غازي أبو عقل : نقد "النقد الذاتي بعد الهزيمة" (2-4)
الجمل ـ غازي أبو عقل :
التكتيك العسكري بديلاً عن الفلسفة :
يلفت النقد الذاتي النظر بعدد الصفحات التي أفردها مؤلفه للكتابة عن الفن العسكري، وباهتمامه المبالغ به بالتفاصيل والجزئيات التي تدخل في مجال – التكتيك – ولا بد للقارئ من أن يشعر بأن أستاذ الفلسفة يسير في حقل ألغام وثابة مضادة للأشخاص، بلا جهاز كشف وإنذار، وأنه لا يعرف متى يدوس على اللغم لينفجر لا تحت قدمه بل فوق مستوى خصره. وعندما أوغل الدكتور العظم في ميدان التكتيك العسكري، ليكشف الثغرات في الخطوط العربية، فإنه فتح من حيث لا يدري، وبيديه، عدداً من الثغرات في خطوطه هو، أي في كتابه الذي أراد ان يتصدى به للأخطاء التي أدت إلى الهزيمة. هذه الثغرات التي يَسَّرَتُ مهمة اختراق منظومته الفكرية وتطويقها وإسقاطها دون إطلاق نار. (تتجلى في هذه المفردات – القطيعة – بين أدوات الناقد المنهجي وبين هواة نقد النقد).
ركّز النقد الذاتي جهوده على مصر والجيش المصري وحاول جاهداً تجنب ذكر باقي الجبهات، حتى ليخيل للقارئ أن حرب حزيران 1967 ما دارت إلاَّ في سيناء، فكيف يستقيم نقد وتحليل يتجنب عامداً مفهوم "مسرح العمليات" و"تكامل كواليسه أو تنافرها، وكيفية التقيّد باتفاقيات الدفاع المشترك"، ودور كل جبهة –منفردة- وتأثير ذلك على سير العمليات الحربية وعلى نتائجها؟
عالج عدد من الشعراء العرب حرب حزيران 67، وأذكر منهم على سبيل المثال بدوي الجبل، ونديم محمد وأحمد ابراهيم عبد الله وعبد المطلب الأمين. فكانوا أكثر عقلانية في تحليل الحدث من المفكرين العقلانيين والتنويريين. وأكاد أقول بأنني تمنيت لو أن الدكتور العظم أخذ عنهم منهاجهم في النظر إلى الحرب وأسبابها ونتائجها. (أولو أصدرت دار ممدوح عدوان كتاباً يتضمن نصوص قصائدهم الحزيرانية بلا حذف ولا تشويه) ... يثير الدكتور العظم لدى القارئ المعاصر ابتسامة مهذبة عندما يأخذ على العرب اعتبارهم عدوان إسرائيل غدراً. ويكتب في الصفحة الثامنة والعشرين : (أما ما نسميه بالغدر قد أصبح فناً هاماً من فنون الحرب الحديثة يسمى بالهجوم المفاجئ surprise attack في قاموس الحرب الحديثة. والرد على هذا التكتيك أصبح معروفاً أيضاً ومن بديهياته أن يبقى قسم من طائراتنا عند أول إشارة بأن الحرب أصبحت وشيكة، في الجو باستمرار وبدون انقطاع حتى لا تُباغت وهي جاثمة على الأرض أو في طريقها إلى سماء المعركة.).
هنالك حكمة عربية قديمة تراثية بالية تقول: الحرب خدعة. هل يذكر الدكتور العظم اسم قائلها؟ أليست لائقة بالحرب الحديثة رغم انتمائها إلى التراث الظلامي؟ أم أن العصرية والنصر لا تكتمل أسبابهما إلاَّ إذا قلنا سوربريز أتاك؟.
يستعين الدكتور العظم بالدكتور جمال حمدان، ويأخذ عن دراسة له نشرت في الكاتب القاهرية في آب 1967 هذه الفكرة: "(إنه كان لقاء بين فنون وأساليب وأسلحة الحرب العالمية الثانية أو ما بعدها من جانبنا، وبين فنون وأساليب وأسلحة الحرب الثالثة من جانب أمريكا وإسرائيل) – النقد الذاتي ص 29.
