يخشى وشاية أولاده ويمضي ما تبقى من عمره على سطح منزله
يحرص علوان على تعليق صورة كبيرة للإمام علي في صدر صالة البيت، وعلى الجدار المقابل صورة للمرجع علي السيستاني ولا يطيل، إذ سرعان ما يضيق به المكان فيخرج الى سطح الدار حتى لو كان الليل متأخراً والريح الشمالية عاتية.
يصلي علوان أمام أولاده، ويدعي انه صائم في رمضان، وفي محرم يذهب إلى حسينية القرية ليتبرع بمبلغ من المال، ويعود بعد الظهر وفي يده قدر مليء بالرز واللحم المحمص، ليبعد عنه تهمة يرددها المقربون إليه أنه لا يصلي ويشرب على سطح الدار.
علوان في حقيقة الأمر لا يؤمن بما يؤمن به أولاده وجيرانه، فقد نشأ وسط ثقافة غير ثقافتهم كانت سائدة في الستينات والسبعينات من القرن الماضي وانقرضت لتحل محلها ثقافة الخوف من المجهول.
علوان موظف في أحد المصارف التي افتتحت في البصرة بعد انهيار النظام السابق، كان أحيل على التقاعد منتصف التسعينات ثم وجد وظيفة في مصرف أهلي يسد بها بعض ما يعجز راتبه التقاعدي عن تأمينه.
كان لأكثر من 30 عاماً يجلس في صالة البيت التي كانت مزدانة بالكثير من اللوحات الفنية الشهيرة، رسمها أصدقاؤه من الفنانين الذين غادر معظمهم العراق اليوم. لوحات لماتيس وغوغان والغريكو ومونيه وسيزان... نسخ من لوحات عالمية كان يشعر معها بنوع من الألفة والتسامح، وبأن الحياة في حاجة دائماً إلى وقفة تأمل أمام لمسات الجمال التي أبدعها هؤلاء.
يقول بعض دارسي الاجتماع في العراق إن طبيعة العراقيين تغيرت، منذ أغلق صدام حسين الكثير من المقاهي منتصف التسعينات في حملته الإيمانية الشهيرة التي أعقبت حرب الكويت، وان الحوار الفكري والسياسي تعرض لنوع جديد من القمع. قمع التراث، مضافاً إلى الديكتاتورية.
غير الكثير من العراقيين طريقهم. بدأوا يتجهون إلى المسجد أو الحسينية. بعضهم دخل بيته واغلقه على نفسه، مثلما فعل علوان الذي صار مضطراً إلى ممارسة عاداته «السيئة» في البيت. لكن عندما كبر أولاده أحس بقمع آخر وخوف يحاصرانه، فصار يصعد إلى السطح ليمضي الليل وحيداً. صار يشعر بخطر أكبر حين بدأ الأولاد مع أصدقائهم يذهبون إلى المسجد أو الحسينية. شعر بالخطر الحقيقي، وبين الحين والآخر كان يعثر على تربة حسينية أو مسبحة أو مصلاة من نسيج إيراني وصور للسيد مقتدى الصدر ولحسن نصرالله وغيرهما، وكان لا يجد فرصة للحوار مع الوافدين الجدد إلى بيته، وحلوا محل مونيه وسيزان... فهو مشغول بما هو أكبر من دخول هذه الأشياء إلى بيته، وهو يشعر أن الحياة كلها صارت لا تطاق.
أقنعته زوجته بأن الصور والأشياء هذه ربما تدفع عن البيت بلاء مبرماً، وذكرته بما كانت تفعله بعض العائلات في عهد صدام حين كانت تعلق صوره، وذكرته بالخوف الذي كان يشيعه هؤلاء، فصار أكثر قناعة بما يفعله أولاده، لكنه ظل يخفي أشياءه الحميمة عنهم، فما أن يحل الليل حتى يعود إليها، متذكراً صاحبة الحانة التي كانت تلاطفه من على كرسيها كلما دب الخدر في ثنايا حبه للحياة.
من الصور المعلقة في بيوت العراقيين صارت تعرف أهواؤهم وطرق تفكيرهم في العبادة، فمن صورة السيستاني وعبدالعزيز الحكيم والخميني، تعرف أن أهل هذا البيت يختلفون مع مقتدى الصدر، ومن صور مقتدى تعرف أنهم لا يحبون الحكيم، وبين هذين الاتجاهين لا ترى صوراً أخرى، فلا أحد يجرؤ على تعليق صور أياد علاوي، مثلاً، بل حتى أن الشيوعيين القدماء انزلوا صور ماركس ولينين من على جدران منازلهم بعد سقوط حكم صدام وتركوها جرداء نكاية بكل هؤلاء.
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد