عـام الكتّـاب الكبـار لكنـه أيضـاً عـام الصرعـات الكبيـرة
أعلنت أمس في العاصمة الفرنسية جائزتي «غونكور» و«رونودو» لعام 2009 وحازها كل من ماري نداي عن روايتها «ثلاث نساء قادرات» (غونكور) وفريديريك بيغبيديه (رونودو) عن كتابه «رواية فرنسية». وكانت الأكاديمية الفرنسية قد منحت جائزتها الكبرى للرواية نهار الخميس الفائت 29 تشرين الأول إلى الروائي بيير ميشون عن روايته «الإحدى عشر»، مفتتحة بذلك سلسلة جوائز الخريف الأدبية الكبرى، وهي التي ستتابع مع جائزة «ميدسيس» (غداً الأربعاء 4 الحالي) وجائزة «فمينا» الثلاثاء المقبل في 9 الحالي). حول الكتب الفائزة هذه المقالة التي تعتمد على العديد من المصادر الصحافية التي تناولت الكُتّاب والروايات.
كما العادة في كل سنة، افتتحت الأكاديمية الفرنسية (أو مجمع الخالدين، مثلما توصف) يوم الخميس الماضي، سلسلة الجوائز الأدبية الفرنسية الكبرى، والتي تمنح مع خريف كل عام. جائزة الأكاديمية الكبرى لهذا العام ذهبت إلى الروائي الفرنسي بيير ميشون، الذي يعرفه القارئ العربي عبر ترجمة لكتابين له، «رامبو الابن» (ترجمة رضوان ظاظا، دار الحوار، اللاذقية،) و«حيوات صغيرة» (شرقيات، مصر، ترجمة كيتي حداد). فوز ميشون (64 عاما) بالجائزة البالغ قيمتها 7500 يورو، جاء ليبشر القراء بأن جوائز هذا العام قد تكون على قدر كبير من «الجدية» نظراً لما يتمتع به ميشون من سمعة كبيرة في الأدب الفرنسي المعاصر، أي جاءت الأكاديمية لتحيي واحدا من أهم كتاب فرنسا المعاصرين.
فوز ميشون، عبر كتابه «الإحدى عشر» (منشورات فيردييه)، جاء في دورة الاقتراع الثالثة متقدما بـ 12 صوتا مقابل ستة لرونو كامو عن روايته «بعيدا» (منشورات فايار) ولصوت واحد لبرونو دو سيسول عن روايته «الأقل حبا» (منشورات لاديفرانس).
يشكل كتاب «الإحدى عشر» ثمرة عمل استمر لمدة 15 عاماً من الأبحاث والكتابة، وهو يروي سيرة فنان تشكيلي يدعى كورونتان وعلاقته بالثورة الفرنسية، انطلاقاً من توصيف للوحة كبيرة هائلة كانت ستعرض، في تلك الحقبة، في متحف اللوفر، وتمثل أعضاء «لجنة الخلاص العام» الإحدى عشر (روبيسبيير، سانت جوست، ...) وهي اللجنة التي تشكلت خلال مرحلة الرعب والقتل التي لفت فرنسا عقب الثورة. رواية قصيرة تقع في 144 صفحة، لكنها رواية مكثفة إلى أقصى الدرجات، ليحاول الكاتب أن يتخيل فيها علاقة الفن مع الثورة.
حين صدر كتاب ميشون هذا في نيسان الماضي، عرف استقبالا حارا من قبل النقاد والقراء على السواء، وقد بيعت منه أكثر من أربعين ألف نسخة لغاية اليوم، ما يشكل رقما كبيرا في عالم النشر الروائي، وبخاصة أنها صادرة عن دار لا تعد من كبار الدور الفرنسية، على الرغم من تميزها وجديتها عبر الكتب المهمة التي تنشرها. من هنا قد يكون فوز أحد كتّاب هذه المنشورات، هذه السنة، وكأنه تحيّة أيضا لأمرين، الأول مرور ثلاثين عاما على تأسيسها هذه السنة التي شهدت أيضا غياب مؤسسها جيرار بوبيلييه في 11 تشرين الفائت، والذي قال عنه ميشون عقب فوزه: «كنت معجباً ببوب لدرجة أنني لم أفهم أبداً هذا المعروف الذي قدم إليّ عبر فضائله».
في الواقع، يبدو ميشون كاتبا متفردا، انتقل من النشر في دار غاليمار، حيث نشر هناك أجمل نصوصه وبخاصة «حيوات صغيرة» (1984) و«رامبو الابن» (1991) إلى فيردييه، حيث كان يشعر بأنه بين أفراد عائلته. (راجع حوارنا معه في «السفير»، تشرين الثاني 2002). حاز عام 2002 على جائزة «ديسمبر» عن كتابيه «جسد الملك» و«قساوسة» الصادرين عن «فيردييه» أيضا.
ولد ميشون في 28 آذار عام 1945 في «كاردس» بمنطقة «لا كروز»، وقد تربى في كنف والدته التي كانت تعمل كمُدرسة بعد أن غادر والده البيت الزوجي، وهو لما يزل طفلاً ولم يعد يعرف عنه شيئا. وغالبا ما أظهر الكاتب تعلقا حميما بتلك المنطقة التي شهدت طفولته وصباه، إذ أنها تشكل العديد من «ديكور» كتبه. درس الآداب، لكنه لم يختر يوماً مهنة ثابتة، وقد عبر عن شغفه الكبير بالأدب، في كتاب حوارات صدر، عام 2007 عن منشورات «ألبان ميشال» بعنوان «يأتي الملك حينما يشاء»، إذ يتحدث فيه عن هذه التجربة الفاتنة بالقراءة، واكتشافه النصوص الكبرى، ليعترف فيه بمدى انشداهه بكتب فلوبير وفوكنر وملفيل.عمل ميشون الأدبي، غني ويقع في أكثر من 15 كتابا، وهو يتميز بالنصوص القصيرة (عدا «حيوات صغيرة») تعرف كيف تزاوج بين الرحابة والكثافة، كمثل «البون الكبير» (1996) أو «أساطير الشتاء» (1997). وغالبا ما يقارن النقاد أسلوبه بلوي – رينيه ديه فوريه وجوليان غراك.
ماري نداي
بفضل «ثلاث نساء قادرات» (منشورات غاليمار) حازت الروائية ماري نداي جائزة غونكور لهذا العام وذلك من خلال دورة الاقتراع الأولى، إذ حازت خمسة أصوات مقابل اثنين لجان فيليب توسان عن روايته «الحقيقة عن ماري» (منشورات مينوي) وصوت واحد لدلفين دو فيغان عن كتابها «ساعات تحت الأرض» (منشورات جان كلود لاتيس»، بينما لم يحز لوران موفينييه عن روايته «رجال» (التي تتحدث عن حرب الجزائر»، منشورات «مينوي») أي صوت.
بفوزها بغونكور أمام كاتبين ينشران عند مينوي – وهي الدار التي أطلقت نداي ونشرت لها سابقا العديد من وراياتها – تكون الكاتبة قد وضعت حداً لما يعرف، في الوسط الأدب الفرنسي، باسم «لعنة فمينا»، إذ كما هو معروف، ونظرا للصراع الكبير بين لجنتي تحكيم «فمينا» و«غونكور»، لم يستطع أي كاتب حاز جائزة فمينا سابقا أن يعود ويحوز جائزة «غونكور» (قد يكون أوليفييه رولان خير دليل على ذلك). فماري نداي حازت فمينا عام 2001 عن روايتها «روزي كارب» ومع غونكور الصادرة عن دار غاليمار، نجد أن الدار الفرنسية الكبيرة، قد حازت هذه الجائزة 36 مرة، لتؤكد بذلك تفوقها ومن بعيد على جميع الدور الأخرى.
ولدت ماري نداي في الرابع من حزيران عام 1967 من أب سنغالي وأم فرنسية، وقد أمضت طفولتها في إحدى ضواحي باريس، حيث تربت أيضا في كنف والدتها (بعد رحيل أبيها) مع أخيها باب نداي، الذي يعد اليوم واحدا من كبار المؤرخين في فرنسا وأحد كبار الاختصاصيين بقضية السود في فرنسا. بدأت الكتابة وهي في الثانية عشرة من عمرها، قبل أن يلاحظها جيروم ليندون، مؤسس منشورات «مينوي»، الذي نشر لها روايتها الأولى «بالنسبة إلى المستقبل الزاهر» (1985).
وتقول الحكاية إن ليندون نفسه ذهب، والعقد بيده، إلى المدرسة التي كانت تتابع فيها نداي دراستها، ليلتقي بهذه الشابة التي كانت في السابعة عشرة من عمرها، في تلك الفترة. وبعد أن نشرت روايتها الأولى هذه، التي حياها النقاد بحرارة منقطعة النظير، استلمت رسالة من قارئ أبدى إعجابه بما تكتبه، ولم يكن في الواقع سوى جان – إيف ساندري (لم يكن قد أصبح كاتبا مسرحيا مشهورا بعد)، ليلتقيا ذات يوم، ويصبح زوجها وأب أطفالها الثلاثة.
في عام 1987، اصدرت نداي كتابها الثاني بعنوان «كوميديا كلاسيكية» (منشورات P.O.L)، حيث اقترب سردها في هذا الكتاب من السرد الجويسي (نسبة إلى جويس)، ما دفع برنار بيفو إلى دعوتها يومها إلى برنامجه التلفزيوني الشهير «أبوستروف» الذي كان يشكل منارة البرامج الثقافية المتعلقة بالكتب والإصدارات الحديثة. لتتوالى الكتابة بعد ذلك، فتصدر «المرأة المجدة» (مينوي) وهو الكتاب الذي جعلها كاتبة ذات بصمة واضحة، أيّ تلك الكاتبة التي تقف على تخوم الواقع والفانتازيا، في مناخ مخضب بالغموض والغرابة، باللايقين والسخرية، تماما كما في روايتها «ضمن العائلة» (مينوي عام 1990) أو أيضا «ساحرة» (منشورات مينوي، عام 1996) الذي شهد بعد سنتين جدالا صاخبا ما بينها وبين ماري داريوسيك، إذ اتهمت نداي زميلتها بأنها استوحت كثيرا من كتابها هذا، بل أنها انتحلته انتحالا كاملا لتكتب روايتها «ولادة الأشباح» (منشورات P.O.L ).
في موازاة عملها الروائي، كتبت نداي لليافعة «الساحرة وابنها» و«الأمنية»، كما كتبت للمسرح، لكنها لم تعمل مع زوجها إلا في عمل واحد وهو «على أبي أن يأكل» الذي قدم في «الكوميدي فرانسيز» عام 1998، ما جعل من نداي الكاتبة الوحيدة التي تقدم لها مسرحية في هذا الصرح الثقافي الكبير وهي بعد على قيد الحياة.
ترفض نداي أن توضع تحت يافطة أنها كاتبة أفريقية أو خلاسية أو حتى أنها كاتبة فرنكوفونية، على الرغم من أنها عادت لتجد أفريقيا – انطلاقا من برلين حيث تعيش الآن – التي تشكل جزءا كبيرا من روايتها «ثلاث نساء قادرات» التي تبدو متجذرة في الواقع أكثر من أي رواية سابقة لها، وهي تتشكل من ثلاث حكايات تتابع مسارات نساء ثلاث في معركتهن الدائمة واليومية، من أجل الحفاظ على كرامتهن.
تصف الروائية كتابها هذا بالقول: «بنيت هذا الكتاب على طريقة مجموعة موسيقية إذ ترتبط أقسامه الثلاثة بموضوعة واحدة مستعادة. وهذه الموضوعة هي هذه القوة الداخلية التي تظهرها النساء الثلاث. إذ أن ما يربط بين نورا وفانتا وخالدي، هذه القدرة المشتركة على النضال من أجل الحياة». كتاب مليء بالتمزقات الداخلية الحميمة، بأسئلة الهوية، بالتساؤل حول الانتماء البشري وشرطه الإنساني. تساؤلات في قلب هذه اللوحة الثلاثية التي تشعرنا بالقلق والدوار وذلك عبر أسلوب أنيق بشكل كبير، مصفى، ما يعطيه هذه القوة والقدرة.
رونودو
بعض دقائق قليلة من إعلان جائزة غونكور، أعلنت لجنة تحكيم جائزة رونودو اسم الفائز بها لهذا العام: فريديريك بيغبيديه عن روايته «رواية فرنسية» (منشورات غراسيه)، وذلك في دورة الاقتراع الخامسة، بواقع سبعة أصوات مقابل اثنين لفانسان ميساج عن روايته «الساهرون» وصوت واحد لكل من فيرونيك أوفالديه عن روايتها «ما أعرفه عن فيرا كانديدا» وجوستين ليفي «شابة سيئة».
نتيجة لم تشكل أي مفاجأة، إذ أن اسم الروائي الفرنسي كان مرشحا قويا لها منذ أيام، وهو بذلك يخلف ألن مابوكو (2007) وتييرنو مونينيبو (2008)، أي أن اللجنة، إذا صح القول، تقطع مع تأثرها بالكتابة الفرنكوفونية الأفريقية التي فضلتها في العامين الماضيين. أما جائزة رونودو للبحث فذهبت إلى دانييل كوردييه عن كتابه «معروف باسم كركلا» (غاليمار).
وقد عرفت نتائج رونودو لهذا العام جائزة جديدة باسم «رونودو لكتاب الجيب»، وفي حيثياتها مكافأة كتاب صدر منذ فترة، في إحدى سلاسل كتب الجيب (بعد أن يكون صدر سابقا في الحجم الكبير) وقد ذهبت الجائزة الأولى لهوبير حداد عن كتابه «فلسطين»، وكان الكتاب حين صدر بطبعته العادية عام 2007، قد حاز «جائزة القارات الخمس» (جائزة الفرنكوفونية).
فريديريك بيغبيديه، اسم يختلف القراء حوله كثيرا، منهم من يشنع عليه ويعتبرونه صرعة إعلامية لا يستحق هذه الشهرة الكبيرة التي يتمتع بها، ومنهم من يجده كاتبا كبيرا، وبخاصة المعجبين به الذين ينتظرون تتويجه على قمة أرفع الجوائز الأدبية. وبين هذه الفئة وتلك، نجد أن «مثير المتاعب» الرومنسي في الأدب الفرنسي المعاصر ولد في نويلي عام 1965، وبعد دراسته الثانوية، التحق بجامعة سيلزا ليدرس العلوم السياسية، ليتخرج منها. عام 1990، نشر روايته الأولى «مذكرات شاب مزعوج» (لا تابل روند) لتأتي روايته الثانية بعد أربع سنوات بعنوان «عطلة ثلاث سنوات في الغيبوبة» و«الحب لا يدوم إلا ثلاث سنوات» (1997). إلا أن شهرته الحقيقية بدأت مع كتاب «99 فرنكا» الذي شكل الجزء الأول من مغامرات أوكتاف بارنغون، والتي عرفت نجاحا كبيرا عند القراء. وفي موازاة ذلك، بدأ بيغبيديه بالعمل في التلفزيون كمقدم برنامج ثقافي بعنوان «الكتب وأنا» في محطة «باريس الأولى» قبل أن ينتقل إلى كانال بلوس. وما بين 2003 و2006، كان أيضا مدير سلسلة في منشورات فلاماريون، حيث نشر للعديد من الكتاب الشبان الذين عرفوا نجاحا فيما بعد. وعقب نشره روايته «نوافذ على العالم» التي حاز عنها جائزة «أنترالييه» عام 2003، والتي تتحدث عن أحداث أيلول 2001، عاد ليتابع مغامرات أوكتاف بارنغون مع رواية «النجدة السماح» ليتخلى عنه في روايته الأخيرة وليكتب «رواية فرنسية» التي وصفها النقاد حين صدورها بأنها أكثر رواياته حميمية وأكثرها قدرة على أسر قرائها، وإن كانت الناقدة كريستين روسو في لوموند اعتبرت أن كتب بيغبيديه القادمة قد تكون هي الأفضل، (كلام موارب حتى لا تستعمل كلمة سيئة).
ينطلق الكاتب في روايته هذه من الليلة التي تم إيقافه فيها بسبب تعاطيه المخدرات والتحقيق الذي أعقب تلك الحادثة، لينطلق من هناك، وعبر عملية «فلاش – باك»، ليتذكر طفولته، وعلاقته مع والديه المطلقين، وتنافسه الدائم مع أخيه شارل، وخجله المرضي، وأخطاءه وعدم قدرته على التصرف بشكل سليم. ما من انقلابات كبيرة في هذه الرواية، بل يأتي السرد ليحافظ على طهرانية ما تجعل الكتاب قريبا من القراء العاديين الذين يجدون فيه «رواية فرنسية» بامتياز.
من جهة أخرى، يأتي بحث «معروف باسم كركلا» لينزع بعض الأساطير عن المقاومة الفرنسية إبان الاحتلال النازي. إذ أن المؤلف، دانييل كوردييه، كان في التاسعة عشرة من عمره، ومن أوائل الفرنسيين الذين التحــقوا بالجـــنرال دوغول، في لندن عام 1940. ليقوم بأولى مهماته بعد سنتـــين تحت أمرة جان مولان، الذي عينه فيما بعد سكرتيره الخاص.
وبعد أن خص قائد المقاومة الفرنسية بكتاب في أربعة أجزاء، يعود المؤلف، ليتحدث عن فترة المقاومة، التي لم تكن كلها بطولية، بل شابتها العديد من الشوائب، من هنا يبدو الكتاب، على قول الصحافة، وكأنه ينزع هذا الوجه المقدس عن تلك الفترة، ليقدم إليها نظرة نقدية مختلفة بعض الشيء.
إن كان ثمة ملاحظات يجدر التوقف عندها في جائزتي غونكور ورونودو فإنه يمكن الحديث عن هؤلاء الكتاب الذين عاشوا حياة صعبة، في ظل انفصال عائلي (حتى ميشون عرف هذه الحالة)، لكن المفارقة أن الجوائز بدأت بالالتفات أكثر إلى هذا الجيل الشاب الذي ولد في الستينيات.
اسكندر حبش
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد