رحيل فرانسوا نوريسييه الوجه الأسطوري في الأدب الفرنسي

18-02-2011

رحيل فرانسوا نوريسييه الوجه الأسطوري في الأدب الفرنسي

غيّب الموت، نهار الثلاثاء الماضي، الكاتب والروائي الفرنسي فرانسوا نوريسييه، عن عمر 83 سنة ـ وهو الذي كان يعد واحدا من الوجوه «الأسطورية» للأدب الفرنسي في القرن العشرين ـ وفقا لما أعلنته «أكاديمية غونكور» في بيانها، إذ كان الكاتب الراحل عضواً فيها لمدة ثلاثين سنة قبل أن يستقيل منها العام 2008 لأسباب صحية: إذ عانى في السنوات الأخيرة من حياته من مرض الباركينسون الذي كان يطلق عليه اسم «الآنسة ب« في كتبه. فرانسوا نوريسييه
كان نوريسسيه يعتبر نفسه كاتبا لكنه «روائي حتى النخاع»، وقد نجح في بناء عمل أدبي يزاوج ما بين التعليقات والحوليات والروايات، وذلك من أجل أن «يتفحص بتمعن متاعبه وتناقضاته». أطلق عليه لقب «السمو الرمادي» وقد عمل مستشارا أدبيا في منشورات غراسيه بين عامي 1958 و1996، لكنه كان ناقدا أدبيا أيضا في «الفيغارو ماغازين». انتخب عضواً في أكاديمية غونكور العام 1977 قبل أن يصبح أمينها العام عام 1983 ورئيسها بين عامي 1996 و2002.
ولد نوريسسيه في 18 أيار العام 1927، فقد والده وهو في الثامنة من عمره، وقد حاز شهادة الدبلوم من معهد الدراسات السياسية في باريس. بعد الحرب العالمية الثانية عمل في منظمة للاجئين. بدأ مشواره الأدبي وهو في الرابعة والعشرين من عمره حين نشر روايته الأولى «المياه الرمادية» (1951) وقد اعتبرها النقاد يومها أنها تنتمي إلى الخط الأدبي الذي أرساه شاردون. في السنة التالية، دخل إلى منشورات دونويل حيث أصبح أمينها العام (1952 ـ 1956) لينتقل بعدها على مجلة «لا باريزيان» ليكون رئيس تحريرها بين 1956 ـ 1958، ومن ثم مستشارا أدبيا لمنشورات غراسيه.
في العام 1964 أصدر رواية «بورجوازي صغير»، واعتبرت رسما ذاتيا قاسيا لشخص لم يتوقف عن كتابة «لا أحب نفسي، لا أحب حياتي»، مثلما اعتبرت رائعته الكبرى، وقد عدت الجزء الثاني من ثلاثية تنتمي إلى أدب السيرة الذاتية بدأها مع رواية «أزرق مثل الليل» (1958) وانتهت بكتاب «قصة فرنسية» (1966) الذي حاز الجائزة الكبرى للرواية من الأكاديمية الفرنسية.
بعدها بأربع سنوات حازت روايته «الانهاك» جائزة «فيمينا»، وأتبعها بروايات عديدة مثل «ألمانية» (1973) و«متحف الإنسان» (1978) و«امبراطورية الغيوم» (1981) و«عيد الآباء» (1986). في العام 1990 أصدر كتاب «براتيسلافا» الذي قدم فيه تأملاته حول الشيخوخة التي بدأت تصيبه، على الرغم من أن فترة التسعينيات كانت من أغزر الفترات على صعيد الإنتاج إذ نشر خلالها العديد من الكتب ذات الصلات الاجتماعية والسياسية كما عن الحياة الأدبية الفرنسية.
ولتقديم صورة أشمل عن هذا الكاتب، اخترت ترجمة مقتطفات من حوارين أجريا معه العام 2008، الأول في مجلة «الاكسبرس» الفرنسية، وكان سببه صدور كتابه «مياه النار»، أما الثاني، فقد أجرته معه صحيفة «لوفيغارو»، في العام نفسه، بعد أن أعلن استقالته من أكاديمية غونكور التي تمنح جائزتها الأدبية الشهيرة كل عام. وفي هذا الحديث يدخلنا نوريسييه أكثر إلى تفاصيل هذه الجائزة وإلى التأثيرات التي تتركها على الحياة الأدبية في باريس، كما اهتمام السياسيين بها، من هنا لا عجب إذا إذ عرفنا ما تصنعه الجائزة في كل عام من حدث أدبي يغطي على الأحداث الأخرى.
هل بإمكانك أن تخبرنا عن تكوينات «مياه النار»؟
كتبت هذا الكتاب عام 200 تقريبا، بدون علم زوجتي، حين بدأت الفوضى تعم حياتنا وحين أصبحت فوضى استعراضية بشكل أكبر. كانت زوجتي قد بدأت تشرب الكحول بشكل حقيقي عام 1994، من ثم أعطتني الانطباع بأنها حاولت التوقف، لكنها لم تنجح في ذلك. أتجنب استعمال كلمة «الانتحار»، إلا أن الأمر كان كذلك، أمرا منهجيا، ذا حزن بدون اسم.
لمَ صدر اليوم فقط؟
توفيت زوجتي العام الماضي. وقد بقي الكتاب طويلا في صندوق عن منشورات غاليمار. كما تعرف، إن قصص العائلات هي قصص معقدة في أغلب الأحيان، إذ لا نعرف أبدا كيف ستتخذ الأشياء شكلها. على أحد البواب أن يفتح أو أن يغلق، وإذا ما أردنا أن يكون مغلقا فأبسط الأمور أن نغلقه.
ما الأسباب التي دفعت بزوجتك أن تغرق في الكحول؟
هذا الكتاب هو رواية. إنها المرة الأولى التي أضع فيها هذه الكلمة منذ زمن بعيد على غلاف أحد كتبي. لا أعالج في موضوعه فكرة «هل أننا ننتحر في حياة زوجية؟» والجواب موجود في الكتاب: بلى اننا ننتحر. كما أنني لا أعالج فيه وسائل تدمير الذات المختلفة؟ فموضوعه، وبشكل دقيق وبشكل ضبابي في الوقت عينه هو التالي: ما هي درجة الشغف التي تسمح لنا باحتمال الآخر إلى جنبنا، بينما نحن في الواقع لم نعد نحتمله.
(...)
لم أكن طموحا
بموازاة نشر هذه الرواية، ينشر صديقك الكاتب السويسري جاك شيسيكس كتابا صغيرا يقدم إليك فيه التحية، وهو بعنوان «البساطة تحفظ اللغز» (غاليمار)، وتكتب له مقدمته... لماذا؟
بالطبع، ليست هناك أي صدفة في صدور الكتابين في الوقت عينه. السبب عادي جدا: انتبهنا، شيسيكس وأنا، أنه في حلقة معارفنا، بأننا كنا الوحيدين اللذين كنا نضع الأدب في مكانته الحقيقية. ما من أناس نستطيع أن نتصل بهم هاتفيا كل نهار أحد لنتحدث معهم حول الكتب: «هل قرأت هذا الكتاب؟ أو ذاك؟ ما انطباعك عنه؟» يبدو الأمر مستغربا في الألفية الجديدة، حين نجد عجوزين شابين يتناقشان بالأدب مثل أساتذة الأدب. على كل ليست هناك 36 طريقة لحب الأدب.. يمكننا أنا وشيسيكس أن نقوم بالفكرة ذاتها وهي أن شخصيات «التربية العاطفية» في نهاية رواية فلوبير، هي «أفضل ما حصلنا عليه». صحيح أنني وثقت بالأدب كي أتحمل الحياة، وأشعر بأنه لم يخني كثيرا...
