07-08-2020
"هيدي مزبلة بيروت.. إلنا!"
قصة: نصار إبراهيم
"اللعنة على هذا المكان، أين سأحفر؟ لا أجد سوى القاذورات والعلب الفارغة، كيف سندفن أنفسنا في هذا الخراء" يصرخ أبو حلب وهو ينظر إلى يديه القذرتين.
"إحفر، إحفر يا قلبي، الغوص في القمامة أفضل من الموت بطلقة أو قذيفة"، ردّ فؤاد بلهجته المميزة، وحرف القاف الواضح وضوح الشوف.
كانوا خمسة مقاتلين، اجتمعوا بالصدفة كقطرات ماء انحدرت من مسارب بعيدة والتقت هنا، على مزبلة بيروت في الطرف الشرقي لمطار بيروت الدولي.
خمسون يوماً وهم يقاتلون، يناورون بين الطلقات والقذائف، يتقدمون جنوباً ويعودون، يلامسون مثلث خلدة بنظرهم ورصاصهم، وخلفهم بيروت بجمالها ولعناتها وأضوائها الحالمة الراقصة على شط المتوسط. كان ذلك في تموز 1982.
لازموا خط الواجب بثبات، كان يأتيهم دوي القذائف وصدى الاشتباكات التي تجري شمالاً، غرباً أو شرقاً. المهم بالنسبة لهم الآن هي المئة متر التي يدافعون عنها.
اختزل الوطن بالنسبة لهم في مزبلة بيروت المحشورة بين البحر وأقدام الجبل. التصق الشباب الخمسة بالأرض، في الحقيقة التصقوا بالمزبلة، مزبلة بيروت، حيث امتزج الصمود، المقاومة بالروائح الكريهة، المتعفنة، أكياس النايلون من كل الألوان، علب فارغة، علب سردين، فول، حمص، بندورة، أوراق، مخلفات مطاعم، مستشفيات، ومنازل، كل تركيبة بيروت الاجتماعية توحدت في المزبلة.
بصعوبة تمكنوا من تنظيف عدة حفر ضيقة دعموها بأكياس الرمل وفي لحظات الهدوء النادرة تنطلق الضحكات والسّباب، تقطعها بين وقت وآخر صليات رشاش أو قذيفة تمر زاعقة نحو بيروت.
"لماذا لا نغير الموقع، على الأقل ستخف هجمات الذباب والبعوض..!!" يسأل محمد من مخيم شاتيلا. وهو يحاول طرد أسراب الذباب التي لا تتوقف عن شن غاراتها.
"ولك هيدا موقع استراتيجي، هيدي مش مزبلة، هيدا الوطن، هيدي بيروت. زيح الزبالة بتشوف الأرض. الإسرائيلية بفكروها مجرد مزبلة إحنا بنشوفها لبنان"، بهذه الكلمات رسم جورج بلهجته اللبنانية اللوحة، وحدد أيضاً أطراف المعادلة.
ألقى حسين نحوه نظرة خاطفة وابتسم، كان يعرف قيمة المقاومة ولكن ليس بهذا الوضوح. أرسل بصره من بين أكياس الرمل نحو الجنوب، كانت أمواج البحر تتقدم وتتراجع برتابة، عند خط التقاء البحر بالسماء تتحرك البوارج والزوارق الحربية الإسرائيلية، من حين لآخر تطلق من جوفها عدة قذائف تمر صافرة وتدوي في قلب بيروت، فيتصاعد الدخان في تشكيلات شيطانية صاعداً نحو السماء. فهمس"فعلا زيح الزبالة بتبين أرض الوطن النبيلة".
أطلّ محمد برأسه من فوق أكياس الرمل، ألقى نظرة على المواقع التي تتمركز فيها الآليات الإسرائيلية. انطلقت صليات رشاشات ثقيلة متواصلة، غاصت الطلقات في أكوام القمامة، نثرت نتف الأوراق وبقايا الخضار والفواكه المتعفنة، فغاص محمد بسرعة في جوف الحفرة". قال: إنهم يراقبوننا، يعرفون أننا هنا، لازم نردّ عليهم".
انطلقت قذيفتان صاروخيتان من جوف المزبلة نحو المواقع الإسرائيلية. دوى انفجاران، وتصاعد الدخان. اشتدت حدّة الاشتباكات، وانهمك الشباب في المقاومة، رشاشات خفيفة، متوسطة، قذائف ( بي 7). اهتزّت الأرض. اشتعلت النيران في الأوراق وأكوام النفايات. دخان أزرق خانق يغمر المكان.
في ذلك اليوم اختلط القتال، بالنار، بالضحكات، والروائح الكريهة وأيضاً بالصمود والفرح المستحيل.
"صحيح أن هذه مزبلة، لكنها مزبلة غير شكل، على راسنا بيروت، ومزبلة بيروت" هتف أبو حلب وكأنه يلقي خطاباً في مؤتمر للقمة.
"هل تعرفوا يا شباب، الوطن صفقة شاملة. بجباله، بحره وأشجاره وأيضاً بمزابله، مجاريه الصحية، تاريخه وحاضره، انتصاراته وهزائمه، أبطاله ولصوصه، لا تستطيع أن تنتقي. أنت تحلم بنموذج، لكنه ابداً لا يأتي، من هنا لا نستطيع أن نقول: حسناً خذوا المزبلة واتركوا لنا جبل صنّين أو بيروت، إذا تمكنوا من المزبلة سيصلوا إلى بيروت" هكذا لخص حسين ابن الضاحية الجنوبية اللحظة.
"ولك صرعتنا، نحنا قلنا شي، خمسون يوماً ونحن نغوص حتى أعناقنا في مخلفات الوطن، فوط الطفال والنساء، العلب الفارغة، الخضار المتعفنة، زجاجات عطور كرستيان ديور الفارغة، وأرجل الدجاج والريش من ملحمة أبو صبري". علق فؤاد ساخرا.
وهكذا استمر الحوار والمقاومة والصمت. فيما بيروت بليلها وأحلامها تنام مطمئنة إلى مدخلها الجنوبي. مزبلتها بخير إذن هي بخير.
* * *
عصر ذلك اليوم التموزي من صيف 1982، البحر يواصل حنينه، أمواجه تحاول أن تتخطى الشاطىء، تبتعد ثم تعود بإصرار لا يتوقف، وعلى بعد خطوات ثلاثة شبان يجلسون في بقايا حفر محطمة، يحتضنون بنادقهم وينتظرون. تتناثر حولهم الأوراق القذرة، وخراطيش الرصاص الفارغة وبقايا أجساد، بقايا صور، بقايا أحاديث، وصدى ضحكات غابت للأبد. في الليلة التي مضت كان القتال ضارياً، حرثت القذائف المكان، اختطفت من بينهم جورج وحسين، انتزعتهما من بين أكوام العلب الفارغة!.
كسر فؤاد الصمت، نهض واطلّ برأسه من فوق أكياس الرمل وصرخ:
" هي، نحن لا نزال هنا يا ولاد الكلب".
نعم، قد يصنع البعض كرامته حتى ولو كان فوق مزبلة، والبعض الآخر قد يحوّل كرامته إلى مزبلة حتى وهو يسير على بساط احمر نافشاً ريشه كديك.
إنها المقاومة، محرجة كما الشهداء، تجعل أنصاف الحلول وأرباعها مهمة مستحيلة.
تواصل أمواج البحر رحيلها الأزلي، فيما الرياح تمرّ رقيقة وتمضي نحو الجنوب.
اليوم لا أحد يتذكر، وهل لا تزال مزبلة بيروت في مكانها أم تمّ نقلها؟!.
وحتى لو تم ذلك، فهذا لن يلغي ما حدث في ذلك اليوم التموزي من عام 1982، عندما سقط شابّان جميلان وهما يردّدان في أعماقهما: "هيدي المزبلة إلنا!.. لن تمروا".
إضافة تعليق جديد