غازي أبو عقل: معول الحافر في حجر السرائر (1)

04-05-2011

غازي أبو عقل: معول الحافر في حجر السرائر (1)


الجمل ـ غازي أبو عقل: منذ أواسط تموز يوليه 2010، بشرتنا "أخبار الأدب" القاهرية بانتهاء الروائي نبيل سليمان من رواية جديدة عنوانها " حجر السرائر"، تدور أحداثها في عامي 1949 و 1950.. وهما العامان اللذان شهدا انكسار العسكر مع العدو وانتصارهم في الأوطان. ولما كنّا في 1949، فلا بد من التعريج على الانقلابات العسكرية الثلاثة التي تتابعت على سوريا يومئذ، فهل ألقت الرواية عليها أضواء تكشف غير ما هو معروف عنها منذ سنوات؟ وهل ذهبت إلى "ما وراء" كل انقلاب، لتضيف إلى معلوماتنا ما الذي ينماز به عن أخيه؟ وهل وظفتها درامياً كما يُقال؟

 في الرواية معلومات مفصّلة عن بعض أنواع الأحجار الكريمة الموجودة في حوزة العائلة الدمشقية" البورجوازية" التي اعتمدت الرواية على أعضائها لبناء هيكلها. ومنها انتقلت لرسم لوحة ما "للبيئة الشامية"، نقرأ فيها بعض الحكم والأمثال المتداولة، وبعض الأدعية والخرافات، وملامح من صراع القديم والجديد، المتمركز على مسألة سفور المرأة وحجابها، كما نسمع " بعض الأغنيات الشعبية" التي كانت دارجة. دون نسيان البحث القانوني في قانون الطوارئ يومئذ.  

تتوزع شخصيات ضباط الجيش في الرواية، إلى انقلابيين، واغتياليين، وشهداء، وسجانين، "وبنائين أحرار" أي فَرمَسون( من كلمتي franc Macon الفرنسيتين). ونتعرف بين المدنيين؛ إلى فقهاء في القانون الدستوري، ووجهاء وصحافيين يطاردون الأخبار. ونلتقي في الرواية من النساء، بمن دسّت السّم لزوجها، وبالمحامية اللامعة، وست البيت والخادمة السوداء زهور، نضيف إليهن- بلا أسماء- منشدات قسم الشرطة.

صنع نبيل سليمان من هذه " المواد الأولية" الرئيسة، رواية حجر السرائر التي حفزتني إلى شراء مِعوَل للحفر فيها، فأنا لا أملك أي أداة نقدية معتَرف بها، لممارسة مثل هذه النوع من العمل الخاضع عندنا لاحتكار أين منه احتكارات كبريات شركات النفط.

بعد أن قرأت حجر السرائر، انفتح أمامي درب عدم الإتيان على ذكرها، لا سلباً ولا إيجاباً، غير أن " بنيتها " أحبطت خياري هذا. ولما قررت الكتابة عنها انفتح أمامي طريقان.

الطريق الأولى، عرض انطباعاتي عنها بصراحة، انطلاقاً من مبدأ صديقك من صَدَقكَ، لا من صَدّقك. وفي هذا المبدأ ما فيه من " مخاطر".

الطريق الثانية: تقليد غيري ممن نشرت بعض وسائل الإعلام " مداخلاتهم" الإيجابية المُعجبة. ومن غير تردد، على نقيض عادتي في مثل هذه الأمور، اخترت طريق "المصارحة" بما بقي في النفس من انطباعات عن الرواية. دون الادعاء بأن ما كتبته يشكّل  نقداً منهجياً أو حكم قيمة، نظراً لافتقادي إلى الأدوات المناسبة، كما ذكرتُ للتوّ... ومع ذلك قررت اعتماد نهج تفكيك الرواية إلى" شكل"، وإلى " موضوع".

حجر السرائر شكلاً:

أولاً؛ في العنوان:

لا يعطي عنوان "حجر السرائر" فكرة عن الجانب الأكثر أهمية من الرواية، أي الانقلابات العسكرية ونتائجها. شهدت سوريا ثلاثة انقلابات عسكرية بين نهاية آذار مارس 1949، وأواسط كانون الأول ديسمبر من السنة نفسها. أما خطر في بال الروائي، في هذه الحال، أن يجعل عنوان الرواية 1949؟ لو كنت مكانه لفعلتُها، حتى لو اتُّهمت بتقليد عنوان رواية جورج أورويل 1984. كتب أورويل روايته مع نهاية الحرب العالمية الثانية، ونشرها في 1949، قبل سنة من وفاته كما قيل. وهي مدّت رؤياها إلى المستقبل وصدق حَدسها لأنها أدركت عمق الواقع، ورسمت أجواء ثبتت واقعيتها في ما بعد، وما زالت صحيحة إلى اليوم. فهل نجحت حجر السرائر التي كُتبت بعد نحو ستة عقود مَرَّت على الأحداث التي عالجتها، في قراءة الماضي القريب قراءةً نزيهة فكرياً، كما ينبغي لمن "لديه تلك الرؤية الواضحة والشاملة لمرحلة مهمة من تاريخ سوريا"؟ أعرف أن الرواية ليست كتاب تاريخ، برغم ماكتَبه بعض الذين قرؤوا الرواية من أن الروائي "درسَ وحَللَّ الأحداث ليكون شاهداً على عصره" والشاهد على العصر هو مؤرخ في شكل ما.

أيكون بوسعنا منح الرواية جائزة ترضية لأنها قالت: "رجعنا إلى الطائفية أعوذ بالله. متى نبرأ من هذا السُّمّ؟ متى نخلص من هذه المصيبة؟... أدهشني هذا التساؤل، لأن الرواية أفردت نحو صفحتين 187 و188 للترياق الواقي، فكتبت: "خاتم واحد يا أخي وحبيبي اشتريته من بعدك ومن أجلك. للخاتم فَصّ زيتوني مشرب بالصفرة من حجر السم. لو وضع المسموم الفص في فمه يبرأ من الُسم". شيء نفيس فعلاً، بخاصة إذا تأثر بعضهم بالرواية وبادروا إلى توزيع خاتم ذي فص على كل مواطن مصاب بسُم الطائفية، يضعه في فمه فيبرأ لتوّه... قل هذا هو التخييل الذي ينبغي قبوله كما هو.

 ما هي السمكة التي أرادت الرواية إغراقها ساعةَ سَبرَجت عنوانها، وتفادت الغوص إلى عمق الأحداث " الدرامية" المثيرة التي صنعت تاريخ سوريا من نهاية آذار إلى أواسط كانون الأول 1949؟

تسعة أشهر هي المدة الطبيعية اللازمة لكي تتحول النطفة إلى علقة، ثم إلى مضغة، ثم إلى جنين فيستوي بشراً سوياً. أمّا أن يتعرض هذا الجنين إلى ثلاث عمليات إجهاض، ثم يولد ويعيش برغم كل شيء دون أن ينتبه المبدع إلى هذا الحدث، فلا يتدخل خيال "الفنان" لديه، ولا "رؤياه الشاملة" ليصنع لنا دراما من طبيعة فريدة، بل يتركنا نتساءل عن نوعية الحَدس الذي جعله يفضّل كرامات الحجارة، التي تتفوق عليها كرامات حجارة الأولاد الفلسطينيين، من وجهة نظري على الأقل....أمّا أن يتركَ الحَدَث الذي يصنع "رواية" إذا عالجتْهُ مَخيلةُ المبدع، إلى لا حدث الحجارة الكريمة فتلك وأيم الله قاصمة الظَّهرِ...