مع أن فكرة الدكتور حمدان ليست دقيقة، بمعنى أن نتائج الحروب لا تحسمها (حداثة الأسلحة ولا ما بعد حداثتها) رغم أهمية هذه الحداثة، مما لا يتيح له نجدة الدكتور العظم وهو في قلب حقل الألغام الذي دخله طائعاً مختاراً، إلاَّ إنني أودّ أن انقل إليهما هذه "المعلومة" : ولو جئتُ متأخراً... منذ عقود لا منذ سنوات ، يتداول العسكريون الفرنسيون والمثقفون أيضاً، هذه "المقولة" المأثورة: nous sommes toujours en retard d'une guerre بمعنى أن فرانسا تخوض دائماً حربها الراهنة بأسلحة الحرب التي سبقتها وبأساليبها، وهذا ينطبق على كثير من الدول غير فرانسا. ولا يتاح إلاَّ لعدد محدود جداً من الدول الصناعية الغنية ترف التزود بأحدث مبتكرات التقانة والخطط العسكرية.
حتى "حروب" كرة القدم المعاصرة، تخوضها "فرق" تتفاوت سويات تدريب لاعبيها ولياقتهم البدنية وخطط مدربيهم، وحماسة مشجعيهم أو عدوانيتهم. أي أنه لا يُشترط لخوض أي نزال توفر شرط مساواة (اللقاء بين فنون وأساليب) كل طرف. بالإضافة إلى يقيننا بأن المثقفين والعلمانيين العرب يعرفون على الأقل، أن فرانسا تعَلْمنت وفصلت الدين عن الدولة فصلاً باتاً قاطعاً في القانون الصادر في 1905 ومع ذلك بقيت متخلفة في حروبها، ولم تنتصر حتى في الحرب العالمية الأولى، لولا الولايات المتحدة وجنود المستعمرات الفرنسية. وما الأُيَيْل الذي زجّته في عاصفة الصحراء إلا الدليل والبرهان عن أنها ما زالت علمانية وما زالت متخلفة عن الحرب التي تخوضها بحرب واحدة على الأقل.
(أطلقت فرانسا على قوتها المتواضعة التي زجّتها في عاصفة الصحراء لتحرير الكويت اسماًَ رمزياً هو Daguet ويعني بالعربية – صغير الأيل – ولا بُدَّ لنا من تقدير تواضع التسمية فهي لم تجرؤ على إعطائها اسم الأيل خوفاً من الفيل صاحب النصف مليون جندي المعروف باسم شوارزكوف).
في مزيد من التخبط في حقل الألغام الذي زرعه الدكتور العظم لنفسه، عبر تدخله في تفاصيل الشؤون العسكرية. يقول في الصفحة الثلاثين : (إن العرب دخلوا الحرب وعقلية الفروسية في القتال لا تزال تسيطر على عقولهم وردود فعلهم.. والدليل ما قيل حول صليل السيوف والكر والفرّ ورباط الخيل والمفاهيم الفردية والعشائرية لمعاني الشجاعة والاستبسال والشرف والحمية... هذه هي العوامل والقيم التي لاتزال تحرك مشاعر العربي وتلهب خياله).
يا حبذا لو أن هذه الصفات هيمنت في حزيران. فروح الفروسية بالمفهوم الأوروبي التنويري غير التراثي مرتبطة بالاباء على الأقل. فكيف نفسر ما جرى في حزيران في ظل تلك العوامل والقيم، وتلك العقلية الفروسية؟. ولو كانت تلك السجايا الرثة البالية هي التي حركت القيادات العربية في حزيران لقاتل الجنود كاليابانيين أو كالفيتناميين. أليس من قبيل ظلم الكلمات والمفاهيم وضع الفروسية والشرف موضع الاتهام وإدانتها وهي بريئة؟ رغم اعترافنا بفضل من صمد ولم "ينسحب".
ويصرّ الدكتور العظم على التعامل مع التفاصيل الحربية، فيملأ الصفحة الحادية والثلاثين وما بعدها بشرح مفصّل لأفكاره ويكتب: (كان يُفترض فينا ان نعد العدة الكافية في العشرين سنة الماضية لحرب تتوقف الغلبة فيها على مقدرة الإنسان العربي القابع وراء الآلة المدرعة في استخدام طاقاتها وقدراتها... وعلى مقدرته في الاستجابة السريعة المرنة لتحديات المعركة).
يلامس الناقد الذاتي هنا عدة مسائل في وقت واحد. ولكنه يركز على ما يسميه العسكريون – التدريب والاعداد للحرب – وهنا يدوس على عدة ألغام بخطوة واحدة، ومع أن انفجارها قمين بتمزيق ذوي الخبرة في هذا المجال، فكيف بغير ذويها. إلا أن المؤلف يتابع تقدمه كأن شيئاً لم يكن، متجاهلاً الواقع أو جاهلاً إياه بكل بساطة. وهنا أجد نفسي موزعاً بين أمرين، مما سيحرمني من تنوير الدكتور العظم، فأتغاضى عن تذكيره بالوقائع ، تاركاً ذلك إلى القرن الحادي والعشرين عندما يُسمح بتداول الوثائق ودراستها (ها نحن في القرن الجديد دون بوادر تشير إلى قرب نشر الحقائق لا الوثائق فحسب).
سأختصر جولة الدكتور العظم في ميدان التفاصيل العسكرية بهذه القمة التي أدركها بجهده الذاتي. والتي شرحها في الصفحة الثامنة والثمانين.... بعد الهزيمة: (مثال آخر على ما أقول المدرعات العربية المدفونة في حفر عميقة في الرمال بغية استخدام مدافعها القوية من خلف الاستحكامات الدفاعية، غير ان دفن المدرعات على هذه الصورة يسلبها أهم ميزة تتصف بها ألا وهي القدرة على الحركة والمناورة. بعبارة أخرى كنا في هذه الحرب مخلصين إلى أبعد الحدود لنمط حياتنا الذي لا يزال يعتمد في جوهره على التقاليد والاتباع لا على الدينامية والحركة والابتكار فاحتمينا بالمواقع المحصنة خوفاً من حرب الحركة والاندفاع....).
بصرف النظر عن حكايات التاريخ التي أصرت كلها على أن نسبنا يعود إلى قبائل كانت ترتحل ولا تستقر في مكان ولو أنها حلت على مجاري الماء، مما يعني حبنا الفطري للدينامية والحركة، غير أنني أجد من الضروري طمأنة الدكتور العظم، رغم كل شيء إلى حقيقة بسيطة ليست خافية على أحد لا من العسكريين ولا من المدنيين العرب، فحواها أن أساليب استخدام وحدات المدرعات – في الجيوش العربية كلها – كانت تعتمد حتى نهايات الخمسينات على اسلوب الدينامية والحركة والاندفاع. ولما رفض الغرب العلماني والتنويري تسليح جيوش الدول العربية التقدمية، لجأت تلك الدول إلى الاتحاد السوفيتي ومجموعته كما هو معروف، حيث حصلت على السلاح. وأضاف السوفيتيون بان أرسلوا خبراءهم للتدريب. وكان من الطبيعي أن يطبق هؤلاء الخبراء الأساليب التي تعلموها في بلادهم. وهكذا اكتشف العسكريون العرب ما عُرف يومئذٍ بالعقيدة الشرقية – على نقيض العقيدة الغربية – ومن مبادئ العقيدة الشرقية في استخدام وحدات الدبابات دفنها في حفر لحمايتها في حالات معيّنة لا مجال لشرحها هنا. ومع أنني أفضل الأسلوب الغربي في استخدام المدرعات – (وهو في الحقيقة لا يختلف عن الشرقي إلاَّ في التفاصيل) – أفضله لانسجامه في جوهره مع نمط حياتنا القديم الاتباعي المنحدر إلينا من أجدادنا الفرسان ومن روح الفروسية والبداوة المحبة للارتحال، إلاَّ أن العسكريين العرب كانوا غير مخيرين في قبول الأساليب (الجديدة) البعيدة عن نمط حياتنا الذي يعتمد على التقليد والاتباع لا على الدينامية والحركة.. ولما كان الخبراء (الشرقيون) جميعاً من المؤمنين بالعقيدة اللينينية الستالينية في الحرب، ومنها دفن المدرعات في الحفر في مراحل محددة من المعركة، ولما كان أولئك الخبراء – في ذلك الوقت... لا يؤمنون لا بالله ولا بكتبه ورسله وملائكته ولا باليوم الآخر، وكانوا علمانيين وتنويريين أيضاً، ومع ذلك كانوا يحرمون المدرعات – في حالات محددة – أهم ميزاتها ألا وهي القدرة على الحركة... الخ ... كما جاء في النقد الذاتي. فكيف استقام الأمر للدكتور العظم وقدم مثالاً يدحض أفكاره كلها؟ وكيف يسمح المنهج العلمي النقدي بلَيِّ عنق الواقع من أجل تأكيد فكرة مسبقة وضعها المؤلف نصب عينيه، لقلع عين الماضي فقط والبرهان عن أن (الدين) هو سبب الهزيمة؟ يلمس القارئ المعاصر هنا وفي غير مكان من الكتاب سبباً من أسباب الهزيمة لم ينوه به الدكتور العظم، رغم مروره به أحياناً، هو قيام أستاذ الفلسفة بوضع قواعد التكتيك أو نقدها، وتصدي من ينبغي عليهم إنجاز هذا العمل لمهام أخرى وقس على ذلك.
الجمل
إضافة تعليق جديد