لكن، اليوم، ألا تبادل موقعك بكونك «بابا الآداب» بموقع شاعر ملعون مجهول، يمكن أن نكتشفه بعد موته بفترة طويلة؟
من الجيد أنك تجعلني أجاوب عن هذا الأمر. بيد أني لم أرتكب خطايا كبيرة لا في حياتي ولا في أدبي. لقد حملت أحكامي باكرا. كانت تلك عادة مزعجة قليلا، في أن أحب قول ما أفكر فيه. لا اشعر بأني أخطأت في أغلب الأحيان. لم أجد هذا الشغف للأدب في مهدي، بل أنا من أبدعها، اخترعها ووضعها في قلب حياتي....
قبل أربع وخمسين سنة، وفي نهاية كتابك «بورجوازي صغير» تنصح أولادك بأن يفشلوا في حياتهم؟
لقد اتبعت هذه النصيحة أنا نفسي. لو تخيلتم بأن الطموح كان ينهشني والوصولية ومذاق الانتصار لكنت قمت بأشياء أكبر من ذلك...
لماذا غادرت لجنة أكاديمية غونكور؟
إني أرحل بهدوء. تم انتخابي في أكاديمية غونكور العام 1977، وعملت فيها أمينا عاما ومن ثم رئيسا. كل هذا الأمر كان يتطلب نشاطا هائلا. اليوم ولأسباب شخصية، مرتبطة بصحتي وبأحداث متعلقة بها، يبدو لي أن اللحظة قد حانت لكي أرحل. فالنقاشات في قلب الأكاديمية تتطلب قوة لم أعد أحظى بها.
كيف تصف عملك في قلب هذه المجموعة؟
حين كنت رئيسا للأكاديمية، اكتشفت أن المثابرة على القراءة قد تضاءلت. لذلك لم أتوقف عن الهمس بمبدأين لأصدقائي: الأول كان «اقرأوا» والثاني «تعايشوا». أنا نادم في الواقع على أنه لم تعد هناك «صداقة» بيننا، أو على الأقل لم يعد هناك تواطؤ مثلما كان موجودا في الماضي بين لانو وروبليس وبازان، على سبيل المثال.
ما الذي تغير خلال هذه السنين الطويلة؟ هل هو الاستقطاب الإعلامي حول الحكم والنتيجة؟
لقد وجد الاستقطاب دائما. أنا في موقع جيد يسمح لي بمعرفة ذلك. في العام 1968، استقال لوي أراغون من اللجنة بعد أن فشل في إقناعهم بمنحي الجائزة. ربما، في تلك الفترة، كانت النقاشات الحادة داخلية، أما اليوم، فنجدها تمتد إلى الصحف. وفي أثناء ذلك، يتراءى لي أن وصول برنار بيفو إلى اللجنة يتوافق مع تاريخ مفصلي. إنه عضو مثالي يقرأ كثيرا، ويفكر قبل أن يتكلم ويقول ما يفكر به. عارضوني كثيرا في اللحظة التي تم انتخابه قائلين إنه ليس «كاتبا»، مثلما تقتضي عادة القبول في الأكاديمية، إلا أنه شخص أثر كثيرا على الأدب المعاصر. وهذا ما يشكل بالنسبة إلي أمرا أساسيا.
من هو عضو غونكور الذي أثر بك أكثر من غيره؟
سأختار قصدا من بين القدامى هيرفيه بازان. كان يبدو مثل بورجوازي من القرن السابع عشر، منحدر من صلب لويس الحادي عشر، الذين يبحثون عن القلادات. كان شخصا مهووسا غريبا. كان يصلح الأثاث القديم، السجاد. كان رجل الهوامش الذي يصر على العيش في الضاحية الشرقية. لقد أثرت بي زمالتنا في أكاديمية غونكور.
ومن بين الأعضاء الحاليين؟
أوجه بشكل طبيعي تحية إلى إدموند شارل – رو. إنها صديقتي منذ العام 1951، إنها صداقة من دون شوائب هذا إذا استثنينا بعض الاختلافات السياسية الطفيفة. أعجب بها بسبب طباعها. لقد وصلت إلى الأكاديمية العام 1983، وقد حسنت الأكاديمية كثيرا. إذ منذ أن ترأستها وهي تصرف الكثير من أجلها، تسافر كثيرا وتعرف بها في العالم.
أي كتاب تمت مكافأته وأثار الرضا أكثر من غيره؟
رواية «إنغريد كافين» لجان – جاك شولتس. أنه كاتب نادر، إنه طريدة أدبية حقيقية. في كتابه نرى الحرب، الاضطهاد، لكننا نرى أيضا السخرية والمرض. لم أكن أعرفه شخصيا. قرأت كتابه وبدأت شيئا فشيئا أتحالف برأيي مع أعضاء اللجنة قبل أن أفرضه. كان خصومه يصفون الكتاب بأنه «شيء باريسي صغير». وحين نفكر بأن الكاتب هو يهودي من مارسيليا مصاب بشلل الأطفال، فإن هذه الصفة تدفعنا إلى الابتسام. ثمة رواية أخرى وهي رواية «عشيقة بريشت» لجاك بيير أميت (العام 2003)، وهو خيار صاف أثار العديد من ردات الفعل العنيفة، ولا أعرف لماذا.
ندم
هل من ذكرى خاصة عن دورك كرئيس للأكاديمية؟
جعلتهم ينتخبون جورجي سمبرن العام 1996، قبل أن أتبين من أن قوانيننا لا تسمح لنا باستقبال أعضاء غير فرنسيين. لذلك أمضيت صيفا بأكمله وأنا أعمل، وأنا أقرع الجرس حتى على أبواب الوزراء، كي أبدل قواعد هذه المؤسسة: يمكننا أن نفعل أي شيء داخل أي مؤسسة شرط أن نقوم بذلك بهدوء.
هل أنت نادم على شيء ما؟
على أنني لم أستطع فرض ميشيل ويلبيك. أتذكر أنه بعد فترة قصيرة من توزيع الجائزة (التي ذهبت يومها إلى بول كوستان)، تمّ استقبال أعضاء اللجنة في الاليزيه. صرح يومها الرئيس شيراك بتصريح جريء، قال: «لكن يا نوريسييه، إن ويلبيك هو كاتب الأجمات والأدغال لا يمكنك أن تدافع عنه». احتججت على قوله شارحا له بأن ليس دوره أن ينحاز بهذا الشكل. عند نهاية الوليمة، وقف الرئيس شيراك. وبقيت جالسا بشكل متعنت وبعد أن اقترح الرئيس نخبا بصحة أكاديمية غونكور، نهضت واقفا بدوري وشربت بصحة «ميشال ويلبيك الذي يعرف الوحدة هذه الأيام».
إذاً يهتم رجال السياسة بجائزة غونكور؟
لقد جاء ميتران لتناول طعام الغداء معنا مرتين وفقا لطلبه. أما حين جاء فاليري جيسكار ديستان إلى طاولتنا فقد تحدث كثيرا، وبثقة، عن طرق المحادثة في القرن الثامن عشر. أذكر أيضا أنه في صيف ما، جاء دومينيك دو فيلبان – حين كان لا يزال رئيسا للوزراء. كنت أتناول طعام الغداء، بانتظام، كل سبت في «ماتينيون». كان يقوم بحملة من أجل روايته، بمثابرة كبيرة، لدرجة وجدت نفسي مرغما على تحذيره بتهذيب قائلا: «إن كنت ستحدثني كل أسبوع عن هذا الكتاب، فلن أعود مجددا».
كيف ترى إلى مستقبل أكاديمية غونكور؟
لقد عرفت العديد من المشكلات، من المشاجرات، تمت مهاجمتها بقسوة لكنها منذ 104 سنوات لا تزال على قيد الحياة وفي ظروف صعبة. كل سنة يتحدثون عن موتها وكل سنة تتصدر الرواية التي تختارها الصفحات الأولى من الصحف. ثمة حسنة في أكاديمية غونكور: إنها تحيي الأدب.

اسكندر حبش

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...