ثانياً؛ أما زال عزازيل يقيم في التفاصيل؟

بدر الدين أتماز ضابط من الشخصيات المهمة في حجر السرائر، فهو تارة رئيس المكتب الثاني (الأمن العسكري) وتارة رئيس الشرطة العسكرية. وفي الصفحة الخامسة والسبعين من الرواية، يُرفَّع هذا الضابط إلى رتبة أعلى، نقرأ:"....لذلك حُقّ لبدر الدين أن يضحك ويضحك وهو يشير إلى رتبته...حين طارت نجمتان عن هذه الكتف ونجمتان عن هذه الكتف، ليحطّ نسرٌ على هذه الكتف..." هذا ترفيع استثنائي طبعاً، لأنه لو لم يكن كذلك لطارت ثلاث نجمات عن كل كتف. المسألة ليست هنا. بل في تسمية شارة الرتبة الجديدة " النسر". كانت هذه الرتبة تُسمّى "رئيس أول" ثم أصبحت "رائد" بعد الوحدة لضرورة وجود رئيس أول واحد. وكانت شارة تلك الرتبة شعار الجمهورية العربية السورية. وشعار الجمهورية العُقاب لا النسر. وكنت قد سألت ذات يوم أستاذنا نخلة كلاس رحمه الله، عن هذه المسألة (وهو كان يدرّس الفرنسية والثقافة العامة والقانون في الكلية العسكرية، قبل أن يُعهد إليه برئاسة تحرير المجلة العسكرية) فأجابني: شعار الجمهورية العقاب لا النسر، لأن العقاب لا يأكل الجيف ولا الفطائس على نقيض النسر. أي أن الاختيار كان له مغزاه كالروايات. وأذكر في الشأن نفسه، مناسبة رسمية دُعيت إليها أثناء عملي في الجيش، وحضرها عدد من الملحقين الأجانب، بينهم معاون الملحق العسكري في سفارة الولايات المتحدة، وكنا نرتدي لباسنا العسكري. في أثناء الحديث قال الضابط الأمريكي: لماذا يجثم نسرُكم ضاماً جناحيه كأنه مذعور. بينما يحلّق نسرنا فارداً جناحيه؟ تذكرتُ فوراً ما قاله لي الأستاذ كلاس وأجبته: شعارنا العقاب وهو طائر نبيل لا يأكل الفطائس، على نقيض نسركم المفترس. لهذا السبب ساءني اختلاط الأمر على صديقي الروائي.

جاء ذكر ملهى "القطة السوداء" في الصفحة 178، وهو ملهى ليلي دمشقي معروف قديماً. أخذ اسمَه عن ملهى باريسي. وكان اسم الملهى الدمشقي مكتوباً فوق مدخله بالعربية: شانوار، وبالفرنسية Le CHAT NOIR في صيغة المذكر، أي القط الأسود لا القطة، لسبب وجيه هو اكتساب كلمة قطة بالفرنسية العامية Chatte معنى غير موجود في "لاروس" يشير إلى عضو ما في جسد المرأة. لذلك اقتضى التنويه.

قرأت في نهاية الصفحة 86 هذا السطر: "كأني أسمع أصواتهم الآن- يعني شباب الفتوة عند الإخوان المسلمين- الله أكبر وسبحان الله".... بينما كان هتاف الإخوان: الله أكبر وللّه الحمد. فاقتضى التنويه أيضاً.

في سياق رسم شخصية الدكتور عبد الواسع في الرواية، قيل عنه إنه يرتاد مقهى الجسر (الأبيض في دمشق) وفي هذا المقهى لازم مُدرّساً للفلسفة وكاتباً هو صدقي اسماعيل. وكان أول من يُقرئه جريدته الساخرة "الكلب" التي يحررها بخطه ويوزعها بنفسه.

القول بأن الأستاذ صدقي كان "يوزعها بنفسه" مجاف للمنطق. فهو كان يكتب نسخة واحدة طوال أيام وأسابيع، يضيف إليها حتى يكتمل العدد في نسخة وحيدة، فكيف يمكن توزيع نسخة واحدة؟!

عندما اعتُقل الضابط بدر الدين أتماز- ما غيرو- في سجن المزّة، بعد اغتيال العقيد محمد ناصر، تمكنت المحامية نديدا، وهي شخصية مهمة في الرواية، من الحصول على إذن لزيارته، بواسطة زوج شقيقها الضابط المهم أيضاً. لأنه على معرفة قديمة بمدير السجن. التقت نديدا وبدر الدين أخيراً في إحدى غرف السجن، ودار بينