صورة قاتمة للعراق في استطلاع للرأي ولا أحد يريده مجزءاً
العراقيون متفائلون أم متشائمون؟ هذا هو السؤال الذي تسعى استطلاعات الرأي إلى استخلاص اجابته من العراقيين انفسهم. واستطلاعات الرأي التي لم يعتدها العراق غدت الآن جزءا من مشاريع دراسة الوضع فيه، كما هو الحال في بلدان كثيرة أخرى.
الاستفتاء الذي شاركت فيه بي بي سي وأجري في آواخر عام 2005 ونشرت نتائجه أوائل عام 2006 فاجأ الكثيرين بما خلص إليه من أن العراقيين "متفائلون"، لكن استطلاعا أجري لصالح بي بي سي ومؤسسات إعلامية أخرى في أواخر فبراير/ شباط وأوائل مارس/ آذار الجاري، لن يفاجئ أحدا باستنتاجه أن العراقيين "متشائمون".
هذا الاستطلاع، على عكس سابقيه، يرسم صورة قاتمة للوضع في العراق استنادا إلى ما يراه الذين استطلعت آراؤهم وهم اكثر من ألفي شخص من جميع المحافظات العراقية ومن مختلف التجمعات السكانية.
فنسبة الذين يعتقدون أنهم يعيشون حياة عادية لم يتجاوز الـ 39 بالمئة مقارنة بـ 71 بالمئة في استفتاء 2005. أما الذين ينظرون بتفاؤل إلى المستقبل ويتوقعون تحسنا خلال سنة في حياتهم والوضع بصورة عامة فقد هبطت نسبتهم من 64 بالمئة إلى 35 بالمئة.
الأحوال تغيرت كثيرا والوضع شهد إنقلابا خلط الأوراق وأعاد ترتيب الأولويات أو، بالأحرى، أعاد بعثرتها. كما انتقل المنظور السائد لتطور أوضاع العراق من خلال رسم مقارنه بين مرحلتين هما: "ما قبل الغزو" و"ما بعد الغزو"، إلى جعل حدث تفجير الضريحين في فبراير / شباط 2006 حدا بين مرحلتين هما: ما قبل سامراء وما تلاها.
فبعد أن كاد الرهان على رفع مستوى الاحتقان الطائفي إلى حرب أهلية أن يتراجع، جاء هذا الحدث ليعطيه زخما قويا مما دفع البلاد إلى مستوى من الصراع الطائفي لم تكن قد شهدته من قبل، انعكس في دائرة من العنف المنظم.
ومن هنا تصبح الظروف التي أجري فيها هذا الاستطلاع مختلفة إلى حد ما عن ظروف الاستطلاعين السابقين اللذين شاركت فيهما بي بي سي عامي 2004 و2005 ، إذ أن الاستقطاب الطائفي والقومي بلغ الآن حداً غير مألوف، وهذا ما تؤكده النتائج، المتباينة حسب مناطق العراق وانتماء السكان الطائفي والعرقي، مع وجود قدر عام ومتزايد من "التشاؤم".
لكن، رغم هذا "التشاؤم" فإن غالبية المستطلعة آراؤهم (56 بالمئة) ترى أن العراق "لا يشهد حربا أهلية"، ويقف 58 بالمئة إلى جانب عراق موحد، بينما لا يوجد هناك من يريد أن يرى العراق مجزءا بخطوط طائفية.
يظهر الاستطلاع تباينا في موقف ووجهات نظر العراقيين ليس فقط وفقا للانقسام الطائفي بل للتوزع الجغرافي أيضا، وهما عاملان متداخلان في معظم أنحاء البلاد، غير أنه يمكن إضافة الأهمية الاستراتيجية لمنطقة معنية كعامل ثالث.
فبغداد العاصمة ومحيطها تمثل المناطق الأشد عنفا، ليس لأنها "مختلطة" بل أيضا لأنها العصب الرئيسي للبلاد التي لا تحكم إلا منها. وقد حول مستوى العنف هناك الحياة إلى جحيم لا يطاق وشل عمل الحكومة وأجهزتها. وأصبح القتل والاغتيال والتفخيخ فضلا عن التهجير على أسس طائفية، في مسعى لتحويل احياء المدينة إلى تجمعات سكانية من لون واحد، ممارسة لا يخلو منها يوم من أيام العاصمة وجوارها. كيف إذن يمكن أن يصف أهل بغداد حياتهم الحالية وأن يعبروا عن رؤيتهم للمستقبل دون أن يكونوا متشائمين؟
أما مناطق جنوب بغداد والفرات الأوسط، فهي رغم هدوئها النسبي، تتعرض من حين إلى آخر وخصوصا في المناسبات الدينية إلى "بؤرة" تجتذب الرامين إلى تأجيج الصراع الطائفي وتستثير المتأهبين للرد كما هو الحال في عمليات التفجير الانتحارية التي تشهدها محافظة بابل، إضافة إلى التوترات والمواجهات التي تنفلت بسبب حالة ضعف أو غياب مؤسسات الدولة المسؤولة عن استتباب الأمن. وما جرى في كربلاء في وقت سابق لإجراء الاستفتاء، خير مثال على ذلك.
وبالرغم من أن مناطق جنوب العراق، المتجانسة طائفيا إلى حد كبير، تتمتع ببعض "الرضا" عن الأوضاع فيها لكنها قناعة قلقة سرعان ما تتفجر عن أشكال من المواجهات والاحتجاجات. ومثال ذلك الأحداث التي شهدتها محافظة البصرة، حيث الميناء والنفظ ومحافظة ميسان المجاورة للحدود الإيرانية.
مناطق الجنوب كانت متضررة في ظل النظام السابق ودفعت ثمنا كبيرا للحروب التي خاضها والحصار الاقتصادي الذي فرض بعد غزو الكويت، إضافة إلى عمليات القمع لاي نشاط معارض.
أما مناطق شمال بغداد وغرب العراق فهي مسرح لنشاط مسلح دائم وخارج عن السيطرة، برغم التجانس الطائفي أيضا. فإلى جانب غارات القوات الأمريكية والعراقية، تستعر المواجهات بين أبناء العشائر التي تنشد جلب الاستقرار للمنطقة والجماعات المسلحة المختلفة التي تريد فرض سيطرتها بالقوة. وهذا هو الحال في مناطق محافظة الأنبار وصلاح الدين. ولا يختلف الوضع في محافظة نينوى الشمالية كثيرا.
لا شك أن هذه المناطق كانت تتمتع بامتيازات لم تتوفر لغيرها، أيام النظام السابق، وهي مناطق نفوذ الحزب الحاكم، كما كان أبناؤها يتمتعون بنفوذ كبير في أجهزة الدولة وبخاصة في مناصبها العليا. ولا بد أن يجد ذلك انعكاسا في رؤية المستقبل وربط الحاضر بالماضي.
المنطقة الوحيدة التي تتمتع باستقرار وهدوء طبيعيين هي إقليم كردستان العراق، الذي يعيش حالة استقلال عن المركز منذ بداية التسعينيات، أي ما بعد حرب الكويت واندلاع انتفاضة الجنوب والشمال.
وتلعب الخصوصية القومية لسكان الإقليم واستقرار الوضع الاقتصادي والسياسي دورا في تعزيز نزعة الاستقلال لديهم.
ومناطق كردستان العراق كانت، عبر عقود طويلة، مسرحا لعمليات عسكرية ومواجهات بين القوات الحكومية التي تريد فرض السيطرة المركزية والأكراد الذين يطالبون بحقوقهم القومية. لكن أقسى ما شهده الإقليم هو العمليات التي نفذتها قوات النظام السابق ضد المدنيين الأمر الذي عرف بعمليات "الأنفال" إضافة إلى ضرب بلدة حلبجة بالسلاح الكيماوي قبل 19 عاما.
التغيرات التي طرأت أو التي يلحظها سكان العراق، لا يمكن أن تكون متطابقة في جميع مناطقه. لذلك يظهر الاستفتاء استجابة متباينة في ما يتعلق بالحياة اليومية والنظرة الى المستقبل، باختلاف المناطق والطوائف.
الأمن والديمقراطية
من الطبيعي أن يشكل الأمن هاجسا رئيسيا بالنسبة للعراقيين في ظل ظروف العنف الحالية، ويعكس الاستطلاع الأخير ذلك بوضوح إذ هبطت نسبة الذين يشعرون بالأمن في مناطقهم من 63 بالمئة في عام 2005 إلى 26 بالمئة هذا العام.
ولا يمكن، بأي حال من الأحوال تصور، أن يترسيخ أي شكل من أشكال الديمقراطية في ظروف كهذه، ربما باستثناء حالات هي أقرب إلى الفوضى منها إلى التنظيم.
وفي هذا المجال يستنتج الاستطلاع أن نحو 53 بالمئة لا يثقون في أداء الحكومة الحالية مقارنة بـ 33 بالمئة عام 2005. وتعارض نسبة أجمالية مقدارها 78 بالمئة وجود قوات التحالف في العراق ويعتقد 69 بالمئة أن تلك القوات جعلت حالة الأمن أسوأ، كما لا يثق 82 بالمئة بأدائها.
وفي الوقت نفسه يعتقد معظم الذين استطلعت آراؤهم أن إيران وسورية والسعودية تعمل على تشجيع العنف الطائفي في العراق. وبالرغم من ارتفاع التأييد لزعيم قوي قياسا بعام 2005 على حساب التأييد للديمقراطية إلا أن الغالبية ترى أن الحكم خلال السنوات الخمس المقبلة يجب أن يكون ديمقراطيا لا حكم فرد قوي.
وفي المحصلة النهائية، يعكس الاستطلاع حالة تشاؤم عامة تناسبا مع قتامة الوضع الذي يعيشه العراقيون ويؤشر إلى حالة الانقسام والاستقطاب المتزايدة في البلاد، التي عمقها مبدأ المحاصصة في مؤسسات الحكم وخارجه. وبانتظار قلب المعادلة بترتيب الأولويات وبعثرة العنف، نظل متلهفين إلى رؤية نتائج استطلاع آخر في ظروف مختلفة لنتعرف على درجة التفاؤل (او التشاؤم) العراقي.
المصدر: BBC
إضافة تعليق جديد