من تشرين/ 1973 إلى تشرين/ 2023 : النصر المستمر

14-11-2023

من تشرين/ 1973 إلى تشرين/ 2023 : النصر المستمر

Image

الجمل: خليل اقطيني

*الإتصال الذي  أجراه رئيس الوزراء الاسرائيلي نتنياهو، بالرئيس الأميركي بايدن في بداية عملية "طوفان الأقصى"، في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، طالباً منه الإسراع بمساعدة إسرائيل وانقاذها من الهزيمة الكبرى التي تُحيقُ بها من جراء "النجاح الخارق" لهذه العملية على مختلف الصعد. ذَكّرَنا بالإتصال الذي أجرته رئيسة وزراء إسرائيل كولدا مائير بالرئيس الأميركي آنذاك ريتشارد نيكسون في السادس من تشرين الأول/1973، وهي تبكي من شر الهزيمة التي تلقاها الجيش الإسرائيلي "الذي لا يقهر" من الجيشين السوري في جبهة الجولان والمصري في جبهة سيناء.
وقالت مائير في مذكراتها التي نُشِرَت تحت عنوان "حياتي" واعترفت فيها بقصة الهزيمة الإسرائيلية كاملة: "إن أصعب شيء عليها هو الكتابة عن حرب «يوم كيبور» أكتوبر 1973. ووصفتها "بالكارثة". مؤكدة أنها طلبت من الرئيس الأميركي نيكسون "إنقاذ إسرائيل من الهلاك"(1).  
 وتقول مائير إنها فكرت بالانتحار فور سماعها أخبار الجبهة من دايان فى الأيام الأولى للحرب(2).  

 **الملاك (؟!)* 

اعترافات كولدا مائير هذه كانت جزءاً من التكتيكات العسكرية، التي لعبتها ببراعة القيادتان السورية والمصرية، ليبقى موعد الحرب وما فيها مفاجأة مذهلة، وفق كل المقاييس العسكرية، ولتربح المخابرات السورية والمصرية جولة هامة أمام جهاز الاستخبارات الأميركية CIA وجهاز الموساد الإسرائيلي، وغيرهما من الجهات التي كانت تساند العدو. 
تلك الهزيمة الإسرائيلية الكبيرة كانت - بلا أدنى شك - نتيجة لبسالة وشجاعة أبطال الجيشين السوري والمصري. لكنها بالمقابل كشفت عن فشل استخباراتي وعسكري مريع لدى الجانب الإسرائيلي، رغم علم القيادة الإسرائيلية بموعد الهجوم السوري - المصري من أحد جواسيسها، الذي طلب لقاء عاجلاً من الموساد الإسرائيلي. لتهبط طائرة رئيس الموساد آنذاك تسفي زامير، بشكل غير متوقع في العاصمة البريطانية لندن في الساعات الأولى من مساء الخامس من تشرين الأول/أكتوبر 1973، حيث لم يتوجه للصلاة في الكنيس الكبير هناك كما اعتاد أن يفعل دائماً. وإنما أسرع للقاء «الملاك»، الإسم المستعار لأشرف مروان، الذي كان من أقرب مستشاري السادات، ومن أهم جواسيس إسرائيل عليه وعلى مصر في ذلك الوقت(3). 
وقبل 14 ساعة فقط من وقوع هجمات سيناء والجولان، أبلغ الجاسوس مروان زامير بساعة الصفر، وإعداد الهجوم من قبل الرئيسين أنور السادات وحافظ الأسد(4). 
وعلى الفور نقل زامير هذه المعلومة عبر برقية إلى الموساد مشفرة بكلمات رمزية غامضة". إذ لم يكن فيها سوى كلمتين واضحتين تماماً: war imminent - حرب فورية. ولم يطلع على هذه البرقية سوى مسؤولَين إسرائيليين اثنين هما (رئيس هيئة الأركان، ورئيس جهاز الاستخبارات  العسكرية الجنرال إيلي عزرا). اللذين وضعا رئيسة الوزراء كولدا مائير بصورتها(5). 

 **خطة محكمة* 

 ورغم ذلك كان رأي القيادة السياسية والعسكرية في الكيان الصهيوني، أن الجيشين السوري والمصري لن يهاجما إسرائيل. وذلك نتيجة لخطة التضليل المحكمة التي نفذتها ببراعة القيادتان السورية والمصرية، ضد الموساد الإسرائيلي. 
ومن بين بنود هذه الخطة الإعلان في عدة مناسبات منذ أن بدأتا بالإعداد لحرب تشرين/أكتوبر في عام 1971 أن سورية ومصر ستحاربان إسرائيل وتحرران الأراضي المحتلة، لكنهما لم تحاربا. وكررتا هذا الإعلان في العام التالي 1972، ولم تحاربا أيضاً(6). وذلك لكي يقوم جواسيس إسرائيل في سورية ومصر بنقل الخبر إلى الموساد الإسرائيلي، ثم يتبين أنه خبر غير صحيح. الأمر الذي جعل مصداقية الجواسيس الإسرائيليين تنحدر إلى الصفر، ما يعني سقوط هؤلاء الجواسيس الواحد تلو الآخر، دون أن تبذل القيادتان السورية والمصرية أي جهد لإسقاطهم. بدليل أن الموساد الإسرائيلي والقيادة السياسية والعسكرية في الكيان الصهيوني لم تعد تصدق التقارير التي تصلها من جواسيسها في سورية ومصر بأن جيشي هاتين الدولتين سيهاجمان إسرائيل. وهذا ما حصل مع المعلومات التي قدمها الجاسوس أشرف مروان. الأمر الذي أكد نجاح خطة التضليل التي تنفذها القيادتان السورية والمصرية. 

 **لا يصدقون أنفسهم* 

إضافة إلى ذلك كانت القيادتان السورية والمصرية، وضمن خطة التضليل المُعدّة، تحركان بعض القطعات العسكرية نحو الحدود مع فلسطين المحتلة بين الحين والآخر. ليتبين بعد ذلك أن الهدف هو تنفيذ مناورات عسكرية روتينية ليس إلا(7).  
فمن التفاصيل الخطيرة عن حرب تشرين/أكتوبر 1973 التي كشفها هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي الأسبق ولأول مرة قوله : "أنه في الأيام التي سبقت اندلاع الحرب، "تراكمت في إسرائيل الأخبار عن تمركز قوات كبيرة غرب قناة السويس على الجبهة المصرية، وبالقرب من القنيطرة على الجبهة السورية"(8). 
ويؤكد كيسنجر أن قادة الجيش الإسرائيلي وأجهزة المخابرات، باستثناء عدد قليل من الضباط ذوي الرتب المتوسطة فسروا هذه التمركزات على أنها جزء من مناورة، وكانوا مقتنعين بأن المصريين والسوريين لا ينوون شن هجوم(9). 
وحتى يوم 5 تشرين الأول/أكتوبر كانت تقديرات المخابرات الإسرائيلية وحلفائها الدوليين أن الحرب غير محتملة وذلك على الرغم من أن جاسوسهم أشرف مروان قد أبلغهم بموعد الحرب، إضافة إلى شخصية عربية رفيعة المستوى(10) حسب الرواية الإسرائيلية. 
 لكن ولأن مروان كان قد أخبر إسرائيل سابقاً في أيار/مايو 1973 أن الحرب ستقوم ولم تقم، ضمن الخطة السورية - المصرية لإسقاط جواسيس إسرائيل وتضليلها التي تحدثنا عنها في السطور السابقة. بالإضافة إلى الثقة الإسرائيلية باستحالة أن تقوم مصر بمخاطرة من هذا النوع، لم تتفاعل دولة الاحتلال بجدية مع تلك المعلومات(11).  
كما رفضت الرقابة العسكرية تصديق تقارير المراسلين العسكريين، حول حشد قوات مصرية وسورية غير عادية في سيناء والجولان(12). 
ولم تظهر المخاوف من حرب فعلية إلا يوم الجمعة 5 أكتوبر، عشية يوم الغفران، الذي تتوقف فيه الحياة في إسرائيل ويصاب كل شيء بشلل تام. كونه أكثر أيام السنة قداسة عند اليهود، وفيه يمتنعون عن الطعام والشراب والعمل، وتتوقف حتى الإذاعة والتليفزيون والصحف في إسرائيل عن البث، ويأخذ العديد من جنود الاحتلال فيه إجازات لقضاء العيد مع أسرهم(13). 
 إذ لم يكن أحد في الحكومة الإسرائيلية قبل هذا اليوم يتخيل أن المصريين سينجحون في عبور القناة دون أن تلتهمهم نيران النابالم المُخَزّن في خط بارليف(14).  
 بل إنهم لم يتخيلوا أن يأخذ الرئيسان أنور السادات وحافظ الأسد قراراً بالحرب على إسرائيل دون أن يعرفوه بوقتٍ كافٍ من خلال جواسيسهم، وعلى رأسهم أكثر المستشارين قرباً من السادات الجاسوس أشرف مروان.

 **تتمنى البكاء* 

فاضطرت القيادة الإسرائيلية إلى استدعاء الجنود الاحتياطيين الذين كانوا جالسين في المعابد، ولم يستطع بعضهم أن يجد وحدته العسكرية، في حالة كاملة من الهلع والفوضى. 
واختارت رئيسة وزراء دولة الاحتلال كولدا مائير أن تكذب مباشرة على شعبها وتقول إن العرب تلقوا خسائر جسيمة وأن إدارتها لم تتفاجأ بالحرب. 
بينما كانت في حقيقة الأمر تقبع في غرفة العمليات في تل أبيب تتمنى البكاء ولا تستطع من فظاعة الأحداث، ومن هول التقارير المفزعة عن الوضع على الجبهات العسكرية التي كانت تنهال عليها مرفقة بتوقعات في غاية التشاؤم(15). 
إذ يكشف كيسنجر النقاب عن مقتل 2600 «إسرائيلي» مؤكداً أن ذلك "شكل ضربة قاسية" لإسرائيل(16). 

 **خسائر مرتفعة جداً* 

ففي نهاية اليوم الأول 6/تشرين الأول - أكتوبر 1973 بلغت خسائر العدو الإسرائيلي على الجبهة المصرية "28 طائرة و31 دبابة وقطعة بحرية و11 أسيراً، وبالمقابل أصيبت في هذا اليوم  17 دبابة مصرية واستشهد 64 جنديا مصرياً بالإضافة لـ 420 جريحاً، وهي أرقام لم يكن يتوقعها أكبر المتفائلين في غرفة العمليات في يوم 6 تشرين الأول/أكتوبر، فقد كانت التقديرات أن أعداد الشهداء في العبور سوف تكون بالآلاف(17).  
ولم يكن المشهد في سورية أقل إشراقاً.، فحين عاد موشيه دايان وزير دفاع الاحتلال من الجبهة السورية في 7 تشرين الأول/أكتوبر، أبلغ كولدا مائير بأن الوضع هناك كارثي وأنه ينصح بالانسحاب الفوري الكامل من هناك قبل أن تتفاقم الكارثة أكثر(18). 
وبحلول منتصف ليل اليوم الأول للحرب كانت نصف مواقع خط بارليف الحصينة قد سقطت بيد المصريين، والنصف الآخر أصبح تحت الحصار، مع وجود خمسة فرق مشاة ومدرعات على الضفة الشرقية من قناة السويس، بينما كانت الدبابات السورية قد تخطت من الساعة الرابعة عصراً حصون العدو، بعد ضربة جوية ناجحة في هضبة الجولان، وتقدمت إلى مدينة القنيطرة في نهاية اليوم الأول(19).
في الوقت نفسه، بدت الصورة مغايرة تماماً على الطرف الآخر، في يوم وصفته رئيسة الوزراء الإسرائيلية كولدا مائير فيما بعد بـ"الكارثة الساحقة والكابوس الذي ظل باقياً معها على الدوام"(20). 
أما عن اليوم الثاني للحرب فتتحدث كولدا مائير ـ في اعترافاتها ـ ماذا أقول؟ «لا أظنني سوف أنسى ذلك اليوم الذي سمعتُ فيه أسوأ التقديرات المتشائمة! ففي عصر يوم 7 أكتوبر، عاد دايان من إحدى جولاته على الجبهة، وطلب مقابلتي على الفور، ليبلغني بأن رأيه أن الموقف في سيناء قد وصل إلى درجة من السوء، تحتم علينا أن نقوم بانسحاب جذري وإقامة خط جديد للدفاع.
وتكمل كولدا مائير: "وقد استمعتُ إليه في فزع! ثم تتابع: «كان المصريون قد عبروا القناة، وكانت قواتنا في سيناء قد تحطمت. وكان السوريون قد تغلغلوا في عمق مرتفعات الجولان. وكانت الخسائر على كلتا الجبهتين مرتفعة جداً(21).  

 **من السبت 73 إلى السبت 2023* 

وبعيداً عن الاستمرار في سرد تفاصيل ووقائع حرب تشرين/أكتوبر1973، والإعداد المتقن لها، نجد أن هذا ما حصل بالضبط في اليوم الأول من "طوفان الاقصى" 2023. حيث اختارت المقاومة الفلسطينية الباسلة يوم السبت يوم الغفران الموافق 7 تشرين الأول/أكتوبر وهو يوم مقدس ويتوقف فيه كل شيء في إسرائيل موعداً لها. في تأكيد على أن هذه العملية البطولية هي استمرار لانتصارات تشرين 1973، المستمرة حتى الآن، حيث لم يتمكن الكيان الصهيوني منذ هزيمته في تشرين/أكتوبر 1973 أن يحقق أي نصر على العرب. وآخر نصر له كان في الخامس من حزيران/يونيو 1967. 
حتى توقيت عملية "طوفان الأقصى" يُعبّر عن براعة بالتخطيط، وهو الساعة السادسة والنصف صباحاً. أي في الوقت الذي كان الصهاينة يغطون في نوم عميق. ولاسيما أن الموعد الذي من المعتاد شن أي هجوم فيه وهو ساعات الفجر الأولى قد انتهى. تماماً كما حصل في حرب تشرين/أكتوبر 1973 حيث كانت ساعة الصفر هي الساعة الثانية بعد الظهر لا الثانية فجراً، كما جرت العادة في الحروب. 
وتمكن المقاومون الفلسطينيون الأبطال في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 من تحطيم التحصينات الشديدة للجدار العازل تحت الأرض وفوقها، والذي بنته إسرائيل بين غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة وكلفها ملايين الدولارات، واجتيازه نحو معسكرات العدو والسيطرة عليها وسحل جنود كتيبة غزة التي تضم نخبة الجنود الصهاينة لحماية مستوطنات ما يسمى بغلاف غزة، والعودة بمئات الأسرى والرهائن، في غضون 3 ساعات فقط. 
تماماً كما حصل في خط بارليف وتحصيانته الرهيبة، في 6 تشرين الأول/أكتوبر 1973، على الجبهة المصرية. هذا الخط الذي  كلف إسرئيل مبالغ باهظة، ورسمت الآلة الإعلامية الصهيونية حوله هالة ضخمة توحي أن اجتيازه من رابع المستحيلات، ليس للجنود والأفراد فحسب، وإنما حتى للطيور الصغيرة. لكن ما إن حانت ساعة الصفر حتى تمكن بواسل الجيش المصري من تحطيم هذا الخط، الذي بقيت إسرائيل تبني فيه مدة 6 سنوات متواصلة، وعبوره في 6 ساعات فقط.  
ناهيك عن خطة التضليل التي تم تنفيذها ببراعة والمتمثلة بإطلاق صلية صواريخ نحو مواقع صهيونية بعيدة، لكي تتركز أنظار وقوى العدو عليها، في الوقت الذي تسير فيه العملية الحقيقية في مستوطنات غلاف غزة بسلاسة وهدوء ونجاح منقطع النظير. والسيطرة التامة على ما يسمى كتبية غزة، التي تضم نخبة الجنود الصهاينة كما ذكرنا. 
حيث تمكن المقاومون الفلسطينيون الأبطال من أسر عدد من ضباط وجنود هذه الكتبية، وتمريغ أنوفهم وأنوف القيادة العسكرية والأمنية والسياسية في الكيان الصهيوني من بعدهم في التراب.
ومثلما كانت كولدا مائير تتجرع طعم الهزيمة وترى الكوابيس وتتمنى الموت من هول هزيمة تشرين الأول/أكتوبر 73، هاهو بنيامين نتنياهو يعاني الأمرين، من هلعه من عقابيل عملية طوفان الأقصى تشرين الأول/أكتوبر 2023، ونتائجها الوخيمة عليه وعلى الشعب الاسرائيلي، والذل والعار الذي حملته إسرائيل على مدى التاريخ.  
ولهذا من الطبيعي أن نراه كل يوم على الفضائيات وهو منتفخ العينين من قلة النوم، بسبب الكوابيس التي تلاحقه، وهو يرغي ويزبد ويهدد ويتوعد، دون أن يتمكن من تحقيق أي إنجاز. معلناً رفضه القاطع لكل الوساطات والضغوط لوقف العدوان والمجازر بحق المدنيين في غزة قبل عودة الرهائن والأسرى لدى حماس. في الوقت الذي أرسل فيه رئيس الموساد للتفاوض مع حماس متوسلاً إليها إعادة أي عدد من الرهائن، مقابل  الإذعان لكل شروطها، وتلبية طلباتها. 
 
 **لا لهزيمة إسرائيل* 

وفي حرب تشرين/أكتوبر كشف كيسنجر أن القرار الذي اتخذته القيادة الأميركية في الساعات الأولى للحرب هو عدم السماح بهزيمة «إسرائيل».
وقال أنه تعهد لمبعوثي تل أبيب بضخ المساعدات، وبدأنا فعلاً بتزويدهم بالفانتوم(22). 
أما في "طوفان الأقصى" تشرين/2023 فقد حضر الرئيس الأميركي بايدن إلى إسرائيل، معلناً أن أميركا لن تسمح بهزيمتها. وبدأ ضخ المساعدات العسكرية اللوجستية يصل تل أبيب. ناهيك عن الدعم السياسي والإعلامي غير المسبوق. 
ففي تشرين/أكتوبر 1973، لم يتمكن كيسنجر من إقناع كولدا مائير بالقبول بقرارات مجلس الأمن ذات الصلة بالصراع العربي - الإسرائيلي، إلا بعد أن أكد لها أن الولايات المتحدة الأميركية سوف تشن حملة إعلامية كبيرة في مختلف دول العالم تُظهِر إسرائيل هي من انتصر بالحرب والعرب هم الذين خسروا(23).  
لكن رغم كل ذلك، ينسى بايدن أو يتناسى، أن إسرائيل خسرت المعركة منذ اليوم الأول لطوفان الأقصى، لأنها خسرت كرامتها. وما جرى في الأيام التالية ما هو إلا تفاصيل، أكدت خسارة إسرائيل وانتصار الشعب الفلسطيني البطل ومقاومته الباسلة، وما يرتكبه الجيش الصهيوني من مجازر بشعة بحق النساء والأطفال والشيوخ المدنيين العزل في المستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس والأحياء السكنية خير دليل على هزيمته النكراء.

 **بين التحريك والتحرير* 

يبقى ثمة سؤال فرضته معركة طوفان الأقصى، والمجازر الصهيونية بحق المدنيين في غزة. لكن قبل أن نطرح السؤال لابد من القول أن العرب انتصروا بلا أدنى شك في حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، وإسرائيل هُزِمَت شرّ هزيمة. يكفي الجيشين السوري والمصري أنهما أنهيا أسطورة الجيش الذي لا يقهر إلى الأبد. وأصبح هذا الجيش يتلقى الصفعات الواحدة تلك الأخرى من العرب، منذ 6 تشرين الأول/أكتوبر 1973 إلى 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. ولا داعي لتعداد تلك الصفعات. 
وقد تحقق نصر أكتوبر 73 على الرغم من عدم التزام الرئيس المصري أنور السادات بما اتفق عليه مع الرئيس السوري حافظ الأسد. فقد أراد السادات حرب تشرين حرب تحريك (مجرد تحريك للركود في الصراع العربي- الإسرائيلي كما نصحه بذلك ثعلب السياسة الأميركية هنري كيسنجر ) (24) ، في حين أرادها الأسد حرب تحرير للأراضي العربية المحتلة.
ولم يُظهِر السادات نواياه الحقيقية إلا في اليوم الثاني والعشرين لحرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، حيث أمر الجيش المصري بالتوقف في مواقعه، وعدم التقدم(25) الأمر الذي جعل الجبهة المصرية في سيناء تهدأ كثيراً، وأتاح لإسرائيل أن تركز جهدها القتالي على الجبهة السورية في الجولان. ليستمر الجيش السوري بالقتال وحيداً في حرب الاستنزاف. وبذلك أصبح الجيش الإسرائيلي يقاتل على جبهة واحدة لا على جبهتين، ما شكل له ارتياحاً أتاح له التقاط الأنفاس.  

 **مهارات السادات* 

والواقع أن ما فعله السادات مع الرئيس الراحل حافظ الأسد، نابع من تركيبة شخصية السادات نفسه. فقد امتلك على المستوى الشخصي مهارة خاصة أثبتها مراراً على مدار حياته السياسية، هي قدرته على إظهار الضعف وقلة الحيلة لخصومه حتى ينقض عليهم في اللحظة المناسبة.
لا ننسى هنا أن السادات رافق عبد الناصر سنوات طويلة أدت إلى تعيينه نائباً لرئيس الجمهورية، وقد كشفت الأيام بعد ذلك أنه لم يكن مؤمناً بحرف واحد من الأيديولوجية الناصرية ولا سياساتها، ولكنه استطاع أن يُظهر للجميع وأولهم ناصر أنه تلميذ مطيع في مدرسته(26).
وكانت شخصية السادات وألاعيبه مكشوفة للمصريين وغيرهم. حيث كان عدد كبير من الشعب المصري يرى أنه وصل إلى الرئاسة بمحض الصدفة، ولطالما قلل الناس من شأنه. 
وكان السادات محط شك من أجهزة الدولة ومراكز القوى. كما كان أعضاء مجلس قيادة الثورة يَتَنَمّرون عليه حين يقول رأياً، وكان عبد الناصر يعامله بوصفه تابعه المطيع الذي لا ضرر منه. فضلاً عن مراكز القوى الذين كانوا يصفونه بعنصرية في التسجيلات التي سمعها بنفسه بـ"ابن السوداء" الذي سيقضون عليه بسهولة(27).
أما خارج مصر فقد كان القادة السوفييت لا يردون في الكثير من الأحوال على اتصالاته، ويخبره مساعدوهم أنهم في المصيف في جزيرة القرم. كما يروي هو نفسه في مذكراته "البحث عن الذات"(28). 
نفس الأمر حدث مع "كيسنجر" و"كولدا مائير" اللذين كانا يريان فيه قبل الحرب مهرجاً لا يقدر على أخذ قرار جاد. وكانا ينظران إليه على أنه رجلٌ غريب الأطوار يتحدث بلغة مسرحية ولا يمتلك هيبة سلفه عبد الناصر، وفق ما نقله الكاتب الصحفي الشهير محمد حسنين هيكل في كتابه "أكتوبر 73.. السلاح والسياسة" (29). مع الأخذ بالاعتبار موقف هيكل المعروف ضد السادات.
حتى إن كيسنجر لم يتجاوب بجدية مع عرضه السلام مع إسرائيل الذي أطلقه عام 1971، لأن ثعلب السياسة الأميركية لم يقتنع - ببساطة - بقدرته على فعل شئ آخر(30). 

 **لو كان حياً* 

لقد أثبتت الوقائع والتاريخ أن هزيمة حزيران/يونيو 1967 لمصر، حصلت لأن مستوى القيادة السياسية متمثلة بالزعيم جمال عبد الناصر كان أعلى من مستوى القيادة العسكرية متمثلة بالمشير عامر. 
أما في حرب تشرين الأول/أكتوبر 73 فكان مستوى القيادة العسكرية متمثلة بالفريق الشاذلي ورفاقه أعلى من مستوى القيادة السياسية متمثلة بالسادات. ولهذا سرعان ما انقض الأخير على الانتصار الذي حققه الجيش المصري البطل، وأفرغه من مضمونه، محولاً إياه إلى نصر لاسرائيل لم تكن تحلم به، وهو تقييد وتحييد أكبر وأقوى الدول العربية المناهضة لها وهي مصر، وإخراجها نهائياً من الصراع العربي الصهيوني. 
أما على الجبهة السورية، فقد استمر صمود الجيش السوري الباسل وتصديه للجيش الإسرائيلي لأكثر من 80 يوماً في حرب الاستنزاف، لأن القيادتان السياسية والعسكرية كانتا بمستوى واحد. 
بعد هذا العرض نصل إلى السؤال الذي قلنا أن معركة طوفان الأقصى وجرائم العدو الصهيوني بحق الشعب الفلسطيني البطل فرضته. وهو: لو بقي الزعيم عبد الناصر حياً وكان هو رئيس مصر في حرب تشرين الأول/أكتوبر 73 على الجبهة المصرية، مع الرئيس الراحل حافظ الأسد رحمة الله عليه على الجبهة السورية، كيف كانت ستكون نتائج تلك الحرب؟. 
بدون أدنى شك سيكون الصراع العربي الإسرائيلي قد انتهى إلى الأبد، وتم تحرير كافة الأراضي العربية المحتلة، رغم أنف إسرائيل وكل من يقف معها ويدعمها ويحميها. 
وفي طوفان الأقصى أكتوبر 2023 ماذا كانت ستكون النتائج لو أن رئيس فلسطين شخص مناضل مقاوم، قادر على اتخاذ موقف وطني تاريخي إلى جانب شعبه وقضيته العادلة، غير الدمية محمود عباس. 
لاشك أن النتائج ستكون باهرة ومذهلة لصالح القضية الفلسطينية، وفي وقت قياسي. ولأصبح اليوم الذي نرى فيه الدولة الفلسطينية قائمة على حدود الرابع من حزيران/يونيو 67 وعاصمتها القدس الشريف، قريباً جداً. 
----------------------------------------
 **كاتب وصحفي سوري* 

*المصادر والمراجع
1- كتاب حياتي لكولدا مائير
2- المصدر السابق
3- هنري كيسنجر في مقابلة مع صحيفة «جيروزاليم بوست» العبرية. بتاريخ 27  أيلول/سبتمبر 2023 وأعاد موقع الغد TV الإلكتروني نشرها. 
4- المصدر السابق  
5- الأرشيف الإسرائيلي  
6- حوار سعد الدين الشاذلي مع قناة الجزيرة 
7- كتاب مذكرات حرب اكتوبر اسعد الدين الشاذلي 
8- المصدر رقم 3 
9- المصدر رقم 3
10- المصدر رقم 4 وثائق من الأرشيف الإسرائيلي تكشف دور ملك الأردن الحسين بن طلال في حرب أكتوبر 73
11- المصدر رقم 3
12- المصدر رقم3
13- المصدر رقم 1
14- البطل احمد مأمون من قوات الصاعقة المصرية نجح بتعطيل أنابيب النابالم 
15- المصدر رقم 1
16- المصدر رقم 3
17- كتاب أكتوبر 73 السلاح والسياسة لمحمد حسنين هيكل 
18- المصدر رقم 1
19- المصدر رقم 17
20- المصدر رقم 1
21- المصدر رقم 1
22- المصدر رقم 3
23- المصدر رقم 3
24- كتاب البحث عن الذات لانور السادات 
25- المصدر رقم 7
26- المصدر رقم 17
27- المصدر رقم 17
28- المصدر رقم 24
29- المصدر رقم 17
30- المصدر رقم 17

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...