«نساء بابل».. حقوق تتجاوز مجتمعات معاصرة
في بلاد ما بين النهرين وبلاد الشرق الأدنى القديمة، عموماً، لم يكن من النادر أو المستغرب أن تكون امرأة أو فتاة هي الوريثة الأساس، وأن ترث، فعلاً. فقد كانت النساء في الشرق الأوسط ومصر، في العصور القديمة، يتمتعن بحقوق قانونية وبحرّيات اجتماعية أفضل بما لا يُقارن بما كانت تتمتع به شقيقاتهن في بلاد الإغريق وروما. وعندما حكمت السلالات الهلنستية التي ورثت الإسكندر المقدوني مصرَ وبلاد الشرق الأوسط، كانت النساء اللواتي يعشن في هذه المنطقة من العالم، وحتى الإغريقيات اللواتي انتقلن للعيش في المنطقة المذكورة، يُفضلن الزواج حسب القوانين المحلية، وليس حسب القوانين الإغريقية، لأن بإمكانهن تقريرَ شؤونهن الحياتية وأنشطتهن. كما كان باستطاعتهن حيازة الممتلكات والمراكز الاجتماعية، والتنقل في المدن من دون أي قيود على السفر أو على الحركة. وقد وفر ذلك الوضع لهن مساحة من الحرية أوسع بكثير مما كان متاحاً للنساء في العصور الاغريقية والرومانية القديمة. وبالتالي فإن القيود المفروضة على حياة النساء ظهرت في وقت متأخر من العصور القديمة، وقد جاءت من خارج المنطقة ومن ثقافات دخيلة. لم تكن تلك القيود لتمثّل المواقف المحلية الأصلية من النساء، حيث تُظهر لنا مدونات النصوص القديمة أن الظروف الأصلية التي عاشتها نساء الشرق الأدنى القديم كانت تتيح لهن استقلالية وحقوقاً قانونية أفضل بكثير مما كان يتوفر للنساء في مجتمعات أخرى قديمة، بل وفي العديد من المجتمعات المعاصرة.
في العوالم السالفة الذكر تجول الباحثة زينب البحراني، عبر دراسة استقصائية مهمة تتناول المرأة في مراحل تاريخية محددة أو تركز على مسائل تتعلق بالجندر، في كتابها «نساء بابل الجندر والتمثلات في بلاد ما بين النهرين»، الصادر حديثاً عن دار قدمس، قامت بترجمته مها حسن بحبوح.
الكاتبة تعتمد في دراستها هذه بحوثاً خاصة بالتاريخ القديم وبأركيولوجيةِ ما بين النهرين والشرق الأوسط. فمع أن أعمال التنقيب عن الآثار توقفت في العراق نتيجة الحرب والحظر المفروض، استمرت الحفريات في سورية وكشفت المزيد من المعلومات الجديدة عن الحياة اليومية للنساء والأدوار المهمة التي كانت منوطة بهن، وذلك في مواقع تل مرديخ وإبلا القديمة، وتل موزان أوركيش القديمة. هكذا توافرت للكاتبة معلومات وافية عن حياة نساء العائلات المالكة وأنشطتهن.
تصل البحراني إلى نتيجة بحثها عبر المعطيات الأركيولوجية ويتضح لنا أمر واحد: لم تكن النساء، مطلقاً، خارج سياق التاريخ في الشرق الأدنى القديم، فقد كنَّ مشاركات في الحياة الاقتصادية والحياة الاجتماعية حيث كان بإمكانهن حيازة الممتلكات وإدارة الأعمال، بل كان بينهن من تستطيع القراءة والكتابة.
كتاب «نساء بابل» لا يسعى لأن يكون الكلمة الفصل في موضوع الجندر في العصور القديمة، بل يهدف إلى تحديد الكيفية التي تم بها فهم الجنسانية الأنثوية في العصور القديمة، كما يهدف إلى تحديد الكيفية التي تم بها فَهم الجنسانية الأنثوية والأدوار المجندرة، ومن ثم تشكيلها، من خلال تمثلات محددة في ثقافةٍ قديمة بعينها، وهي ثقافة بلاد ما بين النهرين. ويسعى الكتاب أيضاً إلى تحديد بنى الجندر، هذا إضافة إلى إثارة الجدل في الثنائيتين التبسيطيتين «قوة الذكر/ خضوع الأنثى»، اللتين استندت إليهما العديد من الدراسات البحثية. تختلف الأعراف في الشرق الأدنى عن مثيلاتها في مجتمعي بلاد الإغريق وروما، المجتمعين القديمين المعروفين أكثر من غيرهما في أوساط الباحثين في مجالي المرأة والتاريخ القديم. بينما يهدف هذا الكتاب إلى توسيع أفق النظرة المعرفية لوضع نساء الشرق الأدنى ونفض الغبار عن هذا العالم.
لينا هويان الحسن
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد