السوق الموازية في سوريا: اتّساع الثقب الأسود
قبل عدّة أشهر، وجد أحد المستوردين نفسه في مواجهة اتّهامات تتعلّق بتعامله مع السوق السوداء. حمل الرجل عقوده الموقّعة مع مؤسسات الدولة وإجازات استيراده النظامية، وذهب ليدافع عن معادلة بسيطة يضطرّ كثير من المستوردين اليوم إلى العمل بمقتضاها، وقوامها تمويل عملية استيراد أيّ سلعة، في حال عدم وجود تمويل من المصرف المركزي، من سوق القطع الموازية.
حال هذه الأخيرة تشبه، إلى حدٍّ كبير، حال ظاهرة التهريب في ثمانينيات القرن الماضي. فهي من جهة، كانت ولا تزال - في نظر القانون - جريمة اقتصادية يعاقَب مرتكبُها بالسجن لسنوات طويلة، إلا أنها، من جهة ثانية، تمثّل مدخلاً ضرورياً لتأمين بعض الاحتياجات الأساسية التي تعجز المؤسسات الحكومية عن توفيرها، إن كان بسبب العقوبات الخارجية أو محدودية الموارد. لكن مثلما أغرق التهريب البلاد بسلع كمالية أو ذات مواصفات رديئة أضرّت بالمنتج المحلّي واستنزفت موارد القطع الأجنبي، فإن زيادة الطلب على هذا الأخير، ودخول جهات مختلفة على خطّ المضاربة على سعر الصرف، حوّلا السوق الموازية إلى ثقب أسود في مسيرة سعر صرف الليرة، تتفاقم أضراره يوماً بعد يوم.
لاعبون كثر
حتى في عزّ استقرار سعر صرف الليرة، وتمويل المؤسسات المصرفية لجميع احتياجات المواطنين من القطع الأجنبي، بقيت السوق السوداء حاضرة، وإن بشكل محدود، مستفيدةً من الفارق البسيط بين سعرها وسعر الصرف الرسمي، والذي لم يكن يتجاوز ليرة أو ليرتين، إلى أن حلّت الأزمة بخسائرها الكارثية لتُعزِّز، تدريجياً، من تحكّم تلك السوق في كمّيات القطع الأجنبي المطروحة للتداول داخلياً، ولتؤثّر مباشرة في تقلّبات سعر صرف الليرة مقابل العملات الأخرى، ولا سيّما في ظل تقلّص موارد الدولة من العملة الصعبة وارتفاع حجم الطلب الداخلي على الدولار الأميركي، والذي تجاوز شريحة المستوردين ليشمل شرائح أخرى. شرائحُ يحدِّدها المدير العام السابق للمصرف الصناعي، قاسم زيتون، في حديث إلى «الأخبار»، بثلاث، يتصدّرها المضاربون الذين «يشترون القطع الأجنبي بكمّيات كبيرة وخلال أوقات محدّدة، ما يؤدي إلى خللٍ مفاجئ وسريع في سعر الصرف، ويتسبّب في حدوث خلل واضح على مستوى الاقتصاد. ثمّ تأتي شريحة المهرّبين، إذ تعيش سوق التهريب في سوريا، حالياً، حالة من الانتعاش بسبب الأزمة الراهنة، وما رافقها من فساد ومحدودية في ضبط الحدود. وتشير التقديرات إلى أن حاجة المهرّبين من القطع تصل إلى أكثر من مليوني دولار يومياً». أما الشريحة الثالثة، وفق زيتون، فهي «الفئة الصغيرة لجهة حجم التداول، رغم كونها تُعدّ واسعة من حيث العدد، وتشمل المدّخرين من عامة الناس الذين يخافون على مدّخراتهم من فَقدِ قيمتها، فيلجأون إلى استبدالها بالدولار، حتى وصل الأمر إلى استبدال الأرباح الأسبوعية لبعض التجار بالدولار، خوفاً من الارتفاعات المستمرّة في سعر الصرف». وإلى هذه الشرائح الثلاث يضيف المصرفي عامر الياس شهدا شريحة أخرى تُمثّلها «عمليات بيع وشراء العقارات والسيارات التي تتمّ بالدولار، والتي تسهم في زيادة حجم الطلب على الدولار في الأسواق المحلية مقابل طرح كتلة نقدية كبيرة من الليرة، الأمر الذي يزيد من حالة العرض بالنسبة إلى الليرة، فيُحدث تضخّماً ويضعف القوة الشرائية لليرة».
تهريب القطع الأجنبي
لا تتوفّر إحصائيات مؤكّدة حول حجم التداولات اليومية في السوق السوداء، إلّا أن تقديرات بعض العاملين في القطاع المصرفي في بداية الأزمة تشير إلى أن حجم تلك التداولات كان يصل يومياً، آنذاك، إلى حوالى 15 مليون دولار، علماً بأن المصرف المركزي كان، في تلك الفترة، لا يزال يموّل جزءاً مهمّاً من قيمة واردات القطاعين العام والخاص. وبالعودة إلى بيانات وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية العام الماضي، يتبيّن أن قيمة الواردات تزيد على 5.2 مليارات يورو، أي ما متوسّطه يومياً حوالى 14 مليون يورو. وإذا كان «المركزي» مَوّل واردات بما قيمته 1.2 مليار يورو، فهذا يعني أن هناك يومياً ما يقرب من 10 ملايين يورو يؤمّنها القطاع الخاص، إمّا من عائدات صادراته أو من اللجوء إلى السوق السوداء. بحسب زيتون، فإن حجم تداولات السوق السوداء «كان متذبذباً طيلة سنوات الأزمة، وإذا ما قارنّا حجم السوق حالياً مع عام 2011، تخلص المؤشّرات إلى أن حجم التداولات أقلّ من 15 مليون دولار يومياً. لكن هذا الحجم ربّما يتصاعد ويصل إلى هذا الرقم في الأعوام المقبلة تبعاً للانفراجات السياسية، وما يتبعها من انتعاش على مستوى الاقتصاد الكلي». ويبرّر زيتون توقّعاته تلك بالقول إن «الإجراءات التي اتّخذتها وزارة الاقتصاد، أخيراً، قلّلت من حجم واردات البلاد، لتقتصر على السلع الضرورية والمواد الأولية، في حين لا تزال واردات المؤسسات الحكومية مرتفعة بالنظر إلى أهمّيتها، كالقمح والمشتقات النفطية وبعض المواد التموينية الضرورية، ولا سيما بعد توقف الخطّ الائتماني الإيراني». ووفقاً لوزير الاقتصاد والتجارة الخارجية، فإن الاستيراد يتطلّب سنوياً كتلة نقدية قدرها مليارا دولار، أي ما متوسّطه يومياً حوالى 5.5 ملايين دولار.
المشكلة الأخطر في سوق القطع غير الرسمية لا تكمن في المضاربات على سعر صرف الليرة، بل في إسهامها في تهريب جزء ليس بقليل من القطع الأجنبي إلى خارج البلاد. وإذا كان ارتفاع معدّلات التضخم دليلاً على طرح كتلة نقدية بالليرة السورية في التداول، على رغم السياسة الانكماشية التي يتبعها «المركزي»، فإن هذا يشير، بحسب شهدا، إلى أن «عمليات شراء القطع تتمّ خارجياً وتُدفع قيمتها داخلياً. وهو ما تفعله معظم شركات الصرافة والحوالات الداخلية، من خلال تعاملها مع مكاتب خارجية. يضاف إلى ما سبق، عمليات بيع العقارات التي يجري تحويل قيمتها من الخارج إلى حسابات في الخارج. كما أن غياب الضوابط على التصدير فتح الباب واسعاً أمام إخراج مبالغ لا بأس بها من القطع الأجنبي».
مقابل الطلب المتزايد على القطع الأجنبي لغايات متعدّدة، واستمرار خروج كمّيات ليست بقليلة منه إلى خارج البلاد، تتقلّص تدريجياً كمّيات القطع التي تغذّي السوق السوداء، وذلك نتيجة تراجع قيمة الحوالات الخارجية المرسَلة عبر قنوات غير رسمية، على خلفية الأزمة الاقتصادية اللبنانية. وتُعتبر الحوالات الخارجية المرسَلة من المغتربين والمهاجرين، والمقدّرة سنوياً بحوالى 4 مليارات دولار، المصدر الأهمّ لسيولة سوق القطع.
زياد غصن
إضافة تعليق جديد