لقد رأيت الخوف
الجمل- آندريه فلتشيك- ترجمة: مالك سلمان:
"تعالَ تحت هذي الصخرة الحمراء/وسوف أريكَ الخوف/في حفنة من تراب"
- ت. س. إليوت، "الأرض اليباب"
* أهدي هذه الترجمة إلى جميع طلابي وطالباتي في قسمي الأدب الإنكليزي والترجمة في جامعة تشرين.
---------------------------------------------------------------------------------------
منذ فترة وجيزة كتب لي مترجمي الإيطالي، غيوسيبي، رسالة إلكترونية. لم تكن مراسلة نموذجية، لكنها تضمنت استفساراً شخصياً ملفتاً للانتباه:
ينظر إليك الكثير من الناس كشخص في غاية الشجاعة. ويرغبون في تقليدك في هذا المجال، ولو بشكل محدود، لكنهم يشعرون أنهم يفتقدون إلى الشجاعة "الفطرية"، لنقل، ولا يمكنهم تعلم الشجاعة. ما هو رأيك في ذلك؟ هل بمقدور الناس أن يدربوا أنفسهم على الشجاعة؟
لا أعرف كيف أجيب على هذا السؤال باختصار، وحتماً ليس في رسالة إلكترونية، وليس في بضع كلمات بالتأكيد. لكن السؤال هام، وربما جوهري، ولذلك قررت أن أجيب عليه من خلال هذه المقالة.
*****
لقد جبتُ العالمَ، حيث غطيت صراعات كثيرة، في جميع القارات. كتبت كتباً، وصنعت أفلاماً، وأنتجت تقاريرَ استقصائية.
رأيت الخوفَ على وجوه الرجال والنساء والأطفال. رأيت البؤسَ، وفي بعض الأحيان رأيت ما يمكن وصفه باليأس المطلق فقط. وغالباً ما كنت أستشعر الخوفَ "في الأثير"، في عدة زوايا من هذا العالم!
كان الخوف موجوداً، بشكل طبيعي، في كافة ميادين القتال وفي مناطق القتل الوحشي والنهب، ولكن أيضاً في "أماكنَ لم تكن بهذا الوضوح"، مثل الكنائس والبيوت العائلية، وحتى في الشوارع.
منذ فترة وأنا "أدرس الخوف"، محاولاً فهمَ أسبابه وجذوره. وطالما ظننت أن تحديدَ ما يولد الخوف، ما ينتجه، سيكون أشبه بالاقتراب من احتوائه، وتدميره، وتحرير الناس من مخالبه الاستبدادية.
هناك، بالطبع، عدة أنواع للخوف: من الخوف العقلاني من العنف المباشر، إلى نوع من الخوف المجرد الذي يقارب الغرابة والذي تفرضه على الناس أنظمتنا ومؤسساتنا السياسية، ومعظم الأديان، والبنى العائلية القمعية.
يتم تصنيع النوع الثاني من الخوف بشكل متعمد وقد تم تطويره إلى أقصى الدرجات عبر القرون. كيفية استخدامه بشكل فعال، ودفعه إلى ذروته، وكيفية إلحاق أقصى الأذى، كل ذلك يتم تمريره من بنية قمعية إلى أخرى، ومن أجيال إلى أخرى.
يتم استخدام الخوف لمنع التقدم، لخنق المعارضة، وإبقاء الناس في وضع من الخنوع والعبودية. والخوف يولد الجهلَ أيضاً. فهو يقدم إحساساً مزيفاً بالأمان وبالانتماء. ولسنا بحاجة للقول إن بمقدور المرء أن ينتمي إلى "ناد" سيء، أو إلى عائلة من الزعران، أو إلى بلد فاشي. الخوف يدفع الناس إلى الطاعة الجاهلة، ثم يهدد أولئك الذين يقاومون: "ألا ترون، هذا ما تريده غالبية الناس وتفكر فيه. أطيعوا الأوامرَ، وإلا!"
*****
منذ عدة عقود تنبأ مفكرون من أمثال هكسلي وأورويل بمجتمعات نعيش فيها اليوم. فنحن لا نزال نقرأ رواية "1984" أو "عالم جديد شجاع" بشيء من القرف، وشيء من الغضب. نقرأ تلك الكتب وكأنها نوع من الخيال العلمي المرعب المتخيَل، دون أن ندركَ أن تلك الكوابيس قد تحققت، فعلاً، في بلداننا ومدننا وحتى في غرف الجلوس التي نعيش فيها.
مع خضوع العديد من الأمم، بما في ذلك أوروبا وأمريكا الشمالية، بشكل متزايد للتلقين العقائدي والتجانس الفكري، تتلاشى الشجاعة. إذ لا نراها إلا في أحيان قليلة، ومن الواضح أنها تعجز عن إلهام الأكثرية.
هذا ليس لأن "الناس قد تغيروا" فقط، بل لأن العالمَ الذي نعيش فيه يصبح، بشكل متسارع، أكثر طواعية وأكثر تقييداً، كما أن المصادر الرئيسة للمعلومات (الإعلام الجماهيري)، إضافة إلى تلك المصادر التي تشكل الرأيَ العام والأنماطَ السلوكية للمواطنين (الإعلام الاجتماعي)، تقع تحت الهيمنة التامة للمجموعات الاقتصادية والسياسية المحافظة ومصالحها.
بينما كان الناس يتأثرون بالمفكرين العظام والروائيين العظام وصانعي الأفلام العظام ويجدون الإلهامَ في أعمالهم، أصبحوا يتأثرون الآن برسائل الإعلام الاجتماعي، المكونة من 160 كلمة، وبكل صانعي الرأي أولئك الذين يحاولون أن يجعلوا منهم أناساً ضحلين ومجردين من المشاعر ومطواعين وجبناء.
في الماضي البعيد، ولكن قبل أن أولد، كانوا ينظرون إلى حركات التمرد والثورات على أنها شيء بطولي بحق؛ كانوا يحترمونها وينظرون إليها على أنها تستحق أن يحيوا من أجلها، وحتى أن يموتوا من أجلها. كانت تلك فترة التعاطف الحقيقي، فترة الصراع ضد الفاشية وضد الاستعمار. ولم تكن الحياة مستلبَة من الشعر كله، بعد، وليس حتى من الشعر الثوري.
كانت قيمة المرء تنبع من مساهمته في بناء عالم أفضل، وليس من حجم سيارته/سيارتها الفاخرة.
في تلك الأيام، نهضت أمم بأكملها عن ركبها. قاد رجال عظام ونساء عظيمات بعض أبهى حركات التمرد. وانضم الكتاب وصانعو الأفلام وحتى الموسيقيون إلى النضال، وفي غالب الأحيان كانوا يسيرون في المقدمة. وقد أصبح الخط الفاصل بين العمل الصحفي الاستقصائي والفنون ضبابياً بشكل متزايد، بعد أن قامت شخصيات عظيمة مثل ويلفريد بيرشيت و ريزارد كابوسينسكي بالتجوال في كافة أرجاء العالم وتوصيف مشاكله ومآسيه.
فجأة اكتسبت الحياة معنىً. كان الكثير من الناس، ليس الأغلبية بل الكثير من الناس بالتأكيد، جاهزين لتكريس حياتهم، حتى الموت، لتدمير النظام العالمي البالي القائم على الظلم؛ لبناء مجتمع جديد ومزدهر لكافة الكائنات البشرية من نقطة الصفر، أو باختصار، "لتحسين العالم".
إذا شاهدتم بعض الأفلام الفرنسية والإيطالية واليابانية والأمريكية اللاتينية من تلك الحقبة، من المرجح أن تصابوا بالقشعريرة. كان هناك الكثير من الطاقة والحماس والتصميم على مواجهة المؤسسة وتحسين الحياة على هذا الكوكب.
عندما كان سارتر يتكلم، حتى عن مواضيعَ مثل الإمبريالية والكولونيالية، كان مئات الآلاف من الناس يتجمعون في باريس، وكان غالباً ما يظهر في أماكنَ مثل معمل "رينو"، بعيداً عن الصالونات الثقافية الشهيرة في العاصمة.
"أنا متمرد، إذاً أنا موجود"، كتب ألبير كامو بفخر. بدا ذلك أحد الشعارات الرئيسة في تلك المرحلة.
ثم انتهى التمرد بشكل مفاجىء؛ فقد تم "احتواؤه".
لكن الحروب استمرت. تحالفت الرأسمالية والكولونيالية من جديد. تم شراء وسائل الإعلام. وانتصرت الراسمالية مرة أخرى، على الرغم من كل ذلك المنطق الديالكتيكي ضد مثل هذا الانتصار. أنتجت عقلية الشركات الثاتشرية والريغانية، واستعاد العالم قيودَه ولجامَه مرة أخرى. ثم تم إطلاق تلك الحرب المهلكة على الإرهاب وأخذ الخوف بالتغلغل مرة أخرى، حتى من اللأماكن التي تم استئصاله منها قبل عدة عقود.
*****
لا أعتبر نفسي "شجاعاً" ياغيوسيبي.
في الحقيقة، أنا خائف جداً، ولهذا السبب أتمرد، وأجازف بحياتي باستمرار.
أنا خائف مما أراه. كما أنني خائف من عدم قدرتي على الرؤية، والتواجد، والتوثيق.
أشعر بالخوف عندما أرى وجوه النساء وهن يحملن صور أزواجهن أو أبنائهن الذين اختفوا أو قتلوا.
أشعر بالخوف من نتائج القصف الجوي وحرب الطائرات الآلية ("درونز").
أخاف من المشافي المكتظة، حيث يصرخ الناس المصابون على الأرض، الغارقون في دمائهم.
أخاف عندما أرى بأم عيني كيف تتلاشى كل تلك الأحلام، المرسومة على ورق، التي كانت تعيش فيها تلك البلدان المستقلة في أفريقيا وىسيا والشرق الأوسط وأوقيانوسيا وتختفي في الأثير.
أخاف من كافة الأشكال الجديدة للإمبريالية والكولونيالية الجديدة، من شراء المثقفين في البلدان الفقيرة، من تصنيع "الحركات المعارضة" المناوئة للحكومات التي لا تعجب الغرب.
أنا خائف من تدمير كوكبنا الجميل بشكل نهائي. فقد رايت كيف أصبحت بلدان جميلة وأمم كاملة غير صالحة للعيش نتيجة التسخين الكوني وارتفاع منسوب البحر – توفالو، وكيريباتي، وجزر مارشال.
أخاف عندما أرى اليباب بدلاً من الغابات المطرية الجميلة، وجذوع الأشجار والمواد الكيماوية السوداء في الأماكن التي كانت تتراقص فيها مياه الأنهار العذبة – في سومطرة، وبورنيو، وبابوا.
أنا خائف من أشياء كثيرة!
أنا خائف من رؤية النساء يعاملنَ مثل الكلاب أو الممسحات، كأشياء يمتلكها آباؤهن وأزواجهن، وحتى أخوتهن.
أنا خائف من رجال الدين المتوحشين الفاسدين الذين يدمرون حياة الناس وينشرون المخاوف الغريبة.
أخاف عندما يتم إحراق الكتب، بشكل مباشر أو غير مباشر، ويتم استبدالها بشرائحَ من المعدن أو البلاستيك التي تحتوي على معلومات قابلة للتحكم.
أخاف عندما يقومون بإطلاق النار، بشكل مجازي أو فعلي، على الناس بين أعينهم، أو في ظهورهم، لمجرد أنهم رفضوا الركوع.
أخاف عندما يكذب الناس لكي ينجوا بحياتهم، أو عندما يجدون أنفسهم مرغمين على خيانة من يحبون.
أخاف من الاغتصاب، من تعرض الناس للاغتصاب؛ مهما كانت طريقة الاغتصاب هذه – جسدية أو عقلية.
أخاف من الظلمة. ليس من الظلمة التي تخيم على غرفة نومي ليلاً، بل من الظلمة التي تهبط مرة أخرى على كوكبنا، وعلى الإنسانية.
وكلما تنامى خوفي، كلما شعرت بأن علي أن أفعلَ شيئاً حيال ذلك.
لأن الاكتفاء بالجلوس هو أكثر شيء يخيفني. الجلوس بينما يتعرض هذا العالم، هذا العالم الجميل الذي أعرفه عن كثب؛ من تييرا دي فويغو إلى شمال كندا، ومن رأس الرجاء الصالح إلى جزر الباسيفيك الصغيرة، إلى النهب والدمار والتقطيع الثقافي.
وأيضاً لأنني كائن بشري، حبة صغيرة من الرمل في خضم البشرية هذه، وكما كتب مكسيم غوركي مرة "البشرية – هذه الكلمة التي تصدح بالفخر!"
لكنني لا أشعر بالخوف دائماً.
عندما تتحرك فوهة مدفع دبابة نحوي ببطء، لا أشعر بالخوف. لقد رأيت ما يحدث، ما يمكن أن يحدث، عندما تطلق النار؛ ولسوء الحظ فقد شاهدت ذلك مرات عديدة. لا بد أن لحظة الألم قوية جداً وقصيرة جداً – ثم، لا يبقى هناك شيء. ولا أريد لذلك أن يحصل لي لأنني أحب هذه الحياة بشغف، بكل جوارحي، لكنني لست خائفاً من إمكانية الموت.
ومرة أخرى، يعتريني الخوف من "عدم التواجد هناك"، من عدم مشاهدة الحياة وتوثيقها، بكل جمالها، وكل غناها، وكل وحشيتها.
أنا خائف، حتى الرعب، من عدم المعرفة، من عدم الفهم، من عدم القتال، من عدم التمرد، من عدم الحب، من عدم الكراهية، من عدم السقوط، من عدم الضحك أو البكاء (لعدم إمكانية أحدهما دون الآخر)، من عدم فعل الشيء الصحيح، من عدم ارتكاب الأخطاء، من عدم الوجود!
*****
البحث عن الحقيقة، وتثقيف الذات، هذه هي الشجاعة، الشجاعة الحقيقية.
الطريقة التي يتم بها بناء العالم اليوم تقضي على رغبة الناس في الاختلاف.
معظم الرجال والنساء اليوم في وضع يصعب معه التحرر من ربقة الإعلام الرسمي الواقع تحت الهيمنة. إن الابتعاد عن " التواطؤ المريح"، عن مستنقع "القيم المقبولة والمروجة"، عن الكليشيهات الرخيصة، والأكاذيب السافرة، شيء في غاية الشجاعة والبطولة.
ونتيجة لذلك، وبينما يأكل اللهبُ العالمَ، وبينما يتعرض العالم للنهب والتدمير، فإن عدداً قليلاً جداً من الناس يحاربون لإنقاذه.
هل اختفت الشجاعة من هذا العالم؟ هل الجبن هو الذي يترافق فعلاً مع تلك القيم "الشعبية"؟ هل تولد الضحالة، الفكرية والعاطفية، التواطؤ والطاعة؟
هل ما تزال هناك إمكانية للصراع من أجل العدالة؟ هل لا يزال التمرد ممكناً؟ بالطبع هناك إمكانية لكل هذا، وأنت تحاول الابتعاد عن هذا المستنقع، وأنت تتمرد أيضاً، يا غيوسيبي، في كل مقالة تترجمها، وفي كل سؤال تطرحه.
ليس من الضروري أن تواجه دائماً حوامة مقاتلة لكي تكتسبَ صفة الشجاعة. البعض يذهب إلى الحرب، بالطبع. مثلي أنا. هل لأنني شجاع؟ أم لأنه أسهل أحياناً أن أوجه الكاميرا نحو ساحة قتال معينة من التعامل مع فن الترجمة الرقيق؟ لا أعرف. دع الآخرين يحكمون.
ولكن لكي أجيب على سؤالك، نعم؛ يمكن للمرء أن يتعلم المهنة، أية مهنة. ويمكن للمرء أن يتعلم كيف يصبح شجاعاً أيضاً.
لكن الشجاعة من أجل الشجاعة فقط لا تساوي شيئاً. إنها مثل القفز من المرتفعات، أو قيادة السيارة بسرعة جنونية على طريق جليدي، وليس أكثر من ذلك. مجرد تدفق قوي للأدرينالين ...
الشجاعة الحقيقية، على ما أعتقد، لا بد أن يكون لها هدف، هدف هام. ولكي يخاطر المرء بحياته، عليه أن يحبها بعمق، وأن يحترمها: حياته/حياتها، إضافة إلى حياة الآخرين. ولذلك لا معنى للشجاعة إن لم تهدف إلى حماية حياة البشر الآخرين. على المرء أن يعشق هذه الحياة، بكل شغف وجنون، لكي يحارب من أجلها، لكي يحارب من أجل إنقاذ الآخرين.
لا يمكن لشخص شجاع أن يكون عبداً أبداً، لأي شخص أو لأي شيء. ربما تكون هذه أفضل طريقة لكي يتدرب المرء على "الشجاعة": عبر إدراك العبودية وتحديها وإلغائها، عبر محاربتها بغض النظر عن المكان الذي توجد فيه أو الشكل الذي تأخذه. هناك الكثير من العبودية، وهي حولنا في كل مكان ... ليس فقط تلك العبودية القديمة التي تميزها الأصفاد، بل كافة أنواع العبودية، وبأشكال عديدة.
إن قبول العبودية، وخاصة أن يصبح المرء عبداً باختياره هو، هو عكس الشجاعة.
"السباحة مع التيار" تساوي العبودية. تكرار الكليشيهات المفبركة سلفاً، ورفض تشكيل آرائنا الخاصة بنا، ليس سوى نوع من العبودية الفكرية.
بالطبع، لكي يكون المرء شجاعاً عليه أن يفهم ما يجري حوله، إذ يجب على المرء أن يتمكن من تحليل العالم، أن يختار مجموعة خاصة من القيم، أن يكون آمناً. وعندها فقط يستطيع أن يحارب، إن لم تكن هناك طريقة أخرى؛ أن يحارب المرء ويجازف بكل شيء في مواجهة القمع والوحشية، كلما تعرض الناس للتعذيب والانتهاك، في أي مكان على هذا الكوكب.
لكي يتعلم المرء، عليه ألا "يصدق" أبداً، إذ على المر أن يطالب دوماً بالمعرفة! وهذا ضرب من الشجاعة أيضاً، وليس سهلاً على الإطلاق، لكنه ضروري. من الشجاعة أن يصرَ المرء على الدراسة والتعلم، ومن الشجاعة أيضاً أن يجرؤ المرء على تشكيل آرائه/آرائها الخاصة. ليس مجرد مناهج مدرسية محفوظة عن ظهر قلب، بل تعلم حقيقي. وهذا في قمة الشجاعة، وهو أيضاً الطريقة الوحيدة للمساعدة في دفع البشرية إلى الأمام.
لهذا السبب يتعرض الفكر الحر مؤخراً، بشكل مباشر ووحشي، للهجوم في الغرب، وفي مناطق مقموعة أخرى من العالم. لأن هذا النظام الحالي، هذا "النظام العالمي الجديد"، الذي هو ليس بجديد على الإطلاق، يفعل كل ما بوسعه لإعاقة التطور الطبيعي، لحبسنا جميعاً في غياهب دوغمائية قديمة على الطراز الديني. فنحن نتعرض للقمع؛ إذ يفرضون علينا الإيمان بالرأسمالية، بنمط غربي من "الديمقراطية الحزبية"، بتفوق المفاهيم الغربية.
لكن الأمر واضح – هناك أفكار أكثر، وخيارات أكثر، وبدائلُ أكثر، ورهانات أكبر تجعل من كوكبنا عالماً أكثر أماناً. ومن الشجاعة، بالطبع، أن نحارب من أجل أمنه وسلامته.
*****
لا شيء أقوى، وأكثر تواضعاً، وصدقاً، من مقولة برتراند رَسل المعلقة في مكتب نوام تشومسكي في "معهد ماساتشوسيتس للتكنولوجيا":
ثلاث عواطف، بسيطة لكنها قوية بشكل غامر، هيمنت على حياتي: التوق إلى الحب، والبحث عن المعرفة، والتعاطف الطاغي مع معاناة البشرية.
يساعد هذا الاقتباس أيضاً في الإجابة على السؤال الذي طرحه عليَ مترجمي وصديقي الإيطالي:
عندما تصبح الرغبة في المعرفة غامرة، لا يمكن للمرء أن يتوقف، أو أن يتمهل. فالطريقة الوحيدة هي المضي قدماً، امتصاص المعرفة، والنضال للحصول على المعرفة، لرؤية العالم، للفهم، والشعور، والاستماع؛ بشغف وبشكل دائم. لا يمكن للخوف أن يردعَنا عندما نبحث بتعطش عن الحقيقة. فهذه الرغبة في المعرفة تتميز بالفخر والشجاعة!
فعندما نشعر ب "التعاطف الطاغي مع معاناة البشرية"، عندما نشهد الظلمَ الذي يسير هذا العالم، عندما نستشعر بحق معاناة الآخرين، معاناة إخوتنا البشر الذين يعيشون في جميع قارات هذا الكوكب الجميل المتعب، عندها نصبح جميعاً، أو على الأقل أولئك الإنسانويون في جوهرهم، شجعاناً ومقدامين. إذ نعرف بشكل مفاجئ ما علينا فعله.
أما بالنسبة إلى "التوق إلى الحب"، فإنه موجود، موجود على الدوام، عند جميع البشر. النضال من أجل الحب، عندما يأتي، ضرب من الشجاعة، كما أن الموت من أجله، إذا كانت المجازفة بكل شيء هي الوسيلة الوحيدة لإنقاذه، ضرب من الشجاعة أيضاً. هذا "التوق إلى الحب" هو الجزء الأهم من طبيعتنا الأكثر تواضعاً، والأكثر قدسية، والذي لا يتم إشباعه إلا في حالات نادرة. فالحب يحتاج إلى الشجاعة؛ الحب يتطلب شجاعة هائلة لا يمكن وصفها!
وكما كتب الشاعر الكوبي أنطونيو غويريرو رودريغيز، أحد "الكوبيين الخمسة" الشجعان، الذين سجنوا بسبب دفاعهم عن بلادهم ضد الاختراق والإرهاب الأمريكي: "إما أن يكون الحبُ أبدياً، أو لا يكون". فإن تلاشى، لا يكون حباً. إلامور كي إكسبيرا نو إس آمور.
كتبت هذه الكلمات، هذه القصيدة، في سجن أمريكي شمالي وحشي، وما تعنيه في غاية الوضوح. الحب يتطلب الشجاعة. الخيانة سهلة جداً. لكن الدفاع عن الحب يتطلب الكثير من الشجاعة.
هذا النوع من الشجاعة، يا غيوسيبي، يمكن تعلمه. أو يمكن، ببساطة شديدة، اكتشافه وتنميته، بما أنه يعيش داخلنا: إنه يعيش داخلنا كلنا!
* آندريه فلتشيك: روائي وصانع أفلام وصحفي استقصائي. غطى حروباً ونزاعات في العشرات من البلدان. كتب رواية سياسية ثورية لاقت رواجاً كبيراً بعنوان "نقطة اللاعودة". كما كتب كتاباً بعنوان "أوقيانوسيا" حول الإمبريالية الغربية في جنوب الباسيفيك. كتابه الثالث حول إندونيسيا ما بعد سوهارتو وأصولية السوق يحمل عنوان "إندونيسيا: أرخبيل الخوف". انتهى مؤخراً من فيلم وثائقي يحمل اسم "خدعة راوندة" حول تاريخ راوندة ونهب جمهورية الكونغو الديمقراطية. بعد أن عاش لعدة سنوات في أمريكا اللاتينية وأوقيانوسيا، يعيش فلتشيك حالياً ويعمل في شرق آسيا وأفريقيا.
http://dissidentvoice.org/2014/02/i-have-seen-fear/
تُرجم عن ("ديسيدنت فويس"، 14 شباط/فبراير 2014)
التعليقات
شكراً دكتور مالك على الترجمة
يا صديقي ... لا يتقادمُ طالبٌ
شكرا دكتور مالك
إضافة تعليق جديد