العرب الأمريكين: مشروع يبحث عن هوية
"افتخروا بأنكم أميركيون، وافتخروا بأن آباءكم وأمهاتكم أتوا من أرض بسط الله يده عليها ورفع من بينها أنبياءه". (جبران خليل جبران)
بدأت هوية "العرب الأميركيين" بالتبلور كمشروع سياسي اجتماعي بعد حرب يونيو/ حزيران 1967. لم يكن هناك تصور واضح لما تعنيه مقولة "العرب الأميركيين" قبل ذلك. ولكن الصدمة والإحساس بالفجيعة نتيجة الهزيمة النكراء للجيوش العربية في ستة أيام عام 1967 واحتلال إسرائيل للأراضي العربية أدت إلى ما يشبه الصحوة.
جاء ذلك في حين شهد النضال الاجتماعي الأميركي من أجل الحريات المدنية تصاعدا متزايدا بقيادة الجالية الأفريقية الأميركية. وأسهم ذلك في إشاعة جو من التعايش بين الأعراق والثقافات المختلفة وبداية صياغة فكرة المجتمع الفسيفسائي.
دفعت هذه الأجواء العرب الأميركيين إلى ركوب هذه الموجة لابتكار هوية خاصة بهم في هذا المجتمع التعددي. إلا أن ظروفا معوقة كانت تتشكل في نفس الوقت.
من بين هذه المعوقات التي بدأت تتشكل:
1- تصاعد الشعور الأميركي المعادي للعرب خاصة بعد حرب 1973 وحظر النفط العربي عن الولايات المتحدة ورفع "أوبك" لأسعار النفط.
2- عدم اعتراف حكومة الولايات المتحدة بمنظمة التحرير الفلسطينية، وتقديم "إسرائيل" البرهان على قدرتها العسكرية الرادعة للنزعة التحررية والعمل الوحدوي العربي التي تعاديها الولايات المتحدة الأميركية.
نتجة لذلك، تداعت الأمور سلبا على العرب الأميركيين، وامتد التمييز العنصري ضدهم ليشمل المجالات الثقافية والعلمية والفنية والسياسية. وشنت حملة شاملة على كل ما هو عربي، خاصة في السينما والمنوعات الغنائية والتلفزيون والأكاديمية.
فتم اختراع شخصية "العربي" المعادي ليشكل صورة "الآخر" المكروه في المشهد الثقافي الشعبي الأميركي. هذا العربي الذي يقف مواجها "للقيم" الأميركية الغربية بسبب تركيبته السيكولوجية الاجتماعية وتراثه الديني وثقافته الشعبية "البربرية".
كانت "الرابطة العربية الأميركية لخريجي الجامعات" (Arab American University Graduates) أول منظمة عربية أميركية تأسست عام 1968 تعبيرا سياسيا للدفاع عن مصالح العرب الأميركيين.
وقام بقيادة هذا الكيان الناشئ الأكاديميون وأساتذة الجامعات من العرب الأميركيين كـ(إدوارد سعيد وإبراهيم أبو لغد ونصير عاروري وغيرهم) باعتباره الحاضنة لمشروع هوية جديد للجالية العربية في أميركا.
ظهرت من البدء نزعتان داخل الرابطة في التصدي للاستحقاقات السياسية الصعبة التي كانت تواجهها الجالية العربية في الولايات المتحدة، خاصة إرساء معنى وهويةً للكيان العربي الأميركي ودوره الاجتماعي وبرنامجه السياسي.
- وهاتان النزعتان تجستدا في:
1- التقوقعية (Isolationist): كانت القوى الفلسطينية التي شكلت عماد معظم التنظيمات العربية الأميركية رأس حربة هذا التوجه، حيث تقوقعت في القضية الوطنية الفلسطينية، وانهمكت في التنافسات الفلسطينية والعربية السياسية والأيديولولجية والصراع على السلطة السياسية داخل المؤسسات، كـ(منظمة الطلبة العرب، والاتحاد العام لطلبة فلسطين، الكونغرس الفلسطيني الأميركي والمجالس القروية ...الخ).
شملت هذه النزعة أيضا غالبية الناشطين من العرب الأميركيين خاصة اليساريين منهم والطلبة الذين كان جل اهتمامهم التحرر الوطني الديمقراطي وقضايا الصراع الإيديولوجي والسياسي في أوطانهم العربية (البحرانيين والسعوديين واللبنانيين ...الخ).
2- الإيذابية (Assimilationist): التي تروج إلى تذويب العرب الأميركيين بشكل كامل في المجتمع الأميركي (الأبيض بمنظورهم) إذا أرادوا النجاح سياسيا.
أي الدخول إلى المعترك السياسي من أوسع أبوابه: الحزبين الأميركيين السائدين الديمقراطي والجمهوري. ويتم ذلك من خلال السعي الدؤوب لإثبات الولاء السياسي والتأكيد بأن الجالية العربية هي "أميركية قبل أن تكون عربية".
مع مرور الزمن ابتدأ الخلاف بين التيارين بالتبلور، وبدأ يطفو على السطح، ما أدى إلى بزوغ تعبيرات منظمة لهما. فكان أن انفصل "الإيذابيون" عن "المتقوقعين" في منظمات خاصة بهم، الرابطة القومية للعرب الأميركيين (NAAA) عام 1972. واللجنة الأميركية العربية لمكافحة التمييز العنصري (ADC) عام 1980. والمعهد العربي الأميركي (AAI) عام 1985.
والسبب في ذلك أن "الإيذابيين" لم يتفقوا بينهم على الأولويات، فالأولى رأت انه يجب التركيز على إيجاد آليات ضاغطة عربية (لوبي عربي) من أجل "تكوين وتنفيذ أجندة موضوعية غير متحزبة للسياسات الأميركية في الشرق الأوسط".
أما (ADC) فأكدت "أميركيتها أولا" من خلال وضع "الأميركي" قبل "العربي" في اسمها (اللجنة الأميركية-العربية ِ American-Arab Anti-Discrimination Committee) حتى لا تدع مجالا للشك في ولائها.
وصاغت أولوية برنامجها بحيث يرتكز تنظيم الجالية العربية الأميركية لمكافحة التمييز لدى وسائل الإعلام وأدوات الثقافة الشعبية كالأفلام، وليس على السياسة الخارجية.
أما (AAI) فحددت أولوياتها بالتحريض والمساعدة في إدخال العرب الأميركيين لدى الحزبين الديمقراطي والجمهوري ودعم من يريد أن يرشح نفسه لمواقع حكومية من العرب الأميركيين، وتأسيس نوادي العرب الأميركيين السياسية للحزب الديمقراطي وأخرى للجمهوري.
ولئن كان المشروع لخلق هوية عربية أميركية مستندة إلى الجالية العربية، فإن مرجعية النخب السياسية القيادية العربية الأميركية لم تكن تنبع من واقعها الاجتماعي أو محيطها السياسي والجماهيري العربي الأميركي ولا حتى من تقييمها المستقل للواقع الموضوعي، بل أتت من المشرق العربي.
هذا بدوره أدى إلى عزلة هذه الشرائح النخبوية عن قوى التغيير في السياسة الأميركية المؤثرة بالقضايا العربية بشكل مباشر، وعزلتها بنفس الوقت عن القواعد الجماهيرية التي أيدتها في بداية الأمر، ثم هجرتها عندما اكتشفت ضعف قدراتها على التغيير.
نشأة توجه ثالث
وقد بدأ توجه ثالث وهو "الاندماج" (Integrationist)، وكانت بدايات هذه التوجه أثناء غزو واحتلال الكيان الصهيوني للبنان عام 1982، فقد أثار هذا الغزو حملة كبيرة ضد "إسرائيل" لم تشهد لها الساحة العربية الأميركية مثيلا.
وسبب ذلك أن الموضوع كان "لبنان" وليس "فلسطين"، فوجود جالية لبنانية قديمة مستقرة وناجحة على عدة مستويات في المجتمع الأميركي، ولما يتميز به لبنان من سمعة إيجابية في المجتمع الأميركي باعتباره قريبا من الغرب (بيروت: باريس العالم العربي).
وبما أن لبنان ليس قضية وجودية بالنسبة لإسرائيل كفلسطين، أتيح هامش للنشطاء لتطوير مستوى الفاعلية والنشاط السياسي وبشكل لم يكن معهودا في الساحة العربية الأميركية.
تمثل هذا التيار بناشطين من طلاب الجامعات الأميركية من الفلسطينيين والعرب الذين أتوا إلى أميركا بقصد العلم. ولكن الأوضاع المعيشية البائسة والأوضاع السياسية الصعبة وقلة الفرص في العالم العربي اضطرت غالبيتهم للبقاء والاستقرار واعتبار أميركا وطنا لهم. وباشروا بهجران "قوقعتهم" نحو الصف "الاندماجي" الجديد في حركة اجتماعية تمليها ضرورات الحياة.
بدأ أصحاب هذا التوجه (الاندماجيون) باكتشاف أن الهياكل الفكرية المطروحة وأساليب التعامل مع المجتمع الأميركي لا تغني ولا ترتقي لمستوى المسؤولية والتحدي الماثل أمامهم.
فباشروا بإنتاج أساليب جديدة تنبع من واقعهم، وذلك بدمج مكوناتهم النفسية العربية مع ما تعلموه من حياتهم الجامعية. وبدؤوا في الانفتاح على الثقافة السياسية الأميركية ولغتها دون أن يشكل ذلك تعارضا مع بنيانهم النفسي والوجداني العربيين.
كانوا يشعرون بالراحة لأنهم يعيشون في عالمين عربي وأميركي في آن واحد، فهم يتكلمون ويقرؤون ويتابعون الفكر والمقولات العربية والغربية بنفس الوقت، يتعاملون مع التراث والعادات والتقاليد الإيجابية العربية ويربون أبناءهم بموجبها، ويستوعبون بنفس الوقت ما يقدمه المجتمع الأميركي التعددي، فتكونت لديهم بذلك مفاهيم جديدة بدأت تتفاعل مع الجالية لتشكيل هوية عربية أميركية متقدمة عن سابقاتها.
تتلخص أفكار "الاندماجيين" بأطروحات تصنف الجالية العربية بأنها عربية تحمل الجنسية الأميركية في مجتمع تعددي بأعراق مهاجرة غنية التنوع ولا تعتمد في نظامها السياسي القومي على العنصر، بل على مجموعة من المبادئ الحية التي يتضمنها الدستور ووثيقة الاستقلال التي تتحرك بشكل دائم حسب طبيعة الصراع الاجتماعي السياسي الدائر لتفسيرها وتطويرها وتجسيدها بالقوانين التشريعية التي تنطبق على جميع مرافق الحياة.
ويرى التوجه "الاندماجي" أن انخراط العرب الأميركيين في المجتمع الأميركي لا يكون بـ"التقوقع" أو بـ"الذوبان" والتلاشي بل بالاندماج بشكل طبيعي وحر في العمل الاجتماعي بكل ما يعنيه ذلك من معنى شامل لخلق هوية عربية في هذا المجتمع الفسيفسائي يضفي ويعطي ويسهم في إغنائه بالثقافة والحضارة العربية.
ويشدد "الاندماجيون" على أنه لا يمكن الفصل بين مصالح الجالية العربية كمجموعة عرقية ثقافية في أميركا ومصالح الشعوب العربية التي تشكل عمقها الثقافي والوجداني ومصدرا أساسيا من مصادر قوتها السياسية المحلية. أي لا يمكن أن يستتب وضعها كجالية عربية أميركية بمعزل عن وضع الشعوب العربية.
بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001 بالهجوم الإرهابي على الولايات المتحدة، ارتكز الصراع بين التيارين الأساسيين (الإيذابي والاندماجي أصبح الانعزالي هامشيا) على تساؤل الرئيس الأميركي جورج بوش "هل نحن مع الإدارة الأميركية" في الحرب على "الإرهاب" بمفاهيم إدارته! وهل يجب على الجالية العربية أن تثبت ولاءها لأميركا دوما، أم أنها جزء شرعي وعضوي في المجتمع الأميركي؟ هل للجالية العربية الحق بالمعارضة لسياسات الإدارة دون أن تدمغ بأنها تدعم الإرهاب وبالأقل تتهم بكره أميركا؟ كيف تحمي الجالية العربية نفسها من الهجمة السياسية والعنصرية التي تواجهها؟
كان التعامل مع هذه الأسئلة هو الذي ميز بين برامج التيارين، فـ"الإيذابيون" المسيطرون على أجندة الجالية العربية الأميركية توصلوا إلى أن الوصول إلى شاطئ الأمان يتمثل بتأييد سياسة الإدارة الأميركية تماما والانخراط بحماس بها وتسويقها في أوساط الجالية العربية والعالم العربي.
أما التيار "الاندماجي" فحدد أن للجالية العربية الأميركية دورا هاما وضروريا في هذا الوقت، وهو بناء جسر للتفاهم مع المجتمع الأميركي وشرح شكاوى ومظالم العالم العربي من السياسة الخارجية الأميركية، ودعوة الجالية للوقوف في الخندق المناهض لمسوقي الحروب الباغية، لا أن تؤيدها.
وعلى الجالية العربية أن ترتفع لمستوى المسؤولية التاريخية بأن تكون في مقدمة المدافعين عن الحريات المدنية والدستورية الأميركية المعرضة للخطر من قبل المحافظين الجدد.
ويشكل "الاندماجيون" نسبة عالية من ناشطي الجالية، إلا أنهم لم يتمكنوا من ترجمة ذلك إلى قوة منظمة فاعلة وبديلة للوضع القائم حتى الآن. وقد أسهمت الأجواء التي تلت أحداث 11 سبتمبر/ أيلول والحرب على "الإرهاب" التي تلتها بإرباكهم وإبطاء حركة تطورهم.
وختاما، لا بد من التصور بأن المستقبل العربي الأميركي هو مع "الاندماجيين". فإذا كان لا بد من أن يكون هناك جالية عربية أميركية، فلا بد أن تكون من امتزاج شطري الهوية العربي والأميركي. لا يمكن أن تكون "إيذابية" بالشطر الأميركي فقط فذلك نهايتها.
و"الانعزاليون" ليس عندهم حل، فهم لا يزالون في أوطانهم العربية نفسيا والكثيرون منهم يعود إليها نهائيا. وبالتالي، إما أن يكون هناك جالية عربية أميركية بشقيها أو لا يكون. وحتى الآن، لا يزال "الاندماجيون" في طور التكون وهم غير متجانسين في كيفية تحقيق أفكارهم وتجسيد رؤيتهم.
وحتى اللحظة التي ينجح "الاندماجيون" فيها بنشر آرائهم وبناء مؤسساتهم على أسسها وبلورة رؤية واضحة تتجسد بقوة سياسية منظمة وتصبح بديلا ناجحا عن واقع الحال الهزيل، ستبقى الجالية العربية الأميركية مشروعا قيد التحقيق.
ميشيل شحادة
المصدر: الجزيرة
إضافة تعليق جديد