الإبداع القصصي عند يوسف ادريس
لعله من باب تحصيل الحاصل، الإقرار بالمكانة التي يتبوؤها يوسف إدريس، كأحد الأعمدة الأساسية في صرح الثقافة العربية، يشفع له في ذلك مساهماته المتعددة في أكثر من مجال ابتداء من القصة القصيرة، ومرورا بالكتابة المسرحية، وانتهاء بالرواية، علاوة على إسهاماته الصحفية بكم من المقالات السياسية على امتداد تاريخه النضالي والإبداعي ، فقد كان الرجل مثيرا للجدل، نتيجة للقضايا الشائكة التي خاض فيها، ولجرأتـه في تناولها، وقد جاء كتاب الإبداع القصصي عند يوسف ادريس “لتسليط الأضواء الكاشفة على هذه الشخصية الأدبية المتميزة، وذلك من خلال تتبع مسارها الفكري والإبداعي والنضالي. بل والوقوف عند أهم محطات تكوينها الشخصي،كإنسان أولا ثم كمبدع ثانيا ،له رصيد يتعذر عن الحصر.. ولقد كان الكتاب بحق جامعا ومانعا.
ولعل ذلك ما حدا بمترجمه “رفعت سلام” أن يقيمه بما يلي “يمتد (الكتاب) لمحاولة فهم ما وراء الأعمال الأدبية، نشأة القصة في مصر، وتطورها إلى أن وصلت إلى يد يوسف إدريس، ووعيه الفكري وانتماءاته السياسية وتحولاته، وحتى تأثير الكتابة الصحافية وممارسته الطبية على كتابته القصة القصيرة” ص:6.
ومما أضفى قيمة خاصة على الكتاب ذلك الجهد المضني الذي بذله المؤلف من أجل حصر جل، إن لم نقل كل إسهامات يوسف إدريس في بيبليوجرافيا غنية، في حيز من الصفحات يصل إلى ستين صفحة. وينطلق مؤلف الكتاب من محاولة التأصيل للقصة القصيرة في مصر حيث يرى أن بدايتها ارتبطت بالترجمة، مما يعني أنها اقتباس ثقافي من الغرب، وقد تمثلت هذه الترجمة على الخصوص في إبداعات “دي. موبسان” و”تشيكوف” واعتبر الكاتب قصة “ما تراه العيون” لمحمد تيمور والتي نشرتها “السفور” سنة 1917 نقطة الانطلاق الحقيقية للقصة المصرية، كما تعتبر رواية “زينب” لمحمد حسين هيكل المنشورة سنة 1913 أول رواية مصرية.
وبعد مناقشته لحيثيات البداية يتوقف الكاتب طويلا عندما يسمى ب “المدرسة الحديثة” التي تأثرت،إلى أبعد الحدود، في انتاجاتها القصصية، بالأدب الروسي ،وخاصة فيما يتعلق بميول الروح الانسانية التي كانت الميزة اللافتة لكتابات “تولستوي” و”ديستويفسكي” و”غوركي” وغيرهم وقد غلبت على أعضاء “المدرسة الحديثة” السمة الواقعية، بما تعنيه من فضح للفوارق الطبقية والجهل والظلم الاجتماعي..ولعل هذا ما حدا بهم الى تخليص النص القصصي من الصبغة الرومانسية، وبطبيعة الحال انعكس توجه المدرسة الواقعي على اللغة بحيث جعلتها قريبة جدا من الواقع، وخاصة فيما يتعلق بالحوار،الذي غلب فيه أعضاؤها اللهجة العامية، حتى يكون-حسب رأيهم- أكثر صدقا وتعبيرا.
ويرى المؤلف أن يوسف ادريس كان بحق، الوريث الشرعي للمدرسة الحديثة، إذ حمل أهم قيمها، ودافع عنها من خلال ابداعاته وسجلاته الفكرية، وانتصر للعامية بل ولم يخف استخفافه باللغة الفصيحة وقد تأثر-مثل أعضاء المدرسة الحديثة- بكتابات الأدباء الروس وخاصة “تشيكوف” و”جوركي” و”ديستويفسكي” كما أنه تشيع للواقعية ليرى أن دور الأديب هو مراقبة الحياة وكشف حقائقها.
وفي فصل شيق توقف المؤلف عند حياة يوسف ادريس الذي ولد في 19 مايو 1927، فأبرز أهم المحطات التي أثرت في حياته، فنعرف من خلالها يوسف الصغير الذي عانى من حياة مضطربة وغير مستقرة في الريف المصري، وهذا ما سيبصم مستقبلا جل إبداعاته ..وفي مرحلة الشباب تميز يوسف إدريس بالحيوية، فقد انضم الى النضالات الطلابية في كلية الطب وسط أجواء اتسمت بالتوتر السياسي والاجتماعي في مصر..وبما أنه كان يساري التوجه، فقد اغتبط اغتباطا كبيرا بثورة الضباط الأحرار سنة 1952 تلك السنة التي كان فيها يوسف ادريس قد بدأ تدريبه الطبي في القصر العيني وفي نفس الوقت أخذ يكرس حياته، جديا، للكتابة الإبداعية وكانت قصته الأولى “النظرة” مبشرة بموهبة كاتب واعد..توالت قصصه، فيما بعد، حتى أصبح مسؤولا عن القسم الأدبي بمجلة “روز يوسف” لكن ما يجدر بالملاحظة في هذه الفترة إن" شهر عسله "مع الثورة لم يدم طويلا، إذ أن سرعان ما أخذ يوجه انتقاداته لسياسة عبد الناصر مما أدى الى أن يزج به في السجن سنة 1954، وقد اتسمت فيما بعد العلاقة بينه وبين النظام الناصري بحالة من الشد والجذب..نشر يوسف ادريس مجموعته القصصية الأولى “أرخص ليالي” عام 1954، وبعد ذلك عرفت النور روايته الأولى “قصة حب” ولم يمض وقت طويل حتى قدم نفسه ككاتب مسرحي بكتابته لمسرحيتين “ملك القطن” و”جمهورية فرحات” ولقد تقلد يوسف ادريس مجموعة من المهام في مساره العملي محاولا الموازاة بين مهنته كطبيب وابداعاته الأدبية ولعل أهم الانتكاسات التي أصيب بها الكاتب وأثرت بعمق في حياته تتمثل في أمرين مهمين: إصابته بمرض القلب، وهزيمة 1967 وإذا انتقلنا الى الجانب الذي يهمنا أكثر في الكتاب وأعني به مسار يوسف إدريس الابداعي، فيمكن الوقوف على مصادر التأثير في ثقافته، وتتجلى بالخصوص في اطلاعه على الأدب العالمي وخاصة الروسي وبعض الكتاب الفرنسيين والانجليز، دون إغفال قراءته للأدب الآسيوي ممثلا في “طاغور” وبعض الكتاب الصينيين والكوريين واليابانيين، ويلاحظ المؤلف تأثير مهنة الطب على الكاتب بشكل واضح فأجواء الأطباء والممرضين والمرضى تبرز واضحة في جل بداعاته.
ومما يستحق التسجيل في هذا الصدد ضعف ثقافة إدريس التراثية العربية. إذ كان، ومنذ نعومة أظافره يلمس في نفسه نفورا من الثقافة الكلاسيكية العربية وخاصة الشكل المحبط الذي تقدم به.
وقد يصلح لفظ “العصامي” الى حد كبير لإطلاقه على يوسف إدريس فقد تدرج في تمرين نفسه على الكتابة القصصية وتعلم بالخبرة، أن أول جملة هي ذات أهمية كبرى للنجاح النهائي للقصة كلها وأما الهدف الذي كان يسعى إليه دوما، وهو يمخر عباب التجربة الإبداعية، فيتجلى في اقتصاد التعبير يقول يوسف ادريس “إن الهدف الذي أسعى إليه هو أكثف في خمس وأربعين كلمة أي في جملة واحدة تقريبا الكمية القصوى الممكنة من الاحساس، باستخدام أقل عدد ممكن من الكلمات” ص70. وعليه فقد كان يوسف ادريس يعتبر الإيجاز في القصة القصيرة من أهم الخصائص الأسلوبية التي على الكاتب أن يناضل من أجل تحقيقها، وفي ذلك يقول “فالقصة القصيرة أكثر الأشكال الأدبية إيجازا تشبه القنبلة الذرية في صغرها وفعاليتها ومع ذلك فهذه القنبلة يمكن تصنيعها-فقط-على أيدي أناس ذوي موهبة” ص75.
ويتميز أسلوب يوسف إدريس بالواقعية ممثلا كما يرى المؤلف في الأصداء الاجتماعية، واختفاء الصبغة الرومانسية، وثراء التفاصيل الواقعية، والبنية المتوازية، واللغة السلسة المتدفقة التي تحذو حذو الأنماط العالمية في تركيب الجملة والمفردات و الاقتصاد في التعبير” ص113، هذا فضلا على استخدام أسلوب التوازي في بناء الجملة ونمط التعبيرات الساخرة ومما أثر على أسلوب يوسف ادريس سلبيا في كثير من القصص-كما يرى المؤلف-ارتباطه بموقف ايديولوجي محدد مما أدى إلى إضعاف من القيمة الفنية لبعض قصصه فادريس كان كاتبا ملتزما يؤمن بأن للكاتب رسالة لابد أن يؤديها منسجما مع قوله إن “القصة لاقيمة لها في ذاتها، فالإنسان، الحب، الحياة، هم المسائل الأساسية إن القصة توفر التعبير عن القيم ورسالة الحياة وطالما أن الكاتب لم يستكمل إخلاصه، فسوف يعبر عن نفسه دائما بطريقة جافة ومتلعثمة” ص73.
وإذا كانت مهنته كطبيب أفادته كثيرا في أدبه، فعلى العكس من ذلك، أثرت ممارسته للصحافة سلبا على إبداعاته فأصبحت بتأثير منها بعض قصصه “تخطيطات صحفية من نمط اليوميات” ص148.
وبالوقوف عند لغة يوسف ادريس يمكن أن نسجل أن قناعاته الايديولوجية أثرت على موقفه من اللغة بحيث أنه عمد إلى العامية في الحوار، دون أن يتحمس للفصحى التي-حسب رأيه-لا يمكن أن تعبر عن توجهات الشعب وطموحاته، وقد شكل الحوار-تبعا لذلك-جزءا من التطور الدرامي للشخصيات الذين هم في الغالب-في قصصه-معزولون، يحاربون من أجل الصمود أمام مصاعب الحياة والتي غالبا ما تقهرهم.
وأخيرا لعل هذه الوقفة العجلى عند كتاب الابداع القصصي عند يوسف ادريس تظهر بجلاء أهمية هذا الكتاب الذي يخصص للإحاطة بشمولية وتدقيق بكاتب عربي وهذا ما كرس الباحث “ب.م كربرشويك” جهده للقيام به، وبالفعل لقد تحقق له ذلك من خلال هذا المؤلف الذي يستحق عناء القراءة المتفحصة والمتأنية، نظرا لكم المعلومات التي يحتويها والقدرة على التحليل والاستنتاج التي تواكب صفحات الكتاب من أوله إلى آخره.
ب.م كربرشويك-الابداع القصصي عند يوسف ادريس-ترجمة: رفعت سلام-دار سعاد الصباح-الطبعة الأولى-1993-
إضافة تعليق جديد