الهيكل العظمي في الفن والثقافة
هي مغامرة، ربما، أن نجري تحـقيقاً عن الهيكل العظمي في الفن، لكن الخـبر الذي نشر في مجلة «آرت إن أميركا» حرضني على خوض هذه المغامرة، وجعلني أبحث في أعماق هذا الموضوع وأصوله وفروعه ومفازعه، علّني أجد ما يفيد، أو ما يقدم صورة عن مـادة غريبة في الفن قد ينفر منها البعض، أو يقبل عليها البعض الآخر.
الكثير من الأفلام السينــمائية استخدمت الهيكل العظمي، ووضعته في بوستيراتها، والكثير من الفيديو كليبات الموسيــقية الغـنائية، خصوصــاً الهارد روك. فهو لم يعد رمزاً للموت في صورته المعروفة «جمــجمة وعظمتان متقاطعــتان فوقها». وهو لم يعد رمزاً لذلك الجسد الممدد في القــبر وقد ذاب عنه اللحم. بات الهيكل العظمي يتحرك ويمشي ويعزف الموسيقى ويغني ويمارس حياة «طبيعية»، إلى درجة أن الكثير من الروبوتات صممت على شكله.
وإذا كان بعض الفنانين رسموا هيكلاً عظمياً بشرياً يعزف الموسيقى، فإن هياكل عظمية لتسع نساء موسيقيات يحتــضن آلات العزف، اكتشفت في العراق تعود إلى 430 سنة مضت، تقدم أصلاً لهياكل تعزف على آلات مختلفة كأنها حية ترزق.
مادة جمالية
إن هناك عدداً من الفنانين في العــالم تعاملوا مع الهيكل العظمي كمادة جمالية، وقد اعتبره الفنان اللبناني سمير أبي راشد، عندما سألناه، «أجمل هندسة في الكون»، فجــمال الله الموجود في الإنسان موجود في الهياكل العظــمية، ومع ذلك فهو لم يكثر من استخدامها، كونــها بالنـسبة إلى الناس والمزاج العام تمثل جواً قاتماً، لذا لم تتعدَّ اللوحات التي تضمنتها أعماله أكثر من ست لوحات. وإثباتاً لنظرته يقول أبي راشد: «هناك مهندس فرنسي في أربعينيات القرن العشرين ركّز هندسة على جسم الإنسان، منطلقاً من هندسة الهيكل العظمي، باعتباره أرقى شكل هندسي».
قد تكون سوريالية أبي راشد قادته إلى غرابة استخدام الهيكل العظمي، تماماً كما حصل لدى آبائه في العالم من قبل. فسلفادور دالي رسم جمجمة سائلة على بيانو، ورسم لوحات أخرى تدل على هوسه بالموت والأمراض. أما أوتو ديكس فغاص عميقاً بالمعنى التقليدي للجمجمة، بل أضاف إليها ديداناً تخرج من كل ثقوبها، ليدلل على ما تأتي به الحرب من بشاعة الموت.
ولم يكن بولوك بعيداً عن هذا المعنى للهيكل العظمي، فقدم صورة ترمز للحرب أيضاً، تمثل امرأة ترتمي على هيكل، محاطة بالجثث من كل جانب.
ومن اللوحات النـادرة لفــان غوغ لــوحة تمثل هيكلاً عظمياً نصــفياً يدخّن سيجاراً. رسمها في حينه ليسخر من مناهــج التعـليم التي لم تتخطَّ، في حينه، كلاسيكية اليونان والرومان.
بقيت تلك الأعمال التي رسمها فنانون كبار تعتمد الهيكل العظمي أو الجمجمة، كرمز للدلالة على الموت بأشكاله المختلفة. وهذا بيكاسو أيضاً يرسم جمجمة في إطار أعماله التكعيبية، ليست بعيدة عن ذلك الفضاء العاطفي الصارخ بالشؤم، وكذلك هي الجمجمة التي رسمها أندي وارهول. وإذا انتقلنا إلى جورج كروز الذي وقف في فنه ضد النازيين يرسم لوحة تظهر هيكلاً عظمياً بثياب ممزقة، يفتح ستارة سوداء وحمراء، في إشارة إلى أن الداخل إلى النازية هو بلا شك داخل إلى عالم الموت.
هيكل الموت
كان الهيكل العظمي في الفـن، إذاً، شكلاً من أشكال التعبير عن قيمة حســية في الموت، قيمة موجودة في ذاكرتنا. أما اليوم فبات التعبير عن الموت في الفن، بالهيكل العظـمي، أمراً مبتذلاً. لذلك كان انتشار الهيكل العظمي في الفن الحديث نادراً، وإن برزت الأعمال التي ذكرناها، وهي لا تقدم الهيكل العظــمي كشــكل جامد، إنما تحوله إلى مادة تشكــيلية مضــافة إلى رمز الموت. لم يعد الفـنانون اليوم يهددونا بالهيكل العظمي وما يرمز له، فهو تحــول إلى عمل إبداعي قد يرمز إلى الفرح أيضــاً، أو يستطيع أن يتحرك في كل المسافة الطويلة الفاصلة بين الموت والفرح، وها هو دالي يجمع جمالية الجسد العاري مع رمز الموت، أي الجمجمة، فيصور نساء عاريات يجلسن في فتحات الجمجمة ويصور امرأة تتمدد في جمجمة، أو ألن جيلبرت يصور امرأتين جالستين في فتحتي عيني جمجمة. فالفنان اليوم لا يرسم الهيكل ناقلاً بتشكيلاته اللونية المزيد من الطاقة التعبيرية وحسب، إنما تعامل معه أيضاً كواقع يمكن تجريده وتحويله إلى مادة أو شكل يعجن بالألوان.
وإذا كان الفنان اللبناني تيو منصور الذي قدم هذا العام، لمعرض جماعي في متحف سرسق ببيروت، لوحة كبيرة مستوحاة من قصيدة إيتل عدنان «خمسة معان لموت واحد»، تضمنت مجموعة من الهياكل العظمية... إذا كان لا يزال عند المعنى التقليدي لاستخدام الهيكل العظمي، فإن زميله الفنان يوسف عون، الذي تحدثنا إليه حول الموضوع، فقد جعل عظام الحوض والأطراف تذوب في المادة اللونية، وتتحول أحياناً إلى مجرد مساحة سوداء تتشكل في العمق جزءاً من هيكل، يقول: «لم أتوقف عند الهيكل كمادة جامدة، رأيت الحركة موجودة فيه، ورأيت أن العري، في أعماقه، يصل إلى الهيكل، فحركة الجسد ليست منفصلة عن هيكله الذي هو مادة انطلاق، وأنا أرسم الجسد بطريقة هيكلية، لكن بشكل تجريدي».
من يتطلع إلى صور «الاكس راي» في التصوير الشعاعي الطبي، يفهم كيف أن الهيكل يدل على الحياة، فهو هيكل الإنسان مريضاً ومعافى، فضلاً عن أن صور الأجهزة الكاشفة في الممرات الأمنية التي نعبرها تكشف هي الأخرى كيف أن الهيكل هو عمق الحياة فينا.
وإذا انتقلنا إلى المكسيك فإن عيد الأموات، لدى شعبها، هو مناسبة لعودة الأرواح كالفراشات، وبالتالي فإن الهيكل العظمي يرمز إلى الوعد بحياة جديدة أو الانبعاث، لذلك لا غرابة إذا كانت الأساور تتزين بالهياكل العظمية، والمزهريات، وكذلك ألعاب الأطفال والساعات والحلي والقناديل.. والشوكولا. ولعل الغرابة في هذا تأخذنا إلى ما هو أغرب من ذلك، أي كنيسة مسيحية صنع ديكورها الداخلي من الهياكل العظمية التي بدت على شكل عقـود وأعمدة تزيين وصلبان، وشكل غيتار، وأشكال تزيينية شتى، تدخل فيها الجمجمة والعظام كمفردات زخرفية.
ديكور كنيسة
الكنيسة تلك، ربما لم تكن معممة إعلامياً بما يكفي لشيوع خبرها، وهي غير مخصصة بموقع الكتروني حتى الآن، لذلك لم يكن ســهلاً الوصـول إلى تاريخها وحقيقتها. تقع في أحد الأديرة، في «سدلك»، إحدى ضواحي «كوتنـا هورا» من دولة تشيكيا (تبعد 70 كيلومتراً عن العاصمة براغ). و«المعظمة» التي استخدمت في تزيين الكنيسة تعود إلى العام ,1142 عندما كانت الديار تابعة لبوهيميا قديماً. حينها أتى رئيس الرهبان في الدير ويدعى هنري إلى القدس وأخذ جرة من التراب المقدس، رشه على المقبرة في «سدلك»، فأصبحت مقدسة، ما جعل الناس يتهافتون على دفن موتاهم فيها، وعندما حصدت الأوبئة عدداً كبيراً من البشر في القرون الوسطى، غصّت المقبرة بالهياكل العظمية. وفي العام 1870 استخدم نجار تشيكي يدعى فرانتيسك رنت، بإجازة من أمير المنطقة، أربعين ألف هيكل عظمي، مات أصحابها ميتة طبيعية، في تزيين الكنيسة.
هكذا إذاً، يقطع الهيكل العظمي المسافة، من كونه مادة تشريحية أكاديمية يدرسها طلاب الطب والفن في آن، إلى مادة تعبيرية تدخل في اللوحة، وكذلك إلى مادة جمالية زخرفية تستخدم مطبوعة على الثياب، أو تتحول إلى شخصية رسوم متحركة كما هي الحال في «إميلي القوي»، أو تستخدم المادة المباشرة الطبيعية منها كما في الكنيسة الآنفة الذكر، أو المادة التمثيلية المصنّعة كما في منحوتة الهيكل العظمي العملاق الممددة في إحدى ساحات ميلانو بإيطاليا.
وبالعودة إلى علم التشريح، فهو يعود إلى تلك الرسوم، التي صدرت في كتاب للطبيب البلجيكي أندرياس فزاليوس، الذي قدم أولى الدراسات التشريحية لجسم الإنسان، ومن بينها عدد كبير من الهياكل العظمية، العام .1543 وأضحى بذلك واحداً من علامات النهضة العلمية البارزة في أوروبا. وقد حل كتابه في حينها محل كتب بن سينا وغالينوس.
سمير أبي راشد يقول: «في عصر النهضة، وقبله، كانوا إذا أرادوا رسم رمز الحكمة رسموا جمجمة، ذلك أن الهيكل كان دليلاً على السمو والجمال». وثمة فرق بين أن يرسم الطبيب هيكلاً عظمياً، وبين أن يرسمه فنان. لكن مادة التشريح الجمالي يدرّسها في معظم الأحيان، في المعاهد الفنية، أطباء. هذا ما أخبرنا به مدير معهد الفنون في الجامعة اللبــنانية (الفرع الأول) الفنان أكرم قانصو، عندما قال: «المادة كان يعلمها طبيب في ما مضى، والآن يعلمها رسام. عندما يعطيها الطبيب يشرحها نظرياً من الناحية العلمية، أما الرسام فيهتم بالناحية التشكيلية للهيكل العظمي، ومع ذلك فمادة «التشريح الجمالي» لا تزال محسوبة بين المواد النظرية».
الفنانون عموماً يمرون، في المرحلة الأكــاديمية، برسم الهيكل البشري والهياكل الحيوانية. قد يتأثرون بها أو لا يتأثرون، فيوسف عون تأثر بالطريقة «الهيكلية» التي يتبعها بعض الفنانين، خصوصاً في نحت هرست جونسن. وسمير أبي راشد فكر بعكس الرمز العام للهيكل العظمي، وانحاز إلى كونه «رمزاً لجمال الخلق الرباني»، وموسى طيبا، عندما سألناه، قال: رأيت الهيكل العظمي أحياناً كأنه تاريخ البشرية.
أحمد بزون
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد