انسحاب القوات الأمريكية من المدن العراقية: الدلالة والتساؤلات؟
الجمل: على خلفية انسحاب القوات الأمريكية إلى خارج المدن العراقية مفسحة المجال لقوات الأمن العراقية لكي تحل محلها فقد اختلفت التفسيرات حول طبيعة ومدى مصداقية هذه العملية ويمكن استعراض ذلك على النحو الآتي:
• النظرية التفسيرية الأولى: تراهن على أن ما حدث بواسطة القوات الأمريكية هو انسحاب حقيقي تم بموجب الاتفاقية الأمنية وبالتالي فهو الخطوة الإيجابية التي تم تنفيذها ويجب أن يتم التعامل بمصداقية مع الموقف الأمريكي ريثما تتم عملية الانسحاب النهائي للقوات الأمريكية بحسب ما هو منصوص عليه في الاتفاقية ويعتبر نوري المالكي زعيم التحالف الائتلافي الحاكم من أبرز أنصار هذه النظرية.
• النظرية التفسيرية الثانية: تراهن على أن ما حدث بواسطة القوات الأمريكية هو مجرد عملية إعادة انتشار للقوات الأمريكية ستعقبها عمليات انتشار وتمركز أخرى لهذه القوات إضافة إلى أن المواقع التي انسحبت إليها القوات الأمريكية هي مواقع تعزز قدرتها في التمركز لجهة شن المزيد من العمليات الجديدة متى ما توافرت الظروف والمبررات، وبالتالي لا يمكن عملياً الحديث عن أي انسحاب للقوات الأمريكية طالما أنها موجودة على كامل التراب العراقي، هذا وتعتبر قوى المقاومة الوطنية العراقية من أبرز أنصار هذه النظرية.
وعلى أساس هذه النظريات التفسيرية فقد انقسمت التحليلات السياسية وفقاً للرهانات التي سعت للتأكيد عليها الأطراف المعنية بالشأن العراقي، ويمكن الإشارة إلى مضمون التحليلات السياسية لواقعة الانسحاب على النحو الآتي:
• فرضية رهانات الصفقة: تقول التحليلات المساندة لهذه الفرضية أن الرئيس الأمريكي أوباما سيستخدم عملية الانسحاب التي نفذتها القوات الأمريكية من أجل تعزيز مصداقيته السياسية أمام الناخبين الأمريكيين الذين أصبحوا اليوم أكثر اعتقاداً بأن أوباما يمضي بشكل جاد في تنفيذ الوعود التي وعد بها خلال حملته الانتخابية ومن أبرزها سحب القوات الأمريكية من العراق والشيء ذاته بالنسبة لنوري المالكي زعيم الائتلاف العراقي الحاكم فقد أكد المالكي أمام العراقيين صباح اليوم أن حكومته أنجزت التزامها أمام الناخبين العراقيين بسحب القوات الأمريكية وصولاً إلى إخراجها بالكامل من العراق. ويتمثل رهان الصفقة في أن الطرفين قد عقدا صفقة سحب القوات الأمريكية إلى خارج المدن العراقية بما يتيح لكل طرف استخدام الوقائع الميدانية في عملية التسويق السياسي التي تضفي عليه قدراً أكبر من المصداقية السياسية.
• فرضية رهان المؤامرة: تقول التحليلات المساندة لهذه الفرضية أن واشنطن سعت لسحب قواتها ضمن مناورة سياسية تمهيداً لدفع العراقيين باتجاه التصويت لصالح إجازة الاتفاقية الأمنية العراقية – الأمريكية في الاستفتاء العام الذي سيتم عقده نهاية الشهر القادم وأضافت هذه التحليلات قائلة أن الفترة الممتدة من لحظة انسحاب القوات الأمريكية وحتى عشية انعقاد الاستفتاء ستشهد واحدة من أهم العمليات النفسية السرية الأمريكية والتي تهدف إلى تنفيذ سلسلة من الانفجارات والاغتيالات وعمليات العنف والخطف بما يدفع الرأي العام العراقي باتجاه مساندة بقاء القوات الأمريكية باعتبارها الضمانة الوحيدة لحفظ الأمن وتضيف هذه التحليلات أيضاً أن قوات الأمن العراقية التي ستحل محل القوات الأمريكية هي قوات تفتقر إلى القدرات الكافية لجهة القيام بحفظ الأمن إضافة إلى أنها مخترقة بواسطة العديد من الأطراف الموالية لبقاء القوات الأمريكية في العراق وتقول المعلومات والتقارير أن نوري المالكي نفسه هو من أبرز المؤيدين الداعمين لبقاء القوات الأمريكية في العراق وذلك بدليل تأييده القوي للاتفاقية الأمنية إضافة إلى قيامه بالطلب شخصياً من الرئيس الأمريكي باراك أوباما بضرورة عدم القيام بالسماح بنشر صور التعذيب والفظائع التي تعرض لها العراقيون في السجون الأمريكية لأن نشر هذه الصور في الصحافة سيدفع الرأي العام العراقي إلى التصويت في الاستفتاء في غير صالح الاتفاقية الأمنية وتشير التحليلات إلى أن المالكي وأطراف ائتلافه المسيطر على بغداد ما زالت تسيطر عليهم فكرة أن خروج القوات الأمريكية من العراق سيترتب عليه الإطاحة بحكومتهم والاحتمالات شبه المؤكدة بتقديمهم للمحاكمة بسبب مسؤوليتهم عن العديد من الملفات التي أدت إلى إزهاق الأرواح والتعذيب ومعاناة ملايين العراقيين إضافة إلى الفساد ونهب المال العام.
حتى الآن لم تحسم الخلافات والآراء والتحليلات المتعاكسة إزاء ما هو الصحيح وما مدى مصداقية السيناريو السياسي – العسكري والعسكري – السياسي الجاري تنفيذه حالياً في المسرح العراقي.
* سيناريو الصراع العراقي: نهاية المرحلة أم بداية المرحلة؟
تشير الوقائع الميدانية الجارية إلى أن الصراع حول مصير الاتفاقية الأمنية الأمريكية – العراقية ما زال يفرض حضوره القوي لجهة التشكيك في مدى جدوى ومصداقية انسحاب القوات الأمريكية إلى خارج المدن، وإحلال قوات الأمن العراقية العاجزة بدلاً عنها ولكن ما هو مثير للاهتمام يتمثل في ما يجري بشكل موازٍ على الهامش:
• بشكل متزامن مع انسحاب القوات الأمريكية بدأت الحكومة العراقية بطرح العديد من الحقول النفطية الهامة للبيع، وتقول المعلومات أن من بين المعروض للبيع حقل الرميلة الذي يحوي مخزونات نفطية تقدر بحوالي 17 مليار برميل، وحقل المنصورية للغاز الطبيعي وحقل باي حسين وحقل الزبير. وتقول المعلومات أن الأطراف التي تقدمت بعروضها في المناقصات الجاري فرزها حالياً ومفاضلتها تضم: العملاق النفطي الأمريكي العالمي الممثل بشركة "إكسون موبيل"، والعملاق النفطي الآخر الممثل بشركة "بريتيش بتروليوم"، إضافة إلى شركة "كونوكو فيليبس"، ومجموعة من الشركات النفطية العالمية التي دخلت في المناقصة ضمن صيغة "الكونسوريتوم" أي مجموعة المشاركين.
• بشكل متزامن مع انسحاب القوات الأمريكية وافقت حكومة إقليم كردستان على تمرير تسهيلات تتيح لبعض الشركات النفطية الغربية الحصول على النفط العراقي بأسعار تقل بنسبة عالية عن معدل أسعار بيع النفط العالمية، وتقول المعلومات أن نسبة التخفيض ستظل مستمرة وتتعدل باستمرار كلما تغيرت صعوداً أو هبوطاً أسعار النفط، بما يجعل من نسبة التخفيض ميزة تفضيلية تجارية ثابتة أما الفرق في السعر فإن مصيره ما زال غامضاً ولا يعرف إن كان سيذهب بالكامل لصالح الشركات النفطية الغربية أم إلى بعض "الأطراف الأخرى".
• نشرت صحيفة نيويورك تايمز تسريباً يقول أن الدبلوماسيين الأمريكيين يشددون حالياً الضغوط لدفع العراقيين باتجاه عدم إجراء الاستفتاء وتعليقه مقابل التزام واشنطن بتعليق الاستفتاء حول مصير كركوك إضافة إلى التزام واشنطن بإبقاء ائتلاف نوري المالكي في الحكومة وإطالة عمره ليستمر كنظام منصَّب (puppet regime) تحت حماية المنطقة الخضراء.
انسحبت القوات الأمريكية من المدن العراقية ولكن ما زال عشرات الآلاف من المتعاقدين الأمريكيين وغيرهم من عناصر جيوش الظلام الأمريكية موجودة داخل المدن والتي لم تتطرق التقارير إلى أي احتمالات لسحبهم. وجاءت قوات الأمن العراقية لتحل محل القوات الأمريكية ولكن هذه القوات هي التي سبق أن نفذت الكثير من الفظائع في حق العراقيين الذين اعتقلتهم بالآلاف وسلمتهم للقوات الأمريكية، فهل سيثق العراقيون بقوات الأمن العراقية أم بالقوات الأمريكية وبرغم أن العديد من التساؤلات ما تزال بلا إجابة قاطعة فإن الإجابة القاطعة الوحيدة تقول أن حقول النفط العراقي سيتم خصخصتها عن طريق بيعها للشركات الأمريكية التي ستقوم باستخراج النفط والغاز بأقل التكاليف وبيعه بأعلى الأسعار للجميع بما في ذلك العراقيون أنفسهم..
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد