كمائن أميركية جديدة لتعطيل الحلّ السوري
تبذل السياسة الأميركية جهوداً جبارة لاستنباط آليات جديدة لعرقلة الحلول السياسية في سورية من خلال مؤتمر سوتشي الذي ترعاه روسيا وإيران وتركيا.
فآلياتها القديمة خسرتها تباعاً… استثمرت طويلاً في منظمات الإرهاب التكفيري، اعتقاداً أنه الوصفة السحرية لتفيت المشرق العربي وتبعا لذلك العالم الإسلامي بأسره على أسس مذهبية وعرقية.
وانتهى هذا الإرهاب الى مجرد بؤر تحتمي بقاعدة التنف الأميركية جنوبي سورية، وبالكرد في قسد شرقاً وشمالاً، وبالترك في الشمال والشمال الغربي. لكن كلّ هذه النقاط لا تساوي عسكرياً كتيبة صغيرة من الجيش السوري.
بالتوازي راهن الأميركيون على النزعات الانفصالية عند الكرد والسوريين، مؤسّسين لهم تنظيمات وأسلحة وتمويلاً كبيراً من آبار النفط السورية شرقي الفرات وخطوط بيع لها عبر السمسار التركي، مع جذب تحالفات لهم بين السريان والاشوريين وعشائر عربية أقنعتها السعودية كعادتها بالمكرمات لتنتظم في التحالف الكردي.
ونشرها على مساحات في الشرق السوري أكبر بكثير من انتشارها الديموغرافي وقوّتها الفعلية.
لكن سرعان ما اكتشفت المخابرات الأميركية انّ هناك فريقين كرديين متنافسين، أحدهما يستجيب لأوامرها حرفياً، وآخر افتتح على حسابه خطوط تفاوض مع الدولة السورية، والخلاف بينهما يقوم على أساس انّ «الكرد المتأمركين» يريدون كانتوناً كردياً مستقلاً يرتبط شكلاً بالدولة السورية ويُستحسن أن لا يرتبط.
اما الخط الآخر، الذي يفاوض الدولة فيريد إدارة ذاتية ضمن الدولة السورية، تعبّر عن بعض الخصوصيات الكردية التاريخية على مستوى اللغة والثقافة.
بيد أنّ مسلسل الرهانات الأميركية لا يتوقف، فالترك فاجأوا البيت الأبيض بأنّ لديهم مشروعاً خاصاً بهم يتناقض جوهرياً مع مشاريع الهيمنة الأميركية، ويرفض استعمال الطموحات الكردية لأنّ خطرها لا يقتصر على سورية، ويشمل جنوب تركيا وجنوبها الشرقي حيث ينتشر 15 مليون كردي تركي وخمسة ملايين كردي من علويي تركيا.
لقد اقتنع الأميركيون أخيراً أنّ السعوديين والقطريين ليسوا إلا صناديق مال، لم تؤدّ الى انتاج تنظيمات إرهابية قوية في سورية والعراق بقدر ما أسّست لتصدير الفكر الإرهابي الى أوروبا وأميركا والكثير من البلدان في العالم الإسلامي الأميركي النفوذ.
هذا ما دفع بالأمن القومي الأميركي الى اكتشاف آليات جديدة تعرقل استعادة الدولة السورية لسيادتها وتكبح الاندفاعة الروسية للعودة الى الفضاءات السوفياتية السابقة، وتمنع إيران من تثبيت نفوذها في الإقليم.
تقوم الخطة الأميركية بالتعطيل على أساس انّ بعض أنحاء سورية في الشرق والشمال، من الممكن استخدامه كمعوقات لمنع انتشار الدولة وحلفائها، وذلك عبر تحويلها الى خطوط تماس، لذلك يموّلها الأميركي بالكثير من السلاح والتمويل وانتقال العناصر الإرهابية المهزومة جنوبي سورية ووسطها الى مناطقها، ولم يوفروا دعم الإرهاب داخل إدلب، فزوّدوه بكلّ ما يلزمه عبر خطوط كردية وجواً، وذلك لتعزيز رفضهم لمطالب تركية تحضّهم على مغادرة مناطق خفض التوتر الرابطة إدلب بجوارها.
انّ الاستغلال الأميركي لموضوع إدلب لا يذهب مذهب العسكرة فقط، بل يدعمه محاولات دؤوبة لتعطيل مشروع إنشاء لجنة دستورية تهيّئ الظروف الموضوعية لإنتاج حلّ سياسي في سورية، فيجد الأميركيون أنها فرصة لإعادة تكرار محاولاتهم بلجم الحلول، ونقل سورية الى الاستقرار، وبما انّ خياراتها أصبحت ضعيفة، تراهم يصرّون وبالحاح على تأسيس اللجنة الدستورية قبل تنفيذ اتفاق إدلب، أيّ أنهم يرفضون علناً مغادرة الإرهاب القاعدي في إدلب قبل تشكيل اللجنة وتأسيس حكومة جديدة وبدء تطبيق كامل بنود الحلّ السياسي، وربما قد يطالبون أيضاً بانتخابات لرئاسة الجمهورية.
وهذا يكشف مدى المراهنة الأميركية الدائمة على الإرهاب واستمرارهم على هذا المنحى على الرغم من هزيمة هذه الآليات في سورية والعراق. وهذا يشجع على تبني بعض الفرضيات حول الأسباب التي أدت الى نجاح طالبان سليلة القاعدة بالاستحواذ على 65 من أراضي أفغانستان بعد حروب مع جيوش أميركية تحتلّ هذا البلد منذ 2001 .
هل هي سياسة أميركية بالإبقاء على طالبان لتبرير بقاء العسكريين الأميركيين فيها منذ 16 عاماً متواصلاً.. وربما لاستعمالها أيضاً في إطار الفتنة السنية ـ الشيعية وعرقلة التقدّم الروسي والصيني اليها.
انها من إبداعات المخابرات الأميركية التي تتلاعب بالانقسامات الاجتماعية بما يبرّر نشر 800 قاعدة أميركية في العالم ومئات البوارج والأساطيل في البحار والمحيطات وآلاف الطائرات تسيطر على أجواء الأرض.
انها اللجنة الدستورية إذاً، واحدة من ألاعيب واشنطن لنسف كلّ إمكانات الحلّ، أما وسائلها فموجودة عند المندوب الأممي الى سورية دي ميستورا المنحاز دائماً إلى وجهات النظر الأميركية، بدليل أنه يرفض أيّ اجتماع جديد في سوتشي مصراً على أولوية «جنيف» بهذا الخصوص.. ومتبنياً وجهة النظر الأميركية حول أولوية تشكيل اللجنة الدستورية على سحب الإرهاب من إدلب.
وبدا أنّ الغاية دعم المعارضات السورية لتسيطر على اللجنة الدستورية، فتتخذ مقرّرات لتعزيز الإرهاب في الدولة السورية وذلك بالاستقواء وبالتحريض الأميركي للإرهابيين ومنع تنفيذ اتفاق إدلب بأكثر من طريقة، قد يكون من بين أدواتها فتح الخطوط الكردية، أمام تزويد إرهابيين إدلب بالسلاح والرجال وتحريض بعض أجنحة المعارضة على الانسحاب من سوتشي، وأخيراً الضغط على تركيا للتحايل في موضوع سحب الإرهابيين مقابل مغريات في ما تعتبره أهمّ خطر عليها وهو الخطر الكردي، ألم يصرّح أردوغان منذ عدة أيام بأنه يجب إنهاء المشروع الكردي في شرق سورية وشمالها لتأمين حلّ فعلي للازمة السورية؟ ولم تتأخر الإجابة الروسية في الصدور، وجاءت على شكل حازم من وزير الدفاع شويغو الذي أكد أنّ اتفاق إدلب يعني سحب الإرهاب والقضاء عليه. وكان بذلك يطيّر رسائل الى الأميركيين والأتراك في آن معاً، دعمها بسرب من أحدث الطائرات الحربية الروسية حلقت أكثر من مرة فوق تنظيمات إدلب الإرهابية وذلك في رمزية عميقة التهديد للإرهاب وداعميه في إدلب.
هناك إذاً إلحاح أميركي للسيطرة على اللجنة الدستورية وهذا غير ممكن في التوازنات الحالية، فالحكومة الى جانب المجتمع المدني وقسم من المعارضة يريدون الاستقرار في البلاد، مقابل إرهاب لم يعد بوسعه تحقيق مشروعه المتطرف أو تغطية المشروع الأميركي والتركي.
عند هذه النقطة توقف الحوار بتعطيل أميركي متعمّد لا يريد خروج النصرة من إدلب ولا يرغب بتشكيل اللجنة الدستورية، مستقوياً بسيطرته على الأمم المتحدة من جهة والإرهاب من جهة ثانية.
هذا ما تعمل عليه السياسة الأميركية، مقابل حسابات روسية وسورية وإيرانية، تجزم بأنّ تركيا لن تتأخر في تنفيذ إخراج الإرهابيين، على قاعدة أنّ السياسة الأميركية هي الخاسر الوحيد في المشرق وربما في الشرق الأوسط.
البناء- د. وفيق ابراهيم
إضافة تعليق جديد