ميساء آقبيق: رحلتي إلى بلاد العم سام (1)
الجمل - ميساء آقبيق: وأخيرا سافرت إلى أمريكا.. لطالما أردت رؤية تلك البلاد التي يسميها البعض أرض الأحلام..
فأنا أنقل أخبارها كل يوم في عملي، وأرى صورها في كل تصريح سياسي ومؤتمر صحفي وفي انتخابات الرئاسة والكونغرس ومجلس النواب وأتابع أفلامها وبرامجها ومسلسلاتها إلى حد بات من الصعب فيه فصل الواقع عن الخيال.
كنت قد عاهدت نفسي أن لا تطأ قدماي الأرض الأميريكية مادام جورج بوش يسكن البيت الأبيض، فما كان من الأميريكيين إلا أن أعادوا انتخابه فترة رئاسية ثانية.. طالت المدة وتجولت في بعض دول أوروبا والشرق الأقصى إلى أن رحل صديقنا بوش وهبت رياح التغيير على السياسات الأمريكية، أو هكذا بدا..
عزمت أمري وحزمت حقائبي ورتبت حجوزاتي وبرنامج رحلتي ووجدت نفسي على متن الطائرة معلقة في السماء مدة أربع عشرة ساعة متواصلة قبل أن أرى أول ملامح مدينة نيويورك.. هذه المدينة التي يرد اسمها عشرات المرات في الأخبار والمجلات والجرائد والأغاني والأفلام وأحاديث اصحاب الأموال والمتعاملين بالبورصة. مدينة سكانها ثمانية ملايين من البشر في الليل، واثنا عشر مليونا في النهار.. تمشي في شوارع منهاتن فلا تكل ولا تمل، إنها تعج بالحياة والحركة، السائرون على أقدامهم أكثر من راكبي السيارات، والساهرون أكثر من النائمين.. في نيويورك سمعت لغات لا عد ولا حصر لها، ورأيت ملامح وجوه من كل الأعراق والألوان، تبحث هناك عن الشكل الأمريكي الذي صورته في خيالك فلا تجد.. أين هم الأميريكيون؟ هم في كل مكان، جاءوا من أصقاع الأرض وتجنسوا، ناهيك عن عشرات الآلاف من سياح الداخل والخارج، فهناك كثير من أهل الولايات الأخرى لم يتسن لهم قبل ذلك زيارة هذه المدينة الشهيرة.
يسحرك الجمال والنظافة والنظام والالتزام بالقوانين، وهنا أتحدث فقط عن منهاتن أرقى مناطق نيويورك، وأعلم أن مناطق أخرى قد تكون مليئة بأصحاب المشاكل والمدمنين والفقراء وخلاف ذلك، لكني أصور قمة رأس المال هناك، حيث تقبع وول ستريت أشهر بورصة في العالم، وتنتصب مباني أعتى الشركات ويتجول أغنى الأغنياء.. هناك تتوقف عن تعداد اليهود المنتشرين في الشوارع ومحلات اللحوم الخاصة بهم والتي لا تقدم لحم الخنزير وتطهو لحوما مذبوحة على الشريعة، شريعتهم، هي بالمناسبة شبيهة بشريعتنا الإسلامية فيما يتعلق بذبح اللحوم.. لم أعتد على رؤية اليهود، ولم أعلم تحديدا قبل ذلك كيف سيكون شعوري أو رد فعلي عند رؤيتهم، لم أستحب قط فكرة رؤيتهم في كل مكان حولي، ولكني كنت أنظر إلى المدينة بعيون صحفية، هكذا تمكنوا من تحويلها إلى أهم مدينة في العالم عندما وضعوها على محرك المال، هم أناس يعرفون ماذا يريدون، ويعملون من أجل ما يريدون، والمال عندهم موظف لخدمة أهدافهم، وهو الأمر الذي لم نتعلمه نحن العرب مهما تضاعف المال في خزائننا..
هو شعور غريب ذلك الذي انتابني وأنا أجول في تلك البلاد، من نيويورك إلى العاصمة واشنطن مرورا بمدينة أتلانتا إلى مدينتي ممفيس وناشفيل، ما الذي جعل بلدا عمره لا يتجاوز مئتين وخمسين عاما على أراض مترامية الأطراف بين ساحله الشرقي والغربي رحلة بالطائرة تمتد ست ساعات، يبدو بهذا الشكل المرتب والنظيف والمنظم، لماذا استطعت أن أحلق من مطار وأحط في آخر في رحلات جوية بين ساعة وثلاث ساعات من دون أن أبرز جواز سفري أو أجد دائرة جمارك تستعد لتفتيشي؟ ولماذا نرزح نحن الذين نفتخر بعمر حضارتنا العائدة إلى الوراء آلاف السنين تحت نير التخلف والجهل والتشرذم والفرقة والحروب والفتن الطائفية والعشائرية والعرقية والحزبية وفتن أخرى لا نهاية لها؟ غبت عن الوعي في أمريكا.. أحسست بنشوة المستكشف، وأخذت أطالع الوجوه واللوحات والشوارع والمسارح والمطاعم وحتى الكلاب في الشوارع بنظرة أخرى، لم يكن إحساسي وأنا هناك كذلك الذي يراودني بعد عودتي إلى الأراضي العربية، لم أتمن العيش هناك، فعلى رغم كل تلك الزينة البراقة وجدت جنونا يندفع مع كل شهيق وزفير لإنسان يعيش في تلك البقعة من الأرض، جنون السرعة واللهاث وراء الحياة المادية المرفهة والاستقلالية الشديدة، وأخذت أدعو الله أن يحمي بلادي.. لكن غصة كانت تلهب حلقي، غصة إنسانة مقهورة، تخاف أن تتوقف عن العمل فتعيش عالة على الآخرين لأنها حرمت من الضمان الاجتماعي، تخاف أن يصيبها مرض فتقع بين يدي طبيب متعجرف مادي يدفع بها إلى غرفة العمليات من دون داع فيرسلها في رحلة أبدية إلى الآخرة، تخاف أن تتناول وجبة ملوثة في مطعم تصيبها بالتسمم وليس هناك قانون أو جمعيات تحمي المستهلك من فساد البشر، تتعرض في كل وقت لشراء بضاعة من شخص غشاش، وفي كل وقت لنصب أصحاب المحلات التجارية الذين يبيعون البضاعة بأضعاف ثمنها الأصلي وقيمتها الحقيقية، تخاف المجتمع والناس والعيون الفضولية والمريضة والمتطفلين وأصحاب الألسنة اللاذعة والقاسية. هناك في نيويورك لا ينظر أحد إلى ما في يد الآخر، الكل مشغول بنفسه وبشؤونه، إنهم يبنون البلد..
وللحديث صلة...
إضافة تعليق جديد