات القرن العشرين وستيناته، مُقلّصاً المرض النفسي الى الفرد بنفسه، وأحياناً الى مجرد اضطراب عضوي في هذه المنطقة من دماغه أو تلك، ليأتي الحل في كيمياء الأدوية والعقاقير، مع بعض المساعدة من وسائل نفسية وسلوكية هدفها إعادة تكييف الفرد لينسجم مع السائد الاجتماعي.
وبلغ من شدة تمسك السلطات الاجتماعية بهذا «الاختزال الطبي» حدّ محاولة تعميمه لحل مشاكل اجتماعية شتى. ففي الخمسينات، صُنعت حبة تنظيم النسل. وظهر من يروّج لمقولة أن التكاثر السكاني، وخصوصاً في العالم الثالث، ليس سوى مشكلة أجساد متكاثرة تضبطها الحبة الساحرة!
وسرعان ما سار الأمر الى الفشل، لأن المسألة معكوسة. لقد أثّرت الحبة في الأمكنة التي استطاعت الثقافة والسياسة أن تُهيئ البيولوجيا لاستخدامها. لقد استمر التكاثر الانفجاري مع البنى الضعيفة والهشة والفقيرة والمضطربة والمتخلفة. ولم يكن عجز الحبة إلا مثالاً فاضحاً عن عجز «الاختزال الطبي». فمنذ خمسينات القرن الماضي وستيناته، سارت حركة معاكسة لتعميم ذلك النموذج. وقاتلت على صعيد المرض النفسي بضراوة دفاعاً عن «الكائن الاجتماعي»، بمعنى أن ينظر الى المرض النفسي باعتباره ما يصيب الانسان في سياق عيشه ضمن المجموعات البشرية. لقد بلغ الأمر حدّ سؤال الطب النفسي عن حقه في تصنيف البشر كـ «مختلين». وصب فلاسفة فرنسا في الستينات، نقداً عنيفاً على الميل الى استخدام الطب النفسي كوسيلة معيارية، بمعنى اعتبار ان الطبيعي هو المتوافق مع السائد اجتماعياً، وبالتالي النظر الى الخارج عن القيم باعتباره مضطرباً يجب علاجه. بل دانوا حتى نظرة سيغموند فرويد الى الاضطراب النفسي، لأنها تركزّ كثيراً على ضرورة مواءمة الفرد مع القيم العليا السائدة في مجتمعه. وتجدد الصراع عينه مع تقدم أبحاث الجينات، إذ حاول البعض استخدامها ليحصر المرض النفسي في الانسان، بل في عمق جيناته، بحيث يُخلي المجتمع عن كل مسؤولية، إضافة الى ما يحمله الأمر من عنصرية. ولم تثبت لحد الآن قدرة أي جين على صنع مرض نفسي. وما زال اضطراب النفس عصياً على الانضغاط في قوالب «الاختزال الطبي». ولعل من صنعوا فيلم «بيفر» وقعوا في اختزال لا يقلّ ضيقاً عن الاختزالية في الطب. فمن دون كبير مجازفة يمكن القول إن علاج مرض مُركّب ومنتشر مثل الكآبة المرضية، لا يختزل ويقلّص إلى لعبة قماش لحيوان «القندس».
أحمد مغربي
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد