دمشق بِعَيْنَيْ بدر الحاج... المؤرخ العاشق
بعد ما يقارب ستة أشهر على إعلان فرانسوا أراغو في 19 آب (أغسطس) 1839 في باريس عن اكتشاف اختراع جديد هو التصوير الشمسي، التقطت أول صورة فوتوغرافية لدمشق من قبل المصور جولي دو لوتبينيير الكندي من أصل سويسري في 20 شباط 1840. منذ ذلك التاريخ حتى عام 1918 عندما احتلت دمشق من قبل البريطانيين في نهاية الحرب العالمية الأولى، وثق بدر الحاج بالصورة، ولأول مرة، أحداث المدينة. رافق التوثيق نص نقدي وتاريخي لأعمال أبرز المصورين الفوتوغرافيين الذين التقطوا صوراً في المدينة.
نشر البحث لأول مرة باللغة الفرنسية في باريس سنة 2000 ورافقه معرض للصور الفوتوغرافية الخاصة العائدة لمجموعة المؤلف في «معهد العالم العربي»، وفي السنة التالية نشر الكتاب بطبعة عربية. ومنذ أسبوعين، صدرت الطبعة الإنكليزية عن «دار كتب» في بيروت.
ما يميز الطبعة الإنكليزية عن الطبعتين السابقتين أن المؤلف قد أضاف إليها مجموعات جديدة من الصور النادرة لمدينة دمشق لم يسبق أن كانت معروفة في السابق، منها على سبيل المثال منظر بانورامي التقط من على سطح خان أسعد باشا العظم يظهر فيه المسجد الأموي وجبل قاسيون. هذا المشهد النادر والوحيد من نوعه التقطه المصور الفرنسي عالم الآثار والعمارة الإسلامية جيرو دوبرانجي ينشر في الكتاب لأول مرة.
ينقسم الكتاب إلى ثلاثة فصول.
الفصل الأول هو عبارة عن تكثيف تاريخي لأبرز معالم المدينة، من المساجد، والكنائس، والخانات، والأسواق، والحرف، والمدارس الخ.
أما الفصل الثاني فهو عبارة عن سرد تاريخي متسلسل من عام 1840 حتى عام 1918. نشر المؤلف آخر ما توصل اليه من أبحاث ومعلومات عن أنشطة المصورين الذين زاروا دمشق، وكذلك أنشطة المصورين الدمشقيين الأوائل الذين نشط معظمهم في المدينة منذ بداية العقد الأخير من القرن التاسع عشر. توقف المؤلف في سرده التاريخي عند عام 1918 بانتهاء الحقبة العثمانية وبداية المرحلة الاستعمارية لسوريا.
أما الفصل الثالث والأخير فحمل عنوان «الاستشراق الفوتوغرافي».
هذا الفصل هو في الواقع تشريح مفصل للإنتاج المصور في سوريا بشكل عام وفي مدينة دمشق بشكل خاص. تكمن أهمية هذا القسم من الكتاب في أن المؤلف لم يكن يهدف إلى توثيق الصور الفوتوغرافية النادرة والمبعثرة في العديد من الأماكن فقط، بل إلى تحليل بنية تلك الصور واعتبارها مماثلة للإنتاج الأدبي، أو الفني الأوروبي عن بلاد الشام، وربط ذلك بالنشاط الغربي المحموم طيلة القرن التاسع عشر للاختراق التدريجي للمشرق العربي ووراثة السلطنة العثمانية.
يذكر المؤلف أن المصورين الفوتوغرافيين الأوائل في العقدين الأولين من بدء التصوير الفوتوغرافي 1840-1860 كانوا مهتمين فقط بالتقاط صور المعابد القديمة، والمواقع المذكورة في الكتاب المقدس، وكانوا يتجولون بصورة عامة لغايات دينية أو أثرية. التركيز على تصوير المواقع الواردة في الكتاب المقدس كان يهدف إلى إيجاد صلة مصورة بين تاريخ الإنجيل وأحداثه من جهة وجغرافية المنطقة من جهة أخرى. وكان هذا الموضوع مدار اهتمام رئيسي للسياسيين ورجال الدين وبعض الفنانين الأوروبيين في القرن التاسع عشر.
من ناحية أخرى، يرى المؤلف أنه في السنوات الأولى للتصوير الفوتوغرافي، كانت الصور المنتجة تبرز مساحات خالية ومدناً وقرى مهجورة يمكن أن تبرر، ولو بصورة غير واعية، عملية التوسع والاستعمار، بل إن بعض المصورين كانوا يقررون سلفاً، وحتى قبل أن يضعوا أقدامهم في المنطقة، ماذا يريدون أن يلتقطوا من صور.
انحصر الاهتمام أيضاً بتصوير الآثار والمعابد على أساس أن كل شيء آخر لا قيمة له. وتم تجاهل من كان يعيش على هذه الأرض وأنماط الحياة السائدة. وفي هذا الإطار، يستشهد الحاج بكلمة عمدة ويستمينيستر التي ألقاها في الاجتماع السنوي لصندوق استكشاف فلسطين سنة 1880 حين اقترح: «إن كل الصور الفوتوغرافية لفلسطين يجب أن تكون من دون استثناء للمباني والأطلال، ويبدو لي أن صورة المناظر الطبيعية لا قيمة لها إجمالاً!».
والواقع أنه من خلال المنظور الأوروبي إلى تلك الفترة، فإن المعابد القديمة والأطلال الأثرية، سواء كانت صليبية أم بيزنطية أم فرعونية، هي دليل على العظمة الغابرة، في حين أن الحاضر هو على النقيض من ذلك، كما عبّر المصور البريطاني فرنسيس فريث في وصفه لسكان القدس بقوله: «السكان المحمديون الأتراك جاهلون ومتعصبون، والعرب الذين يلوثون سكينتها هم الأكسل والأكثر جبناً، جماعة لا قيمة لهم أبداً، واختصاراً وبكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، هم الأحقر في هذا الوجود». ولا تختلف آراء فريث هذه عن آراء معظم السياسيين البريطانيين أمثال الفرد ملنر وجورج كيرزن وغيرهما كثيرون ممن آمنوا وعملوا على أن «تستعيد بريطانيا الأراضي المقدسة».
كانت البعثات الأثرية الفرنسية والبريطانية بصورة خاصة، والتي كانت مموّلة من الحكومتين، بمنزلة الفتوحات السلمية، كما عبّر عن ذلك الناقد الفني والفوتوغرافي فرنسيس واي. ولذلك كانت الصور التي التقطت من معظم تلك البعثات تعكس الرؤية الاستعمارية الغربية للمنطقة.
يواصل الحاج تحليله ونقده للصور الاستشراقية التي التقط معظمها مصورون غربيون أقاموا استديوات في مصر وسوريا، حيث تم التقاط صور عاريات، وصور عديدة أخرى مصنعة داخل تلك الاستديوات بهدف بيعها للزبائن الأوروبيين الذين كانوا يفتشون عن كل شيء «غريب، وطريف في الشرق». في ختام البحث، يكشف المؤلف خبث وتزوير المؤرخين الصهاينة الذين أصدروا كتباً عن تاريخ التصوير الفوتوغرافي في المشرق العربي.
ويقدم أمثلة عديدة على ذلك، منها ما كرره المؤرخان ايال أون ونيسان بيريز في كتبهما، وتجاهلهما التام للمصور المقدسي من أصل لبناني خليل رعد، إذ اكتفيا بالقول إن جنسيته مجهولة؟ رغم أن اسمه واضح جداً. لقد عمد المؤرخون الصهاينة إلى تجاهل أي نشاط للمصورين العرب، والأمثلة كثيرة، فالمؤرخ بيريز يعتبر أن المصور الفلسطيني المقيم في الناصرة ميخائيل سابا يوناني الأصل، وأن المصور اللبناني عيد جدعون مجهول الهوية، وأن المصور جورج صابونجي أيضاً مجهول الهوية.
أهمية كتاب «دمشق رحلة فوتوغرافية مصورة 1840-1918»، أنه يعالج للمرة الأولى موضوعاً على درجة كبيرة من الأهمية جرى تجاهله من قبل العديد من الكتاب العرب. فما تبقى من صور قديمة مبعثرة في أماكن متعددة هو سجل مهم لأماكن ومواقع شهدت تغييرات جذرية، وبعضها أزيل إلى الأبد.
لقد تعرضت مدننا لتدمير ممنهج، لأسباب عديدة، منها الجهل، والجشع من قبل كبار المتموّلين، الذين عملوا على إزالة العديد من البيوت والأماكن التراثية المهمة ليشيدوا مكانها أبراج الإسمنت، بهدف واحد هو الربح المادي. لذلك كان تمنّي الحاج في مقدمة كتابه أن يحافظ على مدينة دمشق القديمة كي لا يحل بها كما حل ببيروت تحت شعار «التطوير» أو كما حل بمدينة حلب على أيدي الإرهابيين القتلة.
الأخبار -أمل عارف
إضافة تعليق جديد