كيف تم ترويض منظمة فتح أمريكياً
الجمل: إدارة الصراع لم تعد حصراً على الوسائل العسكرية، بل أصبحت وبفعل تأثير تعميم منجزات العلوم الإنسانية الحديثة، تتم باستخدام العديد من الوسائل الأخرى، كالاقتصاد، والإعلام، والسيكولوجيا... وغيرها.
الحرب هي ظاهرة سلوكية تجسد صراع الإرادات، وقد استطاعت مراكز الدراسات والبحوث تطوير مبدأ (الغدر) الكلاسيكي القديم ضمن نظرية جديدة حملت اسم (الضربة الاستباقية) والتي تبرر القيام بشكل مفاجئ بـ(الغدر) بالطرف الآخر في حالة الإدراك أو الشعور بأنه يشكل ويمثل الخطر المحتمل.
• واقع حركة فتح وتوظيف وسائل (الضربة الاستباقية):
عندما قام زعماء حركة فتح بالتوقيع على اتفاقية اوسلو بعد أن أقنعهم المصريون والأردنيون بها، وأقاموا ما عرف بـ(السلطة الفلسطينية) لم يكن يدور في خلدهم أنه سوف يتم توظيفهم من أجل القضاء على حركات المقاومة الفلسطينية، وعلى المقاومة نفسها، تمهيداً للقضاء على حركة فتح نفسها كما حدث الآن..
• (الضربة الاستباقية) ضد حركة فتح.. المخطط والتنفيذ:
اعتمدت أمريكا وإسرائيل على المعونات كوسيلة لترويض حركة فتح وجعلها تسير ضمن مسارات تهدف إلى دفع حركات ومنظمات المقاومة الفلسطينية بعيداً عن دائرة القيام بتهديد إسرائيل.. وذلك كإجراء وقائي احترازي يهدف لحفظ أمن وسلامة إسرائيل من الهجمات وخطر المقاومة الفلسطينية.
عندما قامت فتح بإكمال هياكل ومؤسسات السلطة الفلسطينية بدأت عمليات الدعم وتقديم (المعونات) تأخذ طابعاً جزئياً على دفعات، والدفعة على جرعات.. وذلك ضمن أسلوب يهدف إلى إرغام زعماء حركة فتح على تغيير أدائهم السلوكي، بحيث يفهموا أن عليهم تغيير إدراكهم وفهمهم للقضية الفلسطينية ولثوابت الصراع العربي- الإسرائيلي، والتحول والتغير من مجرد زعماء في موقع (الثورة) إلى زعماء في موقع (التسوية)، وهو موقع يتطلب التحلي بالذرائعية وتقديم التنازلات التي لا يعقبها سوى المزيد من التنازلات.
- المخطط: قام خبراء المعونة الأمريكية، وخبراء الاتحاد الأوروبي بإعداد قوائم الموارد والالتزامات الخاصة بالسلطة الفلسطينية، ولتوضيح ذلك نقول بأن مصطلح (موارد) في دلالته المحاسبية يقصد به: كل ما يمكن أن تحصل عليه السلطة الفلسطينية من المصادر الخارجية والمصادر الداخلية.. أما مصطلح (التزامات) فدلالته المحاسبية تتمثل في كل بنود الصرف والاتفاق التي يتوجب على السلطة الفلسطينية توفير التدفقات المالية المباشرة وغير المباشرة اللازمة لمباشرة العمل والاستمرار.
بعد ذلك قام خبراء المعونة بتقدير حجم العجز، أو الفجوة بين الموارد والالتزامات، وبالتالي فإن (السلطة الفلسطينية) الوليدة لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون تحت يدها موارد تستطيع الاعتماد عليها.. وبسبب ذلك فقد كانت الفجوة كبيرة، والعجز المباشر وغير المباشر الذي سوف يترتب عليها سوف يكون أكثر وأكبر.
ثم انتقل الخبراء بعد ذلك إلى معالجة (إشكالية تغطية العجز)، وهنا كان بيت القصيد، فقد تصدى المانحون الدوليون بقيادة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، والدول العربية النفطية لعملية تغطية وإسناد السلطة الفلسطينية في المستقبل.
- التنفيذ: كان الهدف المعلن هو دعم السلطة الفلسطينية لكي تقف على قدميها وتكون نواة مؤسسية للدولة الفلسطينية المستقلة المرتقبة في المستقبل وفقاً لما ورد في (خارطة الطريق) وغيرها، ولكن الهدف غير المعلن هو دعم السلطة الفلسطينية بحيث تصبح عاجزة عن الوقوف على رجليها، وإضعافها رويداً رويداً حتى تترنح وتسقط صريعة المشاكل والانقسامات والفتن الداخلية، وفي هذا الخصوص فقد كانت خارطة الطريق بحق وحقيقة خارطة لا تفضي إلى الدولة الفلسطينية المستقلة وإنما تفضي إلى هاوية الفوضى والاقتتال الداخلي والفتنة.
سياسة الجرعة جرعة في تقديم المعونات، والتي كانت تقوم على مدى التقيد بتنفيذ ما هو مطلوب من وزارة الخارجية الأمريكية والمفوضية الأوروبية، أي وبكلمات أخرى: فقد كان حصول السلطة الفلسطينية على الجرعة التالية مشروط دائماً بتنفيذ بعض الخطوات المطلوبة، وهذه الخطوات المطلوبة لم يكن يجري تحديدها عبثاً، بل استطاع خبراء المعونة الأمريكية والاتحاد الأوروبي إدراجها بطريقة خبيثة ضمن ما عرف بـ(برنامج الإصلاح الفلسطيني)، والذي لم يكن برنامجاً عادياً، بل كان بالأحرى (بيتاً للشيطان)، وإذا استعرضنا النقاط والبنود الأساسية لهذا البرنامج فإننا نلاحظ الآتي:
- الصياغات المعممة التي يمكن تأويلها حسب الطلب والحاجة.
- الطبيعة الإلزامية التي تفرض على السلطة الفلسطينية القيام بالواجبات بغض النظر عن الالتزامات.
- الطبيعة التطوعية غير الإلزامية للأطراف المانحة للمعونات.
- عدم تكافؤ هامش الحركة المحدود أمام السلطة الفلسطينية في مواجهة هامش الحركة غير المحدود للمانحين على النحو الذي يعطيهم حق التدخل في كل كبيرة وصغيرة في الشأن الفلسطيني على النحو الذي يسقط الطبيعة السيادية للسلطة الفلسطينية وحقه في السيطرة المستقلة على الشأن الفلسطيني الداخلي.
• السلطة الفلسطينية و(جزاء سمنار):
بعد أن نجحت إسرائيل في توظيف وزارة الخارجية الأمريكية والمفوضية الأوروبية، ووكالة المعونة الأمريكية وغيرها، في اقتياد السلطة الفلسطينية إلى هاوية ثلاثية الأبعاد، وهي:
- الأزمة الإنسانية: وتمثلت في زيادة المعاناة الإنسانية وتدهور أوضاع الفلسطينيين داخل الأراضي الفلسطينية بمعدلات لم تكن موجودة في الماضي عندما كانوا يرزحون تحت نيران الاحتلال العسكري الإسرائيلي المباشر، فقد تحولت الأراضي الفلسطينية إلى سجن كبير تشرف على حراسته حركة فتح وفقاً للأوامر والتعليمات الإسرائيلية غير المباشرة التي تأتي عن طريق وزارة الخارجية الأمريكية والمفوضية الأوروبية.
- انهيار مؤسسات السلطة: فقدت مؤسسات السلطة الفلسطينية القدرة على القيام بمهامها الوظيفية، بحيث انهارت الخدمات التعليمية والصحية وإمدادات المياه والكهرباء، وغيرها من البنى التحتية، في ظل عجز السلطة الفلسطينية التي ما إن تسارع وتلبي طلب المانحين، حتى يسارعوا ويقدّمون لها المزيد من المطالب الأخرى.
- انهيار وتصدع خدمات الأمن: عندما تولت فتح مقاليد السلطة الفلسطينية كان يتوجب عليها عدم الخلط بين مؤسسات الدولة ككيانات عامة، وحركة فتح كمنظمة شعبية وحزب جماهيري فلسطيني تطوعي.. وقد قاوم زعماء فتح الالتزام بالموضوعية المؤسسية للسلطة الفلسطينية، وحولوها إلى مجرد جهاز من أجهزة تقديم الخدمات لحركة فتح، وقد لاحظ المانحون الأمريكيون والأوروبيون ذلك، وفهموا الإشارة منذ وقت مبكر، ومن ثم لم يقوموا بالضغط على فتح لكي تعمل على فك الارتباط بين مؤسسات السلطة وفتح.. وبدلاً عن ذلك ركز هؤلاء المانحون على دعم وتعزيز هذا الاتجاه باعتباره الأسلوب الأمثل للقضاء على الاثنين معاً، أي على فتح ومؤسسات السلطة.
وعموماً، لقد كانت العلاقة غير المتوازنة بين الأطراف الثلاثة: إسرائيل، المانحون، فتح، علاقة غير متوازنة بالأساس، وذلك لأن بنودها كان يسكنها الشيطان، فقد كانت إسرائيل تحدد، والمانحون يطلبون، وفتح تنفذ، وحتى الآن مايزال زعماء فتح أكثر إصراراً على المضي قدماً في هذه العلاقة غير المتوازنة، وهو أمر سوف يؤدي بفتح إلى الكارثة، وذلك لأن المضي في هذا الطريق سوف يزيد الغضب والسخط الشعبي الفلسطيني ضد فتح، وسوف تأتي حماس لتستولي على الضفة الغربية وتخرج فتح منها كما أخرجتها من قطاع غزة.. ولو حدث هذا السيناريو فإن تداعياته سوف تكون كارثية، وذلك لأن المقاومة وسخرية القدر سوف تتمثل في الحقيقة القائلة بأن الفلسطينيين تم إخراجهم في الماضي على أيدي الإسرائيليين الغاصبين، ولكن زعماء فتح الفلسطينيين سوف يكون إخراجهم من أرض فلسطين على يد الفلسطينيين أنفسهم، وعندها سوف يكون التاريخ قد مد لسانه وأدار ظهره نهائياً لأربعين عاماً عاشتها حركة فتح، ثم اندثرت بعد فترة من الزمن، وطواها النسيان.. بسبب إخفاقات الكثيرين الذين من بينهم عباس ودحلان.
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
هل ينتهي صراع فتح وحماس إلى إنشاء إمارتين فلسطينيتين متنافرتين؟
إضافة تعليق جديد