تلصص على «تلصص صنع الله إبراهيم»
بعد الانتهاء من قراءة "التلصص"، للروائي المصري صنع الله إبراهيم، الصادرة حديثاً عن دار "المستقبل العربي"، يحقّ للقارىء أن يسأل: هل هو "تلصص" صبيّ صغير على عالم الكبار؟ أم هو "تلصص" رجل، من جيل الستينات، على طفولته البعيدة؟ مفردة "التلصص" في الاحتمال الأول معجمية خالصة لا مجاز فيها. أما في الثاني فلها محمولٌ "فلسلفي مجازي". لكن الاحتمالين قائمان. بالأحرى مؤكدان بأدلّة نلمسها عبر السرد. أما الاحتمال الأول فقائم لأن الصبي الصغير لا يني، في مشاهد عدّة، يضع عينه على ثقب مفتاح الباب لكي يستكشف عالم "الكبار" الغامض، بكل ما يحمل من ألغاز وعجائب. ولاسيما في ما يختص بعوالم المرأة وجسدها، منفردةً، أو في علاقتها الحميمة بالرجل. ما تفعله المرأة في جلستها الخاصة حين تشرع في تنظيف جسدها العاري. كذلك تنصّته، متظاهراً بالنوم، على الحديث الدائر بين أبيه وصديقه يتكلمان حول الصبية التي تاق اليها الرجل الكهل وراح يتخيلها في أحلامه تؤنس ذكورته. ثم تلصص الصبي على والده فيما يضاجع الخادمة، بعدما أوهمهما أنه ذهب إلى المدرسة، ثم اندساسه تحت طاولة الطعام ليراقب الواقعة كاملة من مخبئه، مستعينا بوصفات مشعوذة تؤمّن له التخفي عن العيون جلبها من كتاب "شمس المعارف" الذي يحتفظ به أبوه كسلاح ميتافيزيقي للقضاء على المستعصيات، من مثل العجز الجنسي وعدم المقدرة على الحفظ والأمراض، وهلمّ جرا. كثيرة هي مواقف "التلصص" مارسها ذاك الصبي الذي يحاول أن يحرق المراحل لكي يتطلّع، مبكراً، الى عوالم البالغين المبهمة. أما الاحتمال الثاني فتؤكده الانعطافة المدهشة التي مثلتها هذه الرواية في المسيرة الخلاّقة العريضة التي بدأها صنع الله إبراهيم عام 1966، وهو الكاتب الثوري المنشغل طوال الوقت بالهمّ السياسي وكشف فساد المجتمع والنظام الحاكم. تجلّى هذا المشروع "الملتزم" في كل أعماله الروائية السابقة: "تلك الرائحة"، "اللجنة"، "أمريكانلي"، "ذات"، "نجمة أغسطس" وغيرها. ثم تجيء هذه الرواية لتكوّن ما يشبه "الانعطافة" الحادّة في المسيرة بطبيعتها الفنية المؤدلجة، كأنها "إشفاقة" إنسانية "يهدهد" بها الكاتب نفسه عبر استدعائه ذاكرة الطفولة التي غيّبها نصف قرن من الزمن. هي إذاً رواية سير - ذاتية. أما دليلنا فصورة الغلاف التي تمثل فوتوغرافيا لـ"الطفل" صنع الله إبراهيم مع أبيه (عرفته من عينيه اللتين لم يغيرهما الزمن، وخصوصاً أن السارد تكلم عن هذه الصورة واصفا بزّة الطفل الزرقاء ذات الشريط الأصفر). الشاهد أن الرواية لا تمثّل فقط تلصصاً من المؤلف على طفولته، بل هو أتاح لنا، نحن أبناء الجيل الراهن، "تلصصاً جمعياً" على تلك المرحلة التي لم نعشها في أربعينات القرن الماضي في عصر الملكيّة المصرية الفاروقية.
أتقن صنع الله ابراهيم رسم العالم من خلال عيني طفل في طور التعرّف الى الوجود وقانونه. فمعظم الرجال والنساء ستلتصق بهم صفة "طويل - طويلة"، وهنا ذكاء تشكيلي يحسب للسارد، حيث كل البالغين هم في الضرورة "أطول" من الصبي وإن تباينت قاماتهم. كذلك التفاصيل الدقيقة التي لا تلتقطها إلا عيون الأطفال: الوصف التفصيلي لحشرة صغيرة تتجول على الحائط، وصف طريقة القهوة التركية، وصف تجعدات صفحات الكتاب الضخم وغلافه، وصف دقيق لجسد المرأة وانثناءاتها وهي تجلو جسدها إلى آخر تلك الالتقاطات الدقيقة. لكن الطفل ينمو في أثناء الحوادث. ينمو من دون أن يخبرنا الراوية صراحةً بذلك. نلمس نموّه حين تجدّ أشياء على عوالم الطفل مثل مواد دراسية جديدة كالجبر والكيمياء وحساب المثلثات... الخ. الأهم أن أوصافًا جديدة من قبيل "امرأة قصيرة أو رجل ضئيل" سوف تظهر، ما يشي بأن الطفل طالت قامته وبدأ مرحلة الحكم النسبي على أحجام البشر.
الراوي غير عليم. يحكي الحوادث وقت حدوثها ولا يعلم مآلاتها ولا مقدّرات الشخوص. الحوادث التي تقع خارج مجال عيني الصبي أو سمعه، لا وجود لها: "بتشوف نبيلة يا خويا؟/ - أيوه./ -وإزيّها؟/ ـ والله.../ يتوقف وينظر إليّ. يطلب من زهرة أن تصحبني إلى البلكونة. أرافقها على مضض. أختلس نظرة خلفي". لن نعرف أبداً ماذا كان يريد الأب أن يحكي عن نبيلة من أسرار. لأن الطفل - الراوية أقصي من مكان الحوار. وتنتهي الرواية بغير إغلاقة تقليدية عند نقطة كان يمكنها أن تتقدم أو تتأخر. نقطة مبهمة على خط الزمن. حين يطلب الأب من ابنه القلم الرصاص ليكتب له موضوع الإنشاء. الرواية تتحرك بين اثنتين من البنى السردية. كلتاهما تتوسّل صيغة الفعل المضارع. كأن الكاتب يقول: أنا لا أحكي عن زمن ماضٍ، بل أنا انتقلت إلى الماضي بكليّتي لأحيا فيه. فهلموا معي جميعكم! البنية السردية الأولى تتناول حوادث طفولة الصبي بين والده وأصدقائه والخادمات والجارات اللواتي كنّ يمثلن له أمهات بديلات. أما البنية السردية الثانية، وتظهر بالفونت الأسود الغامق، فذكريات عارضة يتذكرها الطفل مع أمه، الغائبة، أو مع شخوص أو كائنات مرّت به في ماض يسبق زمن الحكي. تأتي هذه التذكرات بالتداعي الحر جرّاء أشياء تحدث في الحاضر، الذي هو ماضٍ، وتذكّر الصبيّ بماض مركّب. موقفٌ ما قد يستدعي موقفا قديما مشابها، أو كلمة يسيء الطفل فهمها، نظرا الى صغر سنه، تستدعي كلمة مشابهة لها، صوتياً، من معجم الطفل. يقول الأب لصديقه مبررا إنجابه الولد على كبر: لقد انقطع "الكبود" أثناء الجماع، ولأن الطفل لم يفهم هذا المصطلح الكبير، فقد ربطه بأقرب كلمة تماثله في الحروف مما يعرف، فتذكّر عندما كانت أمه تقطع له الكبدة وتطهوها. هذه اللمحات الذكية تحسب للمؤلف لأنها تجعلنا بالفعل نستعير عين الطفل وأذنه ومنطقه البريء أيضا.
الوثب الرشيق بين هاتين البنيتين، وتيمة التداعي الحر، وتركيب الزمن الماضي البسيط على الماضي المركّب، تجعلنا نصنّف الرواية في خانة "تيار الوعي" على نحو ما: "أتابع حركاته. ينتصب واقفًا. ينحني. يدعك ركبتيه. يخلع الشال الصوفي والروب. يزيح حمالتي البنطلون عن كتفيه. يجلس على حافة السرير. يخلع الحذاء والجورب. يلبس جوربا صوفيا طويلا. يرفع ساقه اليمنى ويجذب البنطلون. يثني الساق الثانية. ينهض واقفاً. يخلع الكرافتة والقميص. يظل بالفانلة الصوفية ذات الكمّين والكلسون الصوفي الطويل. يدس قدميه في القبقاب. يعلق ملابسه في الشماعة. ينحني مباعدا ما بين ساقيه. يفك رباط حزام الفتق الذي يدور بوسطه وبين فخذيه. يجرّه بصعوبة ويلقيه فوق المكتب متنهداً في ارتياح". هذه العين التي تلتقط أدق الأشياء ولا تسمح لتفصيلة واحدة بالهرب، وهذه الجمل البسيطة المتحررة من الروابط وأدوات العطف (و، ثم، ف، بعد ذلك، الخ)، ثم الوثب الحر بين العربية الفصحى والدارجة المصرية، والحياد في الرصد والوصف غير المحمّل وجهة نظر أو أحكام قيمة، ثم المقدرة المكينة على حكي تاريخ مصر وعربدات الملك وسياسات الأحزاب وانعكاس هذا كله على الشعب في طبقته البورجوازية الدنيا، كل هذه الخصائص تعطي الرواية عمقها وبراءتها وطفولتها في آن واحد.
الأب واحدٌ. وهو بطل الرواية من دون منازع. لكن الأمهات كثيرات: ماما روحية، ماما بسيمة، ماما تحية. ليس بينهن أمّه الحقيقية التي غيّبتها عنابر المصحّة العقلية، فيستحضرها عبر تداعيات الذاكرة وعبر الجارات اللواتي غدون أمهات بديلات. هي رواية "البحث عن الأم"، من دون تصريح بذلك. والأم قد تكون الوطن. وقد لا تكون.
فاطمة ناعوت
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد