26-10-2017
«ستاتيكو» السوري: «كل ده كان ليه؟»
خلال السنوات الأخيرة، انزلقت العروض المسرحية السورية إلى الحرب بطريقة مباشرة أثقلت هذه المشاريع. لكنّ المؤلف شادي دويعر والمخرج جمال شقير، يشتبكان معها من بوابة أخرى. «ستاتيكو» هي حرب الفرد مع ذاته، مع حياة مثقلة بالهزائم والخيبات على وقع شلال الدم والعنف الذي يستنزف الذات. العرض الذي قدِّم في دمشق قبل أشهر، ينتقل أخيراً إلى بيروت عبر «مسرح المدينة»
ينجو عرض «ستاتيكو» بتوقيع شادي دويعر مؤلفاً، وجمال شقير مخرجاً، من الانزلاق المباشر نحو فكرة الحرب... تلك اللطخة السوداء التي أثقلت معظم العروض المسرحية السورية في السنوات الأخيرة، كلافتة للتوقّف الإجباري. يذهب العرض هذه المرّة إلى الحرب مع الذات، والاشتباك مع أسئلة وجودية ملحّة، ونبش هزائم الفرد في معركته الطاحنة مع حياة رثّة ومضجرة ومثقلة بالخيبات.
حياة أوصلت «حكم» (سامر عمران) إلى عدمية مطلقة، وتشاؤم أغلق منافذ حياته تماماً، فقرّر انتحاراً لائقاً. وها هو بكامل أناقته، يسجّل لحظاته الأخيرة على شريط كاسيت. صخب العالم الخارجي أرغمه على عدم استكمال التسجيل، وإعادته أكثر من مرّة، بما يليق بوصية مثقف منتحر، فهو لا يحتاج إلى مبررات كبيرة لمثل هذا الخيار.
حياته تتداعى وتتناسل وتخبو على مهل، ولم تعد جديرة بالعيش، فالغد كابوسي أكثر مما هو عليه اليوم، وفقاً لخلاصات تجربته المرّة. لوحة الـ «غرنيكا» لبيكاسو المعلّقة على جدار الغرفة، تحيلنا إلى حرب أهلية تجري وقائعها في مكانٍ آخر. على الأرجح هنا، على مقربة خطوات من نافذة الغرفة، فالصخب الذي تحدثه الموسيقى من البناء المجاور، ليس أكثر من مارش عسكري (درامز سيمون مريش) ينبئ بكارثة، أو ربما ببطولة زائفة، ولم تفلح كل محاولاته في الاحتجاج إلى إيقافها. إنها حالة العبث نفسها، تلك التي عالجها توفيق الحكيم في مسرحيته «لعبة الموت»، من دون الإشارة إليها.
لكن النص هنا يلجأ إلى ركائز أخرى بتحويرات ذكية وطازجة، تضعه في مهب أسئلة جديدة فرضتها اللحظة الراهنة. أولى علامات العنف تأتي من جاره (محمد حمادة) في المنزل المجاور الذي يطرق بابه وهو يحمل سكيناً، طالباً منه استعارة بصلة. حجم السكين يوحي بأبعد مما يحتاجه مطبخ، وهو ما سيتكشّف لاحقاً بجرعات متتالية من العنف المتراكم، فالجار الأهوج يتدخل على الفور بخصوصيات جاره، عبر إزالة لوحة الـ «غرنيكا» وركنها جانباً، وتغيير ديكور الغرفة، والإضاءة، في إشارة صريحة إلى نموذج بشري نفعي ووقح ومتوحش، يستهلك آدميته بأفعال بهيمية. ذلك أن الحياة بالنسبة إليه صفقة رابحة قابلة للاستثمار والنهب، بصرف النظر عن نوعية سلّم الصعود إلى الشجرة المثمرة. نموذج خبرناه عن كثب تحت مسمى «التعفيش».
هكذا تبدو المسافة شاقة بين نمطي تفكير، وربما سبباً إضافياً لتبرير الانتحار كمحصلة لفشل الانخراط في عالم موبوء وملوّث ومتعفن، انتهى بانفصاله عن زوجته من جهة، والعزلة الفردية التي يخترقها الآخرون عنوة، من جهةٍ ثانية، إلى حد الفشل في إنهاء عملية تسجيل الكاسيت. إذ ستقتحم عالمه بائعة هوى هاربة من بيت الجار بفردة حذاء واحدة، إثر وصول أهله فجأة.
عند هذا المفصل، تتخذ الوقائع مجرى آخر، بالانتقال من حركة السكين إلى رعب المسدس الذي تكتشفه «أمل» (نوّار يوسف) في درج الطاولة المفتوح، فتعيش رعباً مضاعفاً. وحين يشرح لها بأن هذا المسدس ليس للقتل إنما للانتحار، تطمئن قليلاً بانتظار أن يأتي عشيقها ويحضر فردة حذائها الأخرى. في الوقت الضائع، تشجعه على أن ينجز انتحاره، ففي موته، تتحقق نبوءة العرافة التي أخبرتها قبلاً، بأن مستقبلها معلّق بحادثة موت رجل أمامها. تأكيده على أنه سينتحر فعلاً، تخترقه أحاسيس مباغتة حيال هذه المرأة. وحين تدعوه إلى أن تصنع شاياً، بدت هذه الفكرة مثل طوق نجاة مؤقت لكليهما.
تخبره بأنها لا تحب عشيقها، فيجد ملاذاً في حب غير مفكّر به، لكن اقتحام الجار عزلتهما، مرّة ثانية، يربكهما، فينشأ شجار بين الجار وعشيقته، ما يحوّل الغرفة إلى حطام. تتناثر الكتب والثياب فوق أرضية الغرفة وتحت أقدامهما، إلى أن تتشابك حركة قدمي العشيقة مع موسيقى الشارع برقصة متوترة ومجنونة ومبهرة، تتصاعد تدريجاً (سنتذكرها طويلاً بشغف)، بالتوازي مع مخزون داخلي مقموع، يتفجّر دفعة واحدة. وسيعبث الجار بالمسدس غير عابئ بالتحذيرات، فتنطلق رصاصة طائشة منه تردي الرجل الآخر. تغادر المرأة المفزوعة المكان عائدة إلى الشارع بكل جحيمه وعتمته المطبقة، فيما لا يهتم الجار بالجثة الملقاة أمامه، يمسح بصماته عن المسدس ويخرج. جريمة لن يكتشفها أحد بوجود شريط الكاسيت واعترافات القتيل.
نص مرهف يناوش الحرب بمفردات أخرى، بتأويل أفعال تبدو عابرة، تعمل في منطقة ذاتية. لكنّ فحصاً دقيقاً لعناصر العرض سوف يقود المتلقي إلى ماكيت أوسع في تفسير ما يجري، فأزمة الفرد هنا، تنطوي على دلالات أعمق، مما يجري على السطح، وإن أتى ذلك بمشهديات خاطفة، وبنوع من الحذر في تفسير مآل الكارثة.
أغنية محمد عبد الوهاب «كل ده كان ليه؟» التي يفتتح العرض بها، ليست مجرد تساؤل، أو شجن عاطفي، أو مزاج تطريبي، بقدر ما هي احتجاج، وربما اتهام سيبقى معلّقاً، من دون محاكمة أحد. هكذا اكتفى رجال غامضون بالدليل القاطع- شريط الكاسيت - أن الجثة تخص رجلاً منتحراً وحسب، فيما يبقى المجرم الحقيقي طليقاً بلا محاكمة.
يراهن جمال شقير في تجربته الإخراجية الأولى على الكثافة البصرية في الأداء، والانتقال المرن من عتبة درامية إلى أخرى، نحو الذروة، بوجود ممثلة استثنائية من طراز نوّار يوسف، بتحليقها العالي في شخصية «أمل». وربما كان عليه أن يسيطر أكثر على شخصية الجار، نظراً إلى انخراط هذه الشخصية بجرعات من الإضحاك المجاني إلى حدّ ما، في مواقف تراجيدية لا تحتمل مثل هذه الخفّة، فيما سيلعب سامر عمران دور المنتحر بديلاً من كفاح الخوص الذي أدى هذه الشخصية في العروض الدمشقية.
المصدر:الأخبار
إضافة تعليق جديد