«مؤتمر لندن»: المال لوقف موجات النزوح
لو قُيّض تنويم المسؤولين الأوروبيين مغناطيسياً، وسؤالهم أن يقولوا بصدق ما هو العنوان الحقيقي لمؤتمر لندن اليوم، لرددوا بحفظ اللباقة إنه «مؤتمر دعم أوروبا لصد تدفقات اللاجئين». لهذا السبب بالذات يحشدون له ويروّجون لجدواه.
خمس سنوات من مآسي الأزمة السورية لم تجعل الأوروبيين يستنفرون بهذا الشكل. ما حرّكهم هو تدهور أزمتهم الداخلية بفعل سيل اللاجئين، لا شيء غير ذلك، لكن المؤتمر البريطاني يتحايل بتسمية نفسه «دعم سوريا والمنطقة». سيكون، قبل كل شيء، محاولةً للدفع باستثمارات مربحة على جميع الأصعدة: سياسياً، لإبعاد عامل يزيد تعقيد مشكلاتٍ أوروبية قائمة، واقتصادياً، لكون اللاجئين يكلفون أقلّ حينما يبقون في دول الجوار السوري.
يُعقد المؤتمر وسط حضور رسمي كبير، بعدما وُجهت دعوات لنحو سبعين من زعماء ورؤساء مؤسسات دولية مختلفة. سيكون هذا الالتمام الدولي محطةً فارقة، تقطع مع مؤتمرات المانحين السابقة، فهو يكرس التعامل مع الأزمة الإنسانية السورية بوصفه جزءاً من استراتيجية الأوروبيين لوقف تدفقات اللاجئين. سيكون لدول المنطقة حصةٌ معتبرة من «الاهتمام»، فالمطلوب منها أن تمارس دور خطّ الدفاع الأمامي لأوروبا أمام اللاجئين.
الإشارات لهذه الغاية لم تغب حتى عن البيانات الرسمية. المفوضية الأوروبية هي إحدى الجهات المتبرعة الرئيسية تجاه الأزمة السورية، منذ البداية، لكنها اعتبرت أن «مؤتمر لندن يأخذ الآن نهجاً مختلفاً عن المؤتمرات السابقة»، مضيفة أن الفارق هو «السعي أيضاً لمعالجة (قضايا) الاستقرار على المدى الطويل لسوريا ولدول الجوار المستضيفة للاجئين».
المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، التابعة للأمم المتحدة، تشارك الأوروبيين هذا الهاجس، وإن انطلاقاً من دوافع مختلفة. خلال حديث ، قال أندرياس نيدهام، المسؤول في المنظمة، معلقاً على مضمون المؤتمر، إن «ما نحتاج رؤيته ليس فقط (التحرك) بخصوص التمويل، بل أيضاً بخصوص إيجاد حلول خلاقة للأوضاع على الأرض بالنسبة للاجئين في الدول المضيفة، فيما يتصل بالوصول إلى مصادر العيش والتعليم والصحة»، قبل أن يضيف أن المطلوب في هذا السياق هو «نهج جديد وتفكير جديد».
برغم وضوح هذه الغاية، لا يزال الحديث عنها مباشرة يسبب حرجاً للمسؤولين الأوروبيين. قال أحدهم معلقاً بحرج إن «الأمر الآن يخص أزمة إنسانية كبرى، لا أكثر ولا أقل، نريد فصل ذلك عن أزمة المهاجرين». بهذا المعنى، الهموم الإنسانية هي القاطرة التي ستمضي بقافلة من رؤساء المؤسسات الأوروبية ومسؤوليها إلى لندن.
لكن الرعاة أنفسهم لم يخفوا هذه المسألة، وإن غلفوها بالبعد الإنساني. وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند قال حينما جاء ليُحَضِّر، في بروكسل، مع نظرائه الأوروبيين لـ «القمة الإنسانية»، إنه «لدينا تطلعات كبيرة أن يكون المؤتمر أساساً لتشجيع النازحين من سوريا كي يبقوا في المنطقة، وإعطائهم بعض المستقبل هناك».
الأهم سيكون مدى الجدية التي ستبديها الدول الأوروبية تجاه عملها لإطلاق «ما يشبه خطة مارشال» لدول الجوار السوري كي تحتوي اللاجئين. برلين أعلنت سابقاً الحاجة لهذه المبادرة، بكل ما تعنيها من ضخ استثمارات معتبرة في قطاعات اقتصادية مختلفة.
دول الجوار السوري تلاقي تباشير هذه المبادرة بترحاب. أوساط ديبلوماسية رفيعة المستوى، واكبت المداولات بين بروكسل وعمان وبيروت، تقول إن «دول الجوار ترى المؤتمر باعتباره مقاربة مختلفة تعترف بالكلفة التي تتحملها الحكومات هناك». الإشارة هنا لمغادرة الأوروبيين إصرارهم السابق على عدم تسليم الدعم المالي للحكومات، بل إلى وكالات الأمم المتحدة وجمعيات شريكة لهم.
على هذا الأساس، سيقيم المؤتمر طاولات مستديرة توضع فوقها قوائم بالمشاريع الممكن دعمها. التركيز سيكون على تفرّعين وتقاطعاتهما: اللاجئون والمجتمعات المستضيفة. المستهدف أساساً مشاريع البنية التحتية، خصوصاً في القطاعات التي تعرضت للضغط بفعل استضافة اللاجئين السوريين، التعليم والصحة والخدمات الأساسية.
لكن الأوروبيين ينتظرون أكثر من ذلك، ودائماً في سياق تقليل حوافز المغادرة إلى أوروبا. ما يريدونه هو دعم مشاريع تساعد على خلق فرص عمل للاجئين، بالتلازم مع قيام الدول المستضيفة بإصدار تصاريح عمل تمكنهم من الدخول، بشكل رسمي، إلى سوق العمل وضماناته الحقوقية.
هذه القضية ولّدت حساسيات مع الجوار السوري المستهدف بالخطط، خصوصاً لبنان والأردن. هناك تضاربٌ أكيد في المصالح، فتلك الدول لا تريد توفير شروط إقامة لجوء طويلة الأمد بأي حال. لكن كل شيء مرهون بالغلاف الذي توضع فيه تلك الإجراءات القانونية المطلوبة. مصادر واسعة الاطلاع قالت إن دول الجوار لديها حساسية شديدة من مصطلح «الاندماج»، لكن لا مشكلة بعنوان «تحسين ظروف حياة» السوريين.
وفي هذا السياق، حذرت منسقة الأمم المتحدة الخاصة بلبنان سيغريد كاغ من أن لبنان، وبالرغم من تمكنه من «الخروج سليماً حتى الآن بعد خمس سنوات من الاضطرابات في الشرق الأوسط، إلا أنه يجب ألا يُنظر إلى استقراره باعتباره أمراً مضموناً، وإن البلد يحتاج إلى مساعدة مالية طويلة الأجل للتعامل مع العدد الكبير من اللاجئين السوريين».
ودعت كاغ إلى «تعزيز جانب التنمية الاجتماعية والاقتصادية في لبنان»، مشيرة إلى أنه
«مع دخول الأزمة عامها السادس، هناك إدراك بأن هناك قوة عاملة محتملة كبيرة. ربما تفيد الاقتصاد، وبالتالي لبنان، لكن ينبغي أن نبحث عن خلق وظائف للبنانيين إلى جانب الفئات الضعيفة من اللاجئين، ولافتة إلى أنه «تم طرح برنامج هام على مؤتمر لندن يسمح بالتوظيف المؤقت للسوريين».
وفي الواقع، كل شيء ممكن تحت شرطين: يمكن إصدار تصاريح عمل مرتبطة بالمشاريع المقترحة، لكن بعد أن يجري التأكد من تمويلها، لكن في قطاعات لا تؤدي لمنافسة مع العمال المحليين. باختصار شديد، ما دامت المشاريع متصلة بالزراعة والبناء، لن يكون هنالك مشكلة في إصدار تصاريح العمل.
الحساسيات لا تقف عند ذلك، بل تمتد للتململ من التمييز بين دول الجوار. بالنسبة للأوروبيين، تركيا في كفة، والآخرون في كفة ثانية. التمويل المبدئي المرصود لدول الجوار، الأردن ولبنان والعراق، هو نحو ملياري يورو، في حين أن تركيا سيخصص لها بشكل منفصل ثلاثة مليارات يورو، أكد الأوروبيون أنهم سيدفعونها أمس. الدعوات لـ «المساواة» لم تجد حماساً يذكر، كما يؤكد مسؤول منخرط في هذا النقاش .
