سرجون فايز كرم : آدم الجديد الذي سيولد بعد فيروس كورونا أو منه
الشاعر في هذه المرحلة، “حينًا يغرق في فرديّة عميقة، وطورًا يشعر بأنّه الأكثر حرّية كون لواقطه الاستشرافيّة المفتوحة على الكون والغيب قادرة على إلتقاط ارتدادات اليأس والأمل التي تحوم فوق الأرض وقادرة على استشراف ما سيأتي”. هذا ما يقوله لنا في الحوار الشاعر والباحث الأكاديمي والمترجم والناشر سرجون فايز كرم الذي يحفر علامات في لغتين وثقافتين: العربية والألمانية. في ظلّ تفشّي وباء كورونا عالمياً يرى كرم أنّ “العالم الديكتاتوريّ القطبويّ المغلّف بالديمقراطيّة الذي كنّا نعيش فيه قد انتهى وأنّنا على أعتاب نظام واضح في ديكتاتوريّته المناخيّة والاقتصاديّة والبيئيّة والاجتماعيّة والطبيّة مدعومًا بهذيان القطيع في المرحلة الأولى”.
بإعتقاد سرجون فايز كرم فإن شعر “ما بعد الحداثة” القائم على قاعدة حشد الصور الغريبة واختراعها وعلى الـ”أنويّة” المطلقة سيضعف لصالح فضاء شِعْريّ مستقبليّ بتصوّراتٍ جديدة وبأساليب فنية جديدة. لا بدّ للشعر أن يكون قويّاً في التعبير عن الأفكار الإنسانية – يقول- حتّى يفرض وجوده في البلاد التي لا يزال فيها للشعر منزلة يقدّرها الناس… حول قراءته وبعض آرائه راهناً حاورته هالة نهرا في موقع “بوسطجي” انطلاقاً من قصيدة تتطرّق فيها إلى “كورونا”، ومن العزلة والحجر وتداعياتهما، وبعض الأسئلة المتأتية عن المرحلة الشائكة هذه شعرياً وإنسانياً.
– تقول في قصيدتك حيث تتطرّق إلى كورونا في موضوعها”: “لننتظر ونرَ/ من منّا سيخرج حيّاً/ كي نوزّع الأدوار/ من سيكون آدم/ ومن ستكون حوّاء/ ومن يكون الراعي/ ومن ذئب البراري/ ومن صيّاد الذكريات/ من بئر الأيام الجميلة/…/ لا تسبّوا الكورونا فلعلّكم تسبّون الله/ دعونا نفترش الأرض الآن/ كي نتساوى بأقزامها/ الذين يتقافزون/ حين يمرّ من فوقهم الهواء/على شكل قلوب صغيرة”.
كشاعر ومثقف وباحث كيف ترى – خيالاً أو تحليلاً واستشرافاً – العالم بعد كورونا؟ كيف تتوقّع أن يكون وكيف تحب أن يكون؟
فكرة أنّ الله قد خلق ألف ألف آدم تستهويني وأوافقها. آدم بالنسبة لي هو العقل البشريّ الذي يختم بإدراكه وتطوّره مرحلة معيّنة وينتقل إلى أخرى جديدة. لستُ من أتباع الهذيان الدينيّ والتحليليّ الذي يصاحب الحروب والأوبئة، لكن من كان يتابع مواضيع النقاش الفكريّ والسياسيّ والإقتصاديّ والمناخيّ والبيئيّ في العالم الصناعيّ الأوّل يمكنه أن يستشرف آدم الجديد الذي سيولد بعد فيروس كورونا أو منه. العالم الديكتاتوريّ القطبويّ المغلّف بالديمقراطيّة الذي كنّا نعيش فيه قد انتهى. نحن على أعتاب نظام واضح في ديكتاتوريّته المناخيّة والاقتصاديّة والبيئيّة والاجتماعيّة والطبيّة مدعومًا بهذيان القطيع في المرحلة الأولى. عالم “الدولاب” الذي نعرفه سيتغيّر ليستبدل بالدولاب الكهربائيّ أو الهجينيّ. وسينتهي عالم العملة الورقيّة ليستبدل بعالم البطاقة الإلكترونيّة، وبذلك ستتمّ السيطرة على موارد أيّ فكرة تصنّف إرهابيّة في العالم الجديد. سيرى الإنسان في أخيه تهديدًا صحيّاً محتملاً وسيزداد عالم الدين انعزالاً وتعلو فيه نزعة التأوّه على العوالم السابقة… وقس على ذلك سيناريوهات المجالَيْن المناخيّ والصحيّ المفتوحَيْن على احتمالاتٍ كثيرة. هذه ستكون مرحلة المخاض وسيصبحها الكثير من الأصوات المهلّلة والمعارضة، ولكن في النهاية هذا العالم سيولد ويصبح واقعًا يوميّاً إلى أن يصير الوقت لولادةِ آدم جديد.
– العزلة الموحية وربما القاتمة في جانبٍ آخر بالنسبة لآخرين، في ظل الحجر الصحّي والظروف الصعبة المفروضة على البشرية عموماً، ماذا تقدّم للشعراء تحديداً ولعالم الكتابة الإبداعية والفكرية؟ هل تراها تحضّ وتحرّض بحقّ على التأمّل في ضوء الأغوار والتفكُّر؟ في أي وجهة؟ وكيف يمكن استثمار ذلك في مشاريع فردية أو جماعية؟
هذه مرحلة مخاض والبشريّة في حالة من الحجر الصحيّ والنفسيّ.. والمخاض انتظارٌ وتوتّرٌ وأمل. أعتقد أنّ الشاعر في هذه المرحلة هو العنصر الأكثر تطرّفًا بينه وبين نفسه. حينًا يغرق في فرديّة عميقة وطورًا يشعر بأنّه الأكثر حريّة كون لواقطه الاستشرافيّة المفتوحة على الكون والغيب قادرة على إلتقاط ارتدادات اليأس والأمل التي تحوم فوق الأرض وقادرة على استشراف ما سيأتي. لا أعتقد أنّ هناك من سيحدّد إبداعيّة ما سينتج في هذه المرحلة، هذا إذا كان هناك من إنتاج، وأتكلّم هنا عن العالم العربيّ. أعتقد أنّ العمل الإبداعيّ سيظهر بعد مرور الأزمة.. فالشاعر يعرف تمامًا أنّه في هذه المرحلة لا شيء يميّزه عن غيره من البشر، فهو محجورٌ مثلهم ومهدّدٌ بالموت مثلهم، وكلام عن اجتراح معجزات بشعره وشعوره لن يتخطّى وقعها الزاوية التي يجلس فيها في بيته، لأنّ همّ كلّ بشريّ في الوقت الحالي أن يبقى على قيد الحياة أو في صحّة جيّدة.
أعتقد أنّه في المرحلة اللاحقة لن يكون هناك اهتمامٌ بالشعر الذي نقرأ معظمه اليوم تحت مصطلح “ما بعد الحداثة” والقائم على قاعدة حشد الصور الغريبة واختراعها وعلى الـ”أنويّة” المطلقة، لأنّ الإنسان الجديد لن يكون لديه الطاقة والهمّ لقراءة هذا الأسلوب. هناك عالم بتصوّرات جديدة سيولد وسيحاول العالم الثالث أن يسير في ركبه ويتأقلم معه، ولن يكون الشعر بأساليبه الفنيّة التي نعرفها الآن أيّ دور فيه. فالشعر في العالم العربيّ يجب أن يجاهد كثيرًا في المرحلة القادمة ويلعب دورًا مشابهًا للدين في التعبير عن الأفكار الإنسانيّة حتّى يفرض وجوده في البلاد التي لا يزال للشعر منزلة يقدّرها الناس. فالشعر في العالم الغربيّ قد انتهى جماهيريّاً.
– لمن يقرأ سرجون فايز كرم اليوم؟
القراءة ليست جزءًا من برنامج أوقات فراغي. أنا لا أقرأ إلا ضمن الوقت المخصّص للعمل. فإلى جانب القراءات التي أحتاجها في الأبحاث الأكاديميّة، أخصّص في مكتبي وقتًا للقراءات الفلسفيّة والدينيّة والأدبيّة. خارج أوقات العمل برنامجي أن أذهب إلى ضفّة النهر أو إلى الغابات في الجبال وأقرأ في كتاب الله. الطبيعة هي الكتاب الوحيد الذي يستدرجني إلى الشعر والتوازن النفسي. وكلّ قراءة خارج هذا الكتاب تزعجني. حاليّاً أنا موجود في لبنان منذ شهرين ولا أستطيع العودة إلى ألمانيا بسبب أزمة كورونا العالميّة وإقفال المطارات. كلّ ما أفعله بعد انتهائي من التدريس أن أذهب إلى وادي قريتي وأطلّ على أرض والدي أتأمّل في كلّ شجرة زرعها هو وأبوه وجدّه.
– ماذا تقول للذين يستسهلون الكتابة وتقليد سواهم في ميدانٍ صار عندنا محفوفاً بالادّعاءات وقد أصبح يختلط فيه الحابل بالنابل بسبب ضياع وشبه غياب المعايير النقدية اللازمة. حتى العديد من النقاد ينتحلون صفة “الناقد” ويخفقون ولا يجيدون التقييم ولا يقدّمون النص المنصف ويغرقون في “لامنطق” الشِّلَل، والعديد من الشعراء ينتحلون صفة “شاعر”، بالسرقات الأدبية والسطو على صورةٍ شعرية من هنا أو هناك. هذا الفقر في الخيال والأدوات والمروحة التعبيرية والتعدي الوقح اللاأخلاقي والاستخفاف البيِّن… كيف تفسّر كل ذلك وما هو الحل لإعادة الأمور إلى مجراها الطبيعي؟
إنّه لأمر مؤسف أنّ عالم الشعر يتمّ استغلاله بهذه الطريقة، خصوصًا من أشخاص يعانون من ثقة مرضيّة مفرطة للذات، وقد أتاح لهم عالم الميديا إمكانيّة تسمية ما يكتبونه على أنّه شعرٌ. في العصور القديمة كان التقرّب من السلطة الحاكمة أو التمرّد المطلق عليها – مثل الشعراء الصعاليك – يلعب دورًا في بروز الأسماء، ومع ذلك لهذه الأسماء معادلات أدبيّة وفنيّة راقية فرضتها على عصرها. في السنوات الماضية العشرين الأخيرة أصبح عالم الميديا ومواقع التواصل الاجتماعي السلطة المطلقة وأتاحت للجميع إطلاق الصفات على أنفسهم. هذا عالمٌ بلا ضوابط لدرجة أنّه يتيح سرقة أفكار الآخرين بحرفيّتها ونسبتها إلى أنفسهم.. وإن قام صاحب النصّ الأصليّ بكشف ذلك فسيجد أنّ نصف القرّاء لا يهتمّون للأمر، لأنّ عالم الميديا سريعٌ جدّاً ولا مكان فيه للتوقّف للحظة. الطامة الأخرى أنّ الأدباء والشعراء والنقّاد، الذين تبوّأوا مواقع ثقافيّة في صحف ومؤسّسات، لعبوا دورًا كبيرًا في ازدياد الحالة سوءًا كونهم جعلوا هذه المواقع منصّات لهم وللمجموعات التي تشكّلت حولهم. لا أعتقد أنه من المجدي أن نقول لهذه الظاهرة أيّ شيء، لأنّ “كُتّابها” بلغوا حدّاً من “الجرأة” يمكن أن يتطاولوا فيها على أيٍّ كان، شاعرًا أو كاتبًا أو أديبًا أو إعلاميّاً أو ناقدًا يتسلّح بذمّة علميّة. سيأتي يوم يسأل فيه المستغِلّون المتطاوِلون أنفسهم: ما كان المجدي في كلّ ما كتبنا؟ أيّ فصلٍ دراسيٍّ تطرّقَ إلينا؟ وأيّ عمليّة ترجمة علميّة انتبهت إلينا؟
هالة نهرا: بوسطجي
إضافة تعليق جديد