‘سي آي إيه’, الإعلام, والدعاية السوداء
الجمل- دوغلاس ڤالنتاين- ترجمة: د. مالك سلمان:
حالما قام كيفن درَم في "مَذر جونز" بتبرئة اﻠ "سي آي إيه" من اللجوء إلى الغازات السامة كنوع من الاستفزاز, ألقى العديد من أعضاء "اليسار الليبرالي" بوزنهم خلف أوباما متحمسينَ لشن حرب "تأديبية" على سوريا.
فقد قال طوم هايدن في "ذَ نيشن": "ربما يكون تغيير النظام فكرة جيدة".
كما زعم شيخ اليساريين نعوم تشومسكي, والذي يعبر في العادة عن احترامه للأعمال السرية, أن أمريكا لا تزود جيش القاعدة المرتزقة بالأسلحة – على الرغم من أن إيريك شميت أشار قبل أكثر من سنة في "نيويورك تايمز" إلى أن ضباط "سي آي إيه" في تركيا "يساعدون الحلفاءَ في تحديد المقاتلين السوريين المتواجدين داخل الحدود الذين يجب تزويدهم بالسلاح."
وكأن تحريضَ هايدن على الحرب وتغطية تشومسكي على "سي آي إيه" ليس مفارقة كافية؛ فقد هرعَ درَم للدفاع عن "سي أي إيه" في وجه اتهامها بالقيام بعمليات استفزازية من قبل رَش ليمبو. مما يثير السؤال التالي: ما هي الحقائق حول ميول "سي آي إيه" نحو "الردود الناتجة عن الاستفزاز" الشبيهة بما حصل في "خليج تونكين" مما أدى إلى اندلاع حرب فيتنام؟
ببساطة شديدة, تشكل الدعاية السوداء إحدى الممارسات الإجرامية, التي يمكن نكرانها قانونياً, التي تلجأ إليها "سي آي إيه". وغالباً ما تنطوي على ارتكاب جريمة بشعة وتحميل مسؤوليتها للعدو من خلال زرع دلائلَ مزيفة, ومن ثم الاتفاق مع صحيفة أجنبية على نشر النسخة التي تقدمها "سي آي إيه" للأحداث, والتي يقوم الصحفيون المتعاطفون في أمريكا بتعميمها على الرأي العام الساذج.
في حالة سوريا, تستخدم "سي أي إيه" "معلومات استخبارية" مطبوخة في إسرائيل كعامل محرض – ولهذا السبب, كما يشرح جونستون وبريكمونت, تبدو هذه "المعلومات الاستخبارية" "مشبوهة".
وهناك أيضاً استخدامات "استخبارية" أخرى للدعاية السوداء, وغالباً ما يتم استخدامها لتجنيد المخبرين وتشجيع الفارين والمنشقين.
في سيرته الذاتية "جندي", تحدث آنثوني هيربرت عن التحاقه بالخدمة في سنة 1965 في سايغون في "مجموعة العمليات الخاصة" العسكرية المشتركة التابعة لوكالة الاستخبارات المركزية. طلب منه الأشباح الاستخباريون الانضمام إلى برنامج تجسس سري. "طلبوا مني قيادة فرق إعدام تقوم بقتل عائلات بأكملها ثم تجعل الأمر يبدو وكأن مقاتلي ‘فييتكونغ’ هم من ارتكبوا هذه الجرائم. الفكرة من وراء ذلك هي أن يرى الفيتناميون الآخرون أن مقاتلين من الفييتكونغ قد قتلوا مقاتلينَ آخرين من الفييتكونغ مما يثنيهم عن الالتحاق بمقاتلي الفييتكونغ. وطبعاً يدفع ذلك القرويين إلى الوقوف في صفنا."
وكما بينَ الأخصائي الشهير بمكافحة الإرهاب ديفيد غالولا: "يشكل أشباه المتمردين طريقة للحصول على المعلومات الاستخبارية وزرع الشكوك في الوقت نفسه بين المسلحين الحقيقيين والسكان."
وفي حالة مماثلة في سنة 1964, قام ضابط "سي آي إيه" شهير مختص بالدعاية بتنظيم ثلاثة "فرق استبيان" مسلحة كانت تعمل في القرى المتجاورة في الوقت نفسه. وعندما كانت فرق الدعاية التابعة للفييتكونغ تغادر القرية, كانت عناصره تدخل إلى القرية وتتحدث مع شخص واحد في كل منزل, بحيث كان على الفييتكونغ "معاقبة الجميع بعد مغادرتنا".
وبكلمات أخرى, كان مرتزقة "سي آي إيه" (على غرار بعض مرتزقة "سي آي إيه" في سوريا) محرضين يعملون على تعريض الناس للانتقام, واستخدامهم لجمع المعلومات وأغراض دعائية أخرى.
إليكم مثال آخر: في سنة 1964, كان ضابط "سي آي إيه" نيلسون بريكمان يعمل في "فرع العلاقات الصينية- السوفييتية", حيث كان يدير عمليات الدعاية السوداء المصممة لخلق نوع من الاحتكاك بين الاتحاد السوفييتي والصين. كان التجنيد المزيف جزأ أساسياً من هذه العمليات السوداء, حيث كان ضباط "سي آي إيه" يتظاهرون أنهم ضباط استخبارات سوفييت, ومن خلال استخدامهم للمنهجية السوفييتية والأنظمة الصفرية السوفييتية الفعلية نجحوا في تجنيد دبلوماسيين صينيين كانوا يعتقدون أنهم يعملون لصالح الروس. وقد استغلَ ضباط "سي آي إيه" أولئك المغفلين الصينيين لخلق كافة أنواع المشاكل.
أسسَ بريكمان في سنة 1967 برنامجَ "فينيكس" في جنوب فيتنام. كان لرئيس عمليات برنامج "فينيكس" في سنة 1970, الكولونيل توماس مَغريفي, "عميل اختراق" داخل "المكتب المركزي لجنوب فيتنام". كان مساعد المدير المالي للمكتب هو عميل الاختراق. وكان هذا المساعد يخبر مَغريفي عندما يذهب المدير المالي في عطلة, مما يساعد مَغريفي على شن حملة دعائية سوداء تتهم المدير المالي بسرقة أموال المكتب والهرب.
قدمت نشرة حول برنامج "فينيكس" أصدرتها "الاستخبارات" الثورية في سنة 1970 توصيفاً للطريقة التي كان القوميون ينظرون بها إلى "سي آي إيه". وكما تنص النشرة فإن "المناورات الأكثر خبثاً" التي كانت تقوم بها "سي آي إيه" كانت "تتمثل في استخدام كافة الوسائل الممكنة لإرهاب العائلات الثورية وإرغام الناس على البوح بمواقع عملائنا والانضمام إلى ‘قوات الدفاع الذاتي الشعبية’. كما كانوا يقومون بنشر الدعايات الكاذبة. كان هدفهم الرئيسي التشنيع بالعائلات الثورية, وإثارة الخلافات بينها وبين الشعب, وتدمير ثقة الشعب في الثورة. وإضافة إلى ذلك, كانوا يحاولون أيضاً رشوة العائلات الثورية الفقيرة والبائسة للتعامل معهم."
الرسائل المزورة هي أحد اختصاصات "سي آي إيه". فقد كشفَ ضابط "سي آي إيه" السابق فيليب آغي كيف أطلق عملية ناجحة باستخدام الرسائل المزورة ضد الإكوادوري أنطونيو فلوريس بينيتيز, العضو البارز في الحركة الثورية الشيوعية. "من خلال مراقبة هاتف فلوريس, عرفنا الكثير عما يفعله. كانت زوجته ثرثارة جداً. زار هافانا بشكل سري وقررنا أن نفعلَ شيئاً عندما تحط طائرته في الإكوادور. عملت مع ضابط آخر طيلة نهاية الأسبوع على تلفيق ‘تقرير’ من فلوريس إلى الكوبيين. كان تحفة خالصة. أشار التقرير إلى أن مجموعة فلوريس كانت قد تلقت الأموال من كوبا وهي تطلب الآن مزيداً من الأموال لشن العمليات في الإكوادور. أحب رئيس محطة ‘كويتو’ التي أعمل فيها التقرير جداً إلى درجة أنه قرر المشاركة في العملية. ولذلك رمى التقرير على الأرض ومشى عليه قليلاً لكي يبدو مستعملاً. ثم طواه ووضعه في ماسورة معجون أسنان كان قد أمضى ثلاث ساعات في عصره وتفريغه. كان مثلَ طفل حصل على لعبة جديدة. ثم أخذت الماسورة إلى وزير المالية الذي أعطاه لمفتش الجمارك. وعندما دخل فلوريس عبر الجمارك, تظاهرَ المفتش أنه يبحث في إحدى حقائبه. ما فعله في الطبع هو وضع ماسورة المعجون في الحقيبة ثم تظاهرَ بأنه وجده فيها. وعندما فتحَ الماسورة, ‘اكتشف’ التقرير بالطبع. تم اعتقال فلوريس وحصلت فضيحة كبيرة. كان هذا واحداً من سلسلة من الأحداث المثيرة التي نجحنا في تلفيقها خلال الأشهر الستة الأولى من عام 1963. ولكن في أواخر شهر تموز/يوليو من تلك السنة, كانت درجة الخوف المعادي للشيوعية قد وصلت إلى حد كبير مما دفع بالجيش إلى انتهاز الفرصة والاستيلاء على الحكومة, ومن ثم حبس جميع الشيوعيين الذين تمكن من القبض عليهم وأصدر قانوناً بمنع ‘الحزب الشيوعي’".
وبنفس الطريقة كانت شرارة انقلاب 1973 في تشيلي وثيقة مزورة تتضمن تفاصيلَ حول مؤامرة يسارية لشن حملة من الرعب اكتشفها أعداء الرئيس سلفادور أيَندي غوسنز. كانت النتيجة انقلاباً عسكرياً عنيفاً استلقى ضباط "سي آي إيه" (الذين أطلقوه عبر معلومات مضللة نشرت في الإعلام التشيللي) يتفرجون عليه من مراجيحهم المنصوبة في الظل.
وتستمر عمليات التزوير والتلفيق.
قام الجنرال إد لانزديل بإعطاء ممارسات الدعاية السوداء الاستخبارية صفة رسمية في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي في الفيليبين. فلكي يشهرَ بالشيوعيين ويكسب التأييد للأمريكيين, كانت إحدى وحدات الكوماندوس التابعة له في الفيليبين ترتدي زيَ المتمردين وترتكب الفظاعات ضد المدنيين, ثم تصل وحدة أخرى بشكل سحري مع الكاميرات لتسجلَ المشاهد المدبرة وتطارد "الإرهابيين". كانت الكاميرات العنصر الرئيسي في العملية.
كما لفقت "سي آي إيه" قصصاً رهيبة حول قيام الجنود الفيتناميين ببقر بطون النساء الحوامل الكاثوليكيات, وإخصاء الرهبان, وإدخال أعواد البامبو في آذان الأطفال كيلا يسمعوا كلمة الله. وقد قام رجل لانزديل, عميل "سي آي إيه" الصحفي جوزف آلسوب, بنشر هذه الدعاية السوداء بسرور غامر.
إن "الصحافة" الأمريكية هي العامل الأكثر حيوية وتدميراً وعنجهية في الدعاية السوداء. فعندما يتعلق الأمر بوكالة الاستخبارات المركزية والصحافة الأمريكية, تقوم يد سوداء بغسل اليد الأخرى. فللوصول إلى مسؤولي "سي آي إيه", يقوم المراسلون بتجاهل الروايات أو تشويهها. إنهم يبيعون لقاء سبق صحفي. وبالمقابل, يقوم مسؤولو "سي آي إيه" بتسريب القصص إليهم. إن العلاقة بين المراسلين الصحفيين وضباط "سي آي إيه" هي علاقة "غشاء المحارم", لأن هناك قرابة دم بين المجموعتين. ففي مرحلة من المراحل, صدف أن كان مراسل "نيويورك نايمز" في فيتنام جيمز ليموين شقيقَ رئيس فريق مكافحة الإرهاب في "سي آي إيه" في "دلتا", القائد البحري تشارلز ليموين.
في مجتمع ديمقراطي, يجب على الإعلام التحقيق والنقل بشكل موضوعي حول الحكومة, التي لا تلتزم بإطلاع الرأي العام على نشاطاتها والتي, عندما تفعل ذلك, تقوم "بتشويه" الأخبار. وكجزء من "العقد الفاوستي", عندما تقوم الحكومة بأنشطة سرية, وبشكل غير قانوني, يتغاضى الصحفيون عن ذلك خشية تعريض علاقاتهم المربحة للخطر. والنتيجة هي تجريد الشعب الغافل من حرية التعبير – إذ كيف يمكن لك أن تعبر عن رأيك بحرية إن لم تكن تعرف حقاً ما يجري من حولك؟
لو لم يجعل لانزديل آلسوب ينشر دعايته السوداء لما كانت حرب فيتنام قد حدثت. وبنفس الطريقة, قامت جوديث ميللر, مراسلة "تلفزيون فوكس" التي سهلت الحرب على العراق, بتقديم حرب العراق لكم عبر وثائق مزيفة قدمها لها محللو "سي آي إيه".
نادراً ما نعرف أولئك الذين يعملون على نمط آلسوب وميللر, إلا بعد ظهور الحقائق. إذ إن "سي آي إيه" تتبع سياسة سرية في الاحتفاظ بالفظائع التي ترتكبها لنفسها. وتساعدها في سعيها الهادف إلى خديعة الشعب الأمريكي حقيقة أن الدعاية السوداء ترسخ اعتقادات الأغبياء بيننا, كما تؤكد أمنهم المتخيَل وإحساسَهم بأنهم استثنائيون.
في حقيقة الأمر, عمليات الدعاية السوداء ووكالة الاستخبارات المركزية هما نقيضان للمؤسسات الديمقراطية.
إن جزأ كبيراً من نجاح "سي آي إيه" الراهن يكمن في قدرتها على إيصال رسالتها عبر المنشورات اليسارية, وسياسة اليسار غير المعلنة في الرقابة الذاتية فيما يتعلق بعمليات "سي آي إيه". والأخطر من ذلك كله هم ضباط "سي أي إيه" السابقون الذين يتشدقون بمناهضتهم للحروب ويسعون إلى الحصول على قناع من الحصانة عبر زعمهم بأنهم "محللون". وهذا يشبه القول: "كنت محاسباً في المافيا, لكنني لم أقتل أحداً".
إن المحاسبين هم الذين يخبرون الزعماء بأسماء وعناوين المقصرينَ الذين لم يدفعوا "الخوَة" هذا الأسبوع. فقد كان لدى "مديرية فينيكس" في سايغون محللون ينفذون نفس وظائف الاغتيالات والخطف والتعذيب على المستوى الصناعي.
على الرغم من التصوير الشائع لشباب وشابات "سي آي إيه" كوطنيين يجازفون بكل ما لديهم للقيام بالأعمال القذرة, إلا أن ضابط "سي آي إيه" النموذجي هو مريض نفسي لا يجرؤ على المغامرة بمفرده في غياهب العالم السفلي. فهم ينجذبون إلى "سي آي إيه" لأنهم محميون هناك ﺑ "ثقافة الموت" القوية التي تحكم أمريكا.
إن أخطر ما في الثرثرة التي يقوم بها ضباط "سي آي إيه" السابقون هو رسالتهم الموحدة التي تقول بضرورة "سي آي إيه". فهؤلاء لا يشبهون فيل آغي, من حيث أنهم لا يكشفون عن الحقيقة البشعة ويطالبون بإلغاء "سي آي إيه". فعلى غرار كافة خبراء الحرب السياسية والنفسية العاملين في "سي آي إيه", نجدهم في مقدمة الداعين إلى الحرب على الإرهاب, حيث يستخدمون الحربَ الجاسوسية لتحقيق أهداف "ثقافة الموت" التي تحكم أمريكا. والنتيجة هي مسرح من العبث, عالم من الوهم.
يقال لنا الآن إن مرتزقة "سي آي إيه" السوريين يمكن أن يشنوا هجوماً كيماوياً ضد إسرائيل من مناطقَ تسيطر عليها القوات الحكومية بمثابة "استفزاز كبير". ما يمكنكم أن تتأكدوا منه هو أن استفزازاً ما سوف يحصل وأن الصحافة, بما في ذلك معظم الصحافة اليسارية, سوف تسارع إلى التغطية عليه.
http://www.counterpunch.org/2013/09/16/the-cia-the-press-and-black-propaganda/
تُرجم عن ("كاونتر بنتش", 16 أيلول/سبتمبر 2013)
الجمل
إضافة تعليق جديد