رسملة المساعدات، المكاسب السياسية، تتعلق بقدر ما تستضيف هذه الدول من اللاجئين. لبنان والأردن لديهما لاجئون سوريون، أما تركيا فلديها ورقة ضغط كبيرة: باتت بوابة لكل اللاجئين الذين يريدون التوجه إلى أوروبا، من أي جنسية كانوا. عبر منها إلى اليونان العام الماضي نحو مليون لاجئ، كان ثلثهم تقريباً سوريين. التدفقات لم تتوقف، مع توقعات بأعداد أكبر هذه السنة.
في هذا السياق، تأتي استثمارات مؤتمر لندن المرتقبة لتكون استثماراً أوروبياً في الأساس. مصادر ديبلوماسية أكدت ذلك، معتبرة أن «اللاجئ يكلف عشرة أضعاف ما يكلفه في لبنان أو تركيا عندما يصير في أوروبا»، قبل أن يضيف «لذلك فالدعم لهذه الخطط ينطلق أيضاً من حسابات الجدوى الاقتصادية».
يردد الأوروبيون أنهم أكبر المانحين في الأزمة السورية، مع تبرعات تجاوزت خمسة مليارات يورو. صحيح أيضاً أنهم التكتل الاقتصادي الأكبر في العالم، يحصلون على ربع ناتجه الإجمالي.
بما أن مشاريع الاستثمار «المارشالية» ستكون محط اهتمام في لندن، فالعين ستتركز على أي حدّ سيشمّر «بنك الاستثمار الأوروبي» عن ساعده المالي. هذه المؤسسة المالية الضخمة تشكل الذراع المالي للاتحاد الأوروبي، وتعمل للمساهمة في تحقيق أهدافه السياسية. في هذه الحالة: الاستثمار لتقليل تدفقات اللجوء.
مصادر أوروبية، اطلعت على تحضيرات البنك للمؤتمر، قالت إنه «سيعلن غداً أنه جاهز لمواكبة الرغبة السياسية الأوروبية، إنه جاهز لفعل المزيد وزيادة مساهمته في المنطقة، الآن لن يتم الإعلان عن أي مشاريع تفصيلية، بل فقط تأكيد أن الإمكانية والاستعداد حاضران».
العام الماضي، ضخ بنك الاستثمار الأوروبي 3.7 مليارات يورو في المنطقة، ما جعله أكبر بنك تنمية دولي مساهم فيها. قدرته التمويلية هائلة، ما يعني أن الأمر متروك لمدى الإرادة الأوروبية. العام الماضي قدم قروضاً بلغت قيمتها 77.5 مليار يورو، ممولاً 462 مشروعاً في 68 دولة.
كل هذا لا يغيّر أن السياق الرسمي للندن سيكون مشابهاً لمؤتمرات المتبرعين: سيكون الصحافيون متأهبين بانتظار نطق حصيلة التعهدات المالية التي جمعها المؤتمر. ليس معروفاً بعد إن كانت ستغطي نداء الأمم المتحدة لتوفير نحو 7.7 مليارات دولار، بما يغطي مجمل الاحتياجات الإنسانية الناتجة عن الأزمة السورية خلال 2016. يشمل ذلك تقديم مساعدات وإعانات وإغاثة لنحو 4.6 ملايين لاجئ خارج سوريا، 13.5 مليون نازح ومتضرر في الداخل، إضافة إلى مساعدة أربعة ملايين شخص في المجتمعات المستضيفة.
مفوض الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين فيليبو غراندي استبق المؤتمر بالقول إن «حياة ومستقبل ملايين اللاجئين السوريين والنازحين يعتمد على استجابة العالم». حتى لو كانت التعهدات سخية، فلا شيء يضمن الآن أنه سيتم تحصيلها. الأمر سيبقى، حتى الدفع، في إطار الوعود. الأوروبيون سجلهم «جيد» هنا. الأمم المتحدة ووكالاتها لم تتوقف لحظة عن الشكوى من النكس بالتعهدات. العام الماضي وجهت نداءات لجمع 8.4 مليارات دولار، أُعلنت تعهدات كثيرة، لكن ما حصلته في النهاية كان نحو 3.3 مليارات دولار.
وسيم إبراهيم
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد