حلف الناتو و المصير المجهول
الجمل ـ عبد المتين حميد: في الوقت الذي كان فيه الناتو يتجهز لامتصاص الضربة التي كان يلوّح بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بضم شرق أوكرانيا, تفاجأ الناتو بلكمة باليد اليسرى في خاصرته عبر إلحاق شبه جزيرة القرم بالاتحاد الروسي.
ففي مقابلة أجرتها مجلة الفورين بوليسي مع أندريه فوغ راسموسن السكرتير العام لحلف شمال الأطلسي – الناتو أقرّ: "إنّ إلحاق روسيا المفاجئ للقرم فرض واقعاً جديداً على الأرض من الصعب تغييره, هذه الخطوة الروسية هي بمثابة منبه الإيقاظ للتحالف الذي يضم 28 عضواً, هذا التحالف الذي تأسس بهدف مجابهة العدوان السوفيتي المحتمل خلال الحرب الباردة." و قال راسموسن بأنّ الناتو ملتزم بحماية بولندا و بقية أعضاء الحلف من دول البلطيق مما أسماه "العدوان المتزايد و الرغبة الروسية لابتلاع الأراضي." و أضاف: "لقد كان الوقت متأخراً جداً لكبح انضمام القرم لروسيا أو العمل على إعادتها تحت سيطرة الحكومة المركزية الهشة الأوكرانية".
لقد كان الناتو قلقاً من توجه أنظار روسيا نحو شرق أوكرانيا و لم يتنبّه لاحتمالية ضم أجزاء أخرى من أوكرانيا كشبه جزيرة القرم. أمّا الآن فقد تعزّزت مخاوف الناتو أكثر من عدم وقوف روسيا عند هذا الحد, بل ستذهب إلى ما هو أبعد من ذلك. بينما على الضفة الأخرى فيبدو و كأنّ الناتو سيكتفي بالمشاهدة فقط! فالسكرتير راسموسن قال: "في حال ضمت روسيا شرق أوكرانيا فإنّ العواقب ستكون وخيمة," إلا أنّه لم يفصح عن ماهيّة هذه العواقب. علاوةً على ذلك قام بالتأكيد على: "عدم دراسة الناتو لأي خيار عسكري حتى الآن, و الناتو يرغب بعدم تصعيد التوتر مع روسيا و بالابتعاد عن الطريق الذي قد يؤدي إلى المواجهة المسلحة مع موسكو."
ما قاله راسموسن يأتي في وقت تعاني فيه كل من بريطانيا و أمريكا و بقية أعضاء الناتو الـ 26 الضياع الكامل و الحيرة الشديدة من تصرف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. فمنذ عدة أسابيع كان بوتين يرحب بعشرات الآلاف من السياح في أولمبياد سوتشي الشتوي. بينما اليوم فإن بوتين في مواجهة حاسمة مع الرئيس الأمريكي باراك أوباما, و أوصل العلاقات الروسية الأمريكية إلى أسوأ مستوياتها منذ عقود, و استعاد ظروف الحرب الباردة من جديد. هذا ما عبّر عنه راسموسن بقوله: "لسنا مع الاعتقاد بأن الحرب الباردة تنتمي إلى الماضي؛ و مع أنني شخصياً لا أميل إلى تسمية الحوادث الحالية بالحرب الباردة الجديدة, فإنه يوجد العديد من المؤشرات الحاضرة على الجانب الروسي تذكرنا بالحرب الباردة التقليدية, و هذا ما يقلقنا."
التحرك الروسي باتجاه القرم لفت الانتباه إلى ضبابية المصير المحتمل الذي ينتظر حلف الناتو؛ و للمفارقة فإن الخوف من المصير المجهول ليس من التهديد الروسي فقط بل من الـ (لا اهتمام) الأمريكي. فخلال السنوات الماضية جرت اجتماعات غير علنية بين مسؤولين بارزين من إدارتي بوش و أوباما ناقشوا خلالها قيام أعضاء الحلف الأوروبيين بخفض إنفاقهم على الدفاع و تحميل مسؤولية أمن القارة الأوروبية بشكل كبير على عاتق الولايات المتحدة. من جهتهم عبّر أعضاء الناتو الأوروبيين علانيّةً عن قلقهم من الهدف الذي أعلنه أوباما القاضي بخفض مصروفات الدفاع الأمريكية و نيّته التركيز بشكل أكبر على آسيا؛ فهم يخشون أن يكون المقصود منه ذلك عدم التزام إدارة أوباما بحلف الناتو خلافاً للإدارات السابقة. إن سياسة خفض الإنفاق على الدفاع تقلق راسموسن ذاته فقد قال: "كنت آمل أن تدفع هذه الأزمة الدول الأوروبية إلى تدعيم ميزانية الدفاع التي وصلت إلى مستويات منخفضة تهدد الفعالية المستقبلية للحلف, فمعظم الدول الأوروبية اقتطعت من إنفاقها على الدفاع حوالي 40%, و لو استمر هذا التوجه على ما هو عليه عندها لن يتمكن الحلفاء الأوروبيون من تشكيل رادع فعال و دفاع مشترك, لذا لا بد من عكس هذا التوجه."
حالياً فإنّ أقصى ما يمكن للناتو به هو طمأنة أعضائه الشرق أوروبيين و بالذات بولندا و دول البلطيق ذات الحدود المشتركة مع روسيا, التي تتساءل دائماً عما إذا كانت هي الهدف التالي لبوتين. فقد أضاف راسموسن: "إنّ الحلف ملتزم بالدفاع عن جميع أعضائه و سيتخذ خطوات قاسية – لم يحدد ماهيّتها أيضاً- لحماية هذه البلدان في حال غزوها من قبل روسيا." أما الإدارة الأمريكية فإنها لم تتحرك بشكل فاعل لحماية الحلف و أعضائه و جلّ ما قامت به هو إعلان البنتاغون مؤخراً خططاً لنقل دزينة من طائرات الـ F-16 إلى بولندا و رومانيا بهدف مساعدة البلدين على مراقبة أجوائهما و حدودهما بشكل أفضل. بالطبع هكذا خطط لم تقنع دوب البلطيق و بولندا التي باتت على قناعة بعدم اتخاذ الغرب للخطوات الكفيلة بردع بوتين.
أمّا على المستوى الشخصي فقد قال راسموسن: "إنّ الأزمة الراهنة تشكل حالة سريالية بالنسبة لي؛ لقد ترعرت في ظل وجود الحواجز ما بين المعسكر السوفيتي و غرب أوروبا لدرجة أنّه لم يخطر في بالي تغير الوضع في يوم من الأيام, و ثمّ فجأةً و في ليلة واحدة كل شيء تغيّر... يجب الانتباه إلى أنّ الوضع على وشك أن يتغير من جديد, إلا أنّه هذه المرة سيتغيّر نحو الأسوأ." و ختم بقوله: "هذه محاولة روسيّة لإعادة رسم الخريطة و أنا أرغب إلى حدٍّ ما بتسميتها النسخة الروسية المنقّحة؛ و هذا غير مقبول في القرن الحادي و العشرين."
الأزمة الحالية هي التحدي الأكبر الذي واجهه الناتو منذ عقود و قد أصابت في الصميم الهدف الرئيس من تشكيل هذا الحلف, و في ظلّ تلكؤ الولايات المتحدة عن تقديم الدعم العسكري للناتو لا يتبقى أمام أعضاء الحلف سوى رفع أيديهم نحو السماء مبتهلين: "يا الله ما إلنا غيرك يا الله".
الجمل
إضافة تعليق جديد