بريطانيا: من يزرع الريح يحصد العاصفة!
المخاوف والشكوك، الأوصاف الخشنة والجارحة، التداعيات والمجهول، كلها كانت تتطاير بلا توقف أمام مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل، لتشكّل غيوم شكوك كثيفة تحاصر النجوم الصفراء للعلم الأوروبي والنصب التذكاري لأبرز الآباء المؤسسين للمشروع الأوروبي.
عشرات الصحافيين، من أنحاء العالم، وقفوا ليتحدثوا عن انفتاح صندوق الشرور بوقوع المحظور؛ بريطانيا قالت كلمتها، تريد الطلاق. مهما جيّر الحدث، وتضخمت توصيفات وقعه، مواساة أو استغلالا سياسيا، يبقى أنه سابقة تاريخية، لن يكون بعدها أكبر تكتل سياسي واقتصادي في العالم كما كان.
لم يستطع صحافيون أوروبيون إلا التصفيق، بحرارة وتواصل، لتجاهل رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر سؤالاً مستفزاً إن كانت هذه بداية النهاية للتكتل الأوروبي. قال يونكر، كأنه يرد على نكتة: «لا». كلمة واحدة وغادر. لتلحقه موجة تصفيق رافقته وهو يغادر. كان تصفيقاً يقول ما لا يعلنه الساسة الأوروبيون، من يعنيهم المشروع الأوروبي: وداعاً بريطانيا، بلا أسف عميق، إنها أوروبا أخرى على وشك الولادة.
الغلاف كان لازمة ضرورية لباقة لا بد منها. النعي كان مداً واحداً على امتداد التكتل الأوروبي. إنها خسارة مؤكدة لا يمكن تعويضها، ردد الزعماء والساسة الأوروبيون. لكن خلف كلمات الرثاء كان يمكن بوضوح رؤية التصميم: لن ينجو رئيس الوزراء ديفيد كاميرون بفعلته، بأي شكل كان. قال له الأوروبيون أنت من زرع الريح، من قامر بما لا يقبل المقامرة، وعليك أن تقف وجهاً لوجه أمام العاصفة.
خطة الاستجابة الأوروبية ستكون من محورين. على المدى القريب، العمل لامتصاص الصدمة، منع أحزاب اليمين المتطرف، الحركات الشعوبية، من استثمار موجة الاضطراب السياسي. اقترحت مراكز أبحاث وسياسيون أوروبيون، مسؤولون وبرلمانيون، تقديم حزمة حوافز لمواجهة تململ الشعوب الأوروبية: خطوات ملموسة لتحفيز النمو وخلق الوظائف، مواجهة تدفقات اللاجئين من دون تساهل، أي الإصرار أكثر على سياسات الصدّ، ليمكن بعد ذلك الحصول على قبول شعبي للمضي أكثر في عملية الوحدة الأوروبية.
طبعاً الحدث تم استثماره مباشرة، رغم خطورة اللحظة السياسية. من يتخذون سياسات صارمة، منتقدة أوروبياً، بخصوص اللاجئين، قالوا إن المصيبة وقعت لأن أحداً لم يقتنع بأنهم على حق. من يعانون من اقتصاد متعب، قدرته التنافسية متراجعة ولا يمكنه التقدم بلا مراكمة الديون، قالوا إن الإصرار على قواعد الموازنة والديون خلق مشكلة التذمّر الشعبي.
لكن بعيداً عن تلك المضاربات، خرجت الرسالة الموحدة فوراً: يجب البدء بعملية الطلاق مباشرة، وليس الانتظار بضعة أشهر كما أعلن كاميرون من لندن برصانة ورباطة جأش. احترام الديموقراطية شيء، وهذه مسألة لا تخص إطلاقا السماح بحفظ ماء الوجه لرجل وضع الاتحاد الأوروبي وبلاده أمام هذا المفترق النهائي. ليس فقط لأنه سيكون تمادياً، بل لأن المصلحة الأوروبية الآن هي تلقين بريطانيا، رئيس وزرائها، كل حملة الخروج، درساً لن ينسوه، والأهم درساً يكون عبرة لكل دولة أخرى يمكن أن تراهم قدوة.
باختصار شديد، إنها عملية طلاق بكل ما تعنيه من متاعب ومشقة. إذا كان بالإمكان التطلع لطلاق مسالم، في حالة الزيجات المثالية، فأمر أوروبا وبريطانيا يجعل ذلك أملاً لا رجاء منه. عملية الانفصال تنظمها المعاهدة الأوروبية في مادة مفصلة، تتضمن كل تفاصيل تصفية الإرث المشترك، من مصالح وأدوات تعايش وإدارة وصولاً إلى تصفية الموظفين الأوروبيين من بريطانيا.
منذ دخول عملية الطلاق حيز التنفيذ يصير الواقع الحر هو أن كل طرف يتدبر أمره بنفسه، لا يعود لبريطانيا شيء في البيت الأوروبي، كل موظفيها فيه يرحلون، كل مؤسسة أوروبية مقرها هناك تغادر وإلى آخر الروابط. بعدها يمكن النظر إلى علاقة أخرى، شراكة من مستوى مختلف جذرياً، حينها تكون بريطانيا طرفاً خارجياً بكل ما تحمله من ندوب فشل العيش المشترك، علاوة على مدى المصلحة في إفادة زوج سابق مع سيرة مليئة بالتعاسات.
لكن فوق كل ذلك، إنها عملية باتت الآن إشكالية جداً. جعل كاميرون الأمر حتى أصعب، بشكل أخرج بعض الساسة الأوروبيين في بروكسل عن طورهم. بعضهم لم يمانع علناً في القول إن ما فعله المقامر الكبير «جنون تام». لا يمكن لعملية الطلاق أن تبدأ حتى تقدّم حكومة بريطانيا بلاغاً رسمياً، يعلن رغبتها الصريحة بالانفصال. لا يمكن إرغام أحد على ذلك قانونياً. كاميرون يريد تأجيل الأمر، في مناورة لتقليل الخسائر، لكن بحجة أنه قاد حملة «البقاء» في الاتحاد، بات الآن مستقيلاً، لذا من غير المنطقي أن يتصدر مفاوضات «الخروج».
خلال الاجتماعات الطارئة في بروكسل، لرؤساء المؤسسات الأوروبية، للكتل السياسية في البرلمان الأوروبي، قيل كلام واضح جداً أن هذه المناورة مرفوضة جملة وتفصيلاً. قيل كلام صارم أن لا استعداد لدى بروكسل حتى لنقاش الأمر. كل ما يأمله الأوروبيون أن يجبروا كاميرون، تحت الضغط السياسي العنيف، على إرسال البلاغ إلى بروكسل، فليس لديهم أي سند قانوني يمكنه اجتراح حل بديل: لا يمكن إرغام دولة عضو على طلب الخروج من التكتل.
هذه المسائل شرحها لنا خبراء قانون مختصون بالمعاهدة الأوروبية. تعطي المعاهدة سنتين لانجاز عملية الانفصال، لكن يمكن تمديد تلك المدة بقرار أوروبي من الدول الـ 27 الباقية، بالاتفاق مع الدولة المغادرة. العملية تقود إلى اتفاقية انسحاب لتصفية الملكية المشتركة، سياسيا واقتصاديا وديبلوماسياً، قبل الذهاب لعقد اتفاقية أخرى حول العلاقة المستقبلية. كيف سيتم إجبار كاميرون على الشروع في العملية؟ يجب الانتظار. هناك قمة ستجمعه مع الزعماء الأوروبيين الأسبوع المقبل، وحينها سيقال كلام لن يسره سماعه كما بات جلياً من المقدمات.
أحاديث المسؤولين الأوروبيين أكدت أنه إن كان من مخاوف جدية، فهي يجب أن تتوجه إلى وحدة بريطانيا وليس الاتحاد. فوزر الخروج مع 52 في المئة يقل بعض الشيء عن الانقسام الكبير، لكن هناك ما هو أكثر حتى معاينة نتائج المقاطعات البريطانية. غالبية كبيرة في مقاطعة اسكتلندا، وايرلندا الشمالية، صوتت للبقاء، على عكس مقاطعتي انكلترا وويلز.
صحيح أنه طرحت فكرة استفتاءات أوروبية في دول أخرى، كما هو متوقع ومكرر من قادة اليمين المتطرف، لكنها تبقى ضعيفة الاحتمال ويعوزها الزخم الكافي. الزخم في مكان آخر واضح. زعماء اسكتلنديون طرحوا فوراً إقامة استفتاء جديد حول الاستقلال عن بريطانيا، ليرحب سياسيون أوروبيون بذلك، بلا أي اكتراث بمصير «المملكة المتحدة»، بريطانيا العظمى، بعدما صارت الآن الطليق الذي لا يتوقف عن إثارة المتاعب حتى وهو يغادر.
أكثر من أربعة عقود لم تتوقف فيها الإشكالات. تلك العلاقة يمكن أن يلخصها مثل شعبي، يردده الأوروبيون الآن، عن أكل السفرجل: «كل قضمة بغصّة». من الاستفتاء بعد سنتين على الانضمام في العام 1973، ثم مسيرة التذمّر من تمويل مساهمة بريطانيا الأوروبية وصولاً إلى الاقتطاع منها، قبل اختبار الالتصاق بواشنطن تماما، حين ذهاب لندن لغزو العراق رغم الغالبية الأوروبية المعارضة.
الأسئلة كثيرة، وجهة المخاض ليست واضحة تماماً، لكن الأكيد أن أوروبا جديدة تولد الآن. التأثيرات تشمل علاقة إشكالية مع حلف شمال الأطلسي، فأمينه العام بادر سريعا لإعلان أسفه مرفقاً بالأهم الذي يعبر عن قلقه: لا شيء سيتغير، ويبقى «الناتو» كما كان «الدعامة الأساسية للأمن الأوروبي». التأثيرات تشمل الخصم روسيا، الجوار العربي، ومكانة التكتل الأوروبي في العالم. أين سيذهب، بأي محرك جديد وبأي اندفاع؟ الأسئلة كثيرة، ما سينتجه المخاض ليس واضحاً، لكن الأكيد أن أوروبا جديدة تتشكل الآن.
وسيم إبراهيم
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد