ساركوزي وإعادة ترتيب أولويات قصر الإليزيه
الجمل: متابعة العلاقات الفرنسية – الأمريكية تكشف بكل وضوح مدى ازدواج المعايير بالنسبة للطرفين إزاء بعضهما البعض وبتحديد أكثر وضوحاً، فإن كل طرف يظهر خلاف ما يبطن في تعامله إزاء الآخر.
* السياسات الخارجية والتأرجح بين الصداقة والعداوة:
كتب زعيم المحافظين الجدد المفكر اليهودي الأمريكي ريتشارد بيرل تحليلاً نشره الموقع الإلكتروني الخاص بمعهد المسعى الأمريكي التابع لجماعة المحافظين الجدد، شدد فيه على ضرورة أن تلتزم الإدارة الأمريكية بتطبيق المعايير المزدوجة في علاقاتها مع كل من السعودية وفرنسا لأنه مهما كانت أواصر صداقة خط واشنطن – الرياض وخط باريس – واشنطن قوية ومتينة فإن الرياض تظل هي الرياض العربية الإسلامية الوهابية، وباريس هي باريس الفرنسية الساعية للاستقلال عن النفوذ الأمريكي.
* التطورات على خط باريس – واشنطن:
تحليل العلاقات على خط باريس – واشنطن يشير إلى الآتي:
• تطابق الإدراك لجهة أن كل طرف ينظر للآخر باعتباره يشكل عامل خطر يهدد الآخر.
• تطابق السلوك لجهة أن كل طرف يتعامل مع الآخر على أساس اعتبارات الصداقة والمصالح المشتركة.
وتشير التحليلات إلى أن العداء الكامن وغير المعلن على خط باريس – واشنطن قد ظهر بوضوح خلال فترة حكم الجنرال ديغول وتحديداً عندما أصبحت فرنسا قوة نووية وخرجت من اتفاقية حلف الناتو العسكرية، واكتفت بالبقاء ضمن دائرة اتفاقية حلف الناتو السياسية وبعد ذلك برز العداء الكامن بوضوح في أزمة حرب العراق عندما قادت فرنسا المعارضة داخل مجلس الأمن والاتحاد الأوروبي ضد غزو العراق.
بصعود ساركوزي مرشح يمين الوسط إلى قصر الإليزيه تزايدت التقارير القائلة بأن البيت الأبيض الأمريكي قد استطاع أن يضع يده على قصر الإليزيه الفرنسي. وبالفعل مضى الرئيس ساركوزي قدماً في محاولة التوافق والانسجام مع أجندة المشروع الأمريكي ولكن على خلفية الإحباطات التي وجدها على الجانب الأمريكي وتصاعد المعارضة الداخلية، وهبوط شعبيته في أوساط الرأي العام الفرنسي، فقد بدا على ما يبدو أكثر حرصاً على قيادة دفة السفينة الفرنسية من أجل بناء المشروع الفرنسي الذي وإن كان في بعض جوانبه مرتبطاً بأمريكا فإنه في الجوانب الأخرى سيبدو أكثر استقلالية عنها.
* ساركوزي وإعادة ترتيب أولويات قصر الإليزيه:
نشر الخبير السياسي بمجلة كوير دبلوماتيك سام هيكس تحليلاً قال فيه بأن الرئيس ساركوزي سوف لن يحصل على كل ما يريده إزاء الاعتبارات المتعلقة بسياسة الأمن والدفاع الأوروبي المشتركة ولكنه يحصل فقط على النجاح في إعادة دمج القوة العسكرية الفرنسية ضمن حلف الناتو، هذا، وأشار التحليل من بين ما أشار إلى النقاط الآتية:
• تولت فرنسا في مطلع تموز الماضي رئاسة الاتحاد الأوروبي الدورية لفترة ستة أشهر وقبل ذلك بأسبوع أعلنت فرنسا نشر الورقة البيضاء لسياسة الدفاع الفرنسية والأمن الفرنسية الجديدة.
• في نيسان 2006م تدخلت فرنسا لحماية نظام الرئيس التشادي إدريس ديبي في مواجهة هجوم المتمردين المدعومين بواسطة نظام البشير السوداني، وفي شباط 2008م تدخلت مرة أخرى لحماية النظام ذاته.
• تجنبت فرنسا اللجوء إلى استخدام مجلس الأمن الدولي لردع الحكومة السودانية من مغبة تسليح ودعم المتمردين التشاديين الذين يهددون نظام الرئيس ديبي الموالي لأمريكا وفرنسا وإسرائيل.
• نجحت فرنسا في دفع نظام الرئيس الليبي معمر القذافي لدعم نظام الرئيس التشادي عن طريق تقديم المعونات وإثناء نظام الرئيس البشير عن مواصلة دعم المتمردين التشاديين ذوي الاتجاهات العربية.
• تجنبت فرنسا اللجوء إلى مجلس الأمن الدولي وإصدار قرار بفرض المزيد من القرارات لجهة تعزيز الضغوط على سوريا بشأن ملف الأزمة اللبنانية وقد اكتفى ساركوزي بالتركيز على الجهود الدبلوماسية وتوجيه الانتقادات السياسية العلنية.
* السياسة الخارجية الفرنسية: أبرز المؤشرات في عالم مضطرب:
برغم حالة الفوضى واللايقين التي تكتنف التطورات الدولية والإقليمية الجارية فإن سفينة السياسة الخارجية الفرنسية على ما يبدو ما زالت تحاول أن تستكشف مسارها الخاص ضمن المياه الدولية التي ما زالت تبدو أكثر اضطراباً:
• الدور الفرنسي في أوروبا: ما تزال فرنسا تشكل مع ألمانيا الثنائي النافذ الكلمة في السياسة الأوروبية وتقول المعلومات بأن فرنسا في سعيها لإدماج القدرات العسكرية الفرنسية ضمن قدرات حلف الناتو إنما تسعى لإكمال عملية الإدماج ضمن شروطها الخاصة إزاء السياسة الخارجية الأوروبية الموحدة، ما تزال فرنسا متماسكة وغير قابلة لإجراء التعديلات الجذرية في سياساتها الخارجية المتعلقة بحلفائها في العالم الثالث وعلى وجه الخصوص المستعمرات الفرنسية السابقة.
• إزاء سياسة الجوار الأوروبي: تحاول فرنسا قدر الإمكان الالتزام بالخطوط والتوجهات العامة المتعلقة بسياسة الجوار الأوروبي ولكنها في الوقت ذاته تحاول استخدام الوسائل السياسية والدبلوماسية لجهة تحويل بنود سياسة الجوار الأوروبي بما يؤدي لإقامة شراكة حقيقية فمع دول الجوار وعلى سبيل المثال لا الحصر، لم تلجأ فرنسا إلى تكثيف الحملات ضد المهاجرين وإنما لجأت إلى محاولة إدماج المنظور الفرنسي الرسمي إزاء قضايا الهجرة والمهاجرين ضمن الاتفاقيات الثنائية التي وضعتها باريس مع دول الجوار.
• مبادرة الاتحاد من أجل المتوسط وتجاوز علاقات عبر الأطلنطي: شكلت مبادرة الاتحاد من أجل المتوسط اختراقاً رئيسياً في توجهات السياسة الخارجية الفرنسية وتقول التحليلات بأن الرئيس ساركوزي قد أطلق هذه المرة المبادرة متجاوزاً القيود والمشروطيات الكثيرة التي حاولت واشنطن استخدامها لجهة إعاقة باريس عن حرية الحركة في المجال المتوسطي. وعارضت واشنطن مبادرة الاتحاد من أجل المتوسط عبر عدة طرق أبرزها:
- تصريحات البيت الأبيض غير المتحمسة للمبادرة.
- محاولة فرض أجندة معينة على جدول أعمال المبادرة.
- دفع حلفاء أمريكا الأوروبيين لعرقلة المبادرة.
- الضغط لجهة إعطاء إسرائيل مزايا نسبية أكبر ضمن المبادرة.
وتقول التحليلات بأن ساركوزي مضى قدماً في إنجاز مشروع المبادرة وإخراج وقائعه بالطريقة الدبلوماسية المقبولة فرنسياً، وغير المقبولة أمريكياً. وشروع ساركوزي في إطلاق المبادرة يشير إلى تعاظم إدراك فرنسا لأهميتها بالاعتماد على قدراتها وروابطها التاريخية من أجل إعادة بناء وترميم ما أطلق خبراء السياسة الدولية في الماضي عليه تسمية "مظلة السلام الفرنسي" وهي المظلة التي تتكون بالضرورة على حساب رصيد النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط، إضافةً إلى نجاح مظلة السلام الفرنسي صعود السياسة الخارجية الفرنسية في منطقة الشرق الأوسط وتراجع السياسة الخارجية الأمريكية.
* ساركوزي والطريق الصعب في إعادة النفوذ الفرنسي:
نجح ساركوزي في تحديد المجال الحيوي الذي يتوجب على قصر الإليزيه إعادة ترتيبه تمهيداً لصعود القوة الفرنسية ويضم المجال الحيوي الفرنسي الجديد المناطق الآتية:
• الاتحاد الأوروبي.
• الشرق الأوسط.
• الشرق الأدنى.
• غرب ووسط إفريقيا.
وفي كل واحد من هذه المجالات تواجه السياسة الخارجية الفرنسية المزيد من العراقيل والعوائق وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن ساركوزي سيواجه أوروبياً تحدي صعود قوة ألمانيا إضافةً إلى نفوذ أمريكا على دول الاتحاد الصغيرة وبريطانيا.
وبالنسبة للشرق الأوسط فإن تأثير العامل الإسرائيلي سيشكل عقبة حقيقية أمام تطلعات ساركوزي لتأسيس السلام في الشرق الأوسط، أما في منطقة الشرق الأدنى فإن أزمة الملف النووي الإيراني ستقلل من مصداقية واستقلالية مواقف السياسة الخارجية الفرنسية التي تبدو وكأنها تحاول جاهدة الجمع بين استقلالية التوجهات والانسجام مع الموقف الأمريكي المتشدد. أما بالنسبة لوسط وغرب إفريقيا فإن السياسة الخارجية الفرنسية لن تستطيع عمل شيء في مواجهة السياسة الخارجية الأمريكية التي تستخدم دبلوماسية الدولار في تجميع الحلفاء في الوقت الذي لا تستطيع فيه فرنسا تقديم شيء وحسب بل وتسعى باريس من أجل الحصول على المزيد من تدفقات رأس المال المباشرة وغير المباشرة من أمريكا بما يعزز قدرتها في تمويل اقتصاد فرنسا لتكون بمثابة "الولايات المتحدة الأوروبية"!!
الصعوبة الأولى التي واجهت مشروع ساركوزي تمثلت في تناقض سياسته الخارجية مع السياسة الخارجية الأوروبية وقد استطاع إحراز التقدم في هذا الملف عندما نجح في ضم كل بلدان الاتحاد الأوروبي ضمن دائرة الاتحاد من أجل المتوسط على النحو الذي يهدف إلى جعل الاتحاد الأوروبي يقوم بدور الشريط الحقيقي في العلاقة بين جنوب وشمال المتوسط.
أما الصعوبة الثانية فستتمثل في ما يترتب على إدماج القدرات العسكرية الفرنسية ضمن حلف الناتو لأن بلداً مثل فرنسا سوف لن يقبل بسهولة الانخراط بشكل تلقائي في عمليات حلف الناتو العسكرية وسيؤدي ذلك بالضرورة إلى الصدام على خط الإليزيه – البيت الأبيض، وعلى ما يبدو فإن مشكلة ساركوزي الحقيقية ستتعلق بضرورة العمل الاستباقي لجهة تعديل النظام الأساسي لحلف الناتو بحيث لا تحصل البلدان الأعضاء على حق المشاركة في عمليات الحلف إلا بعد الحصول على موافقة البرلمان وهو ما لا تريده أو ترغب فيه أمريكا.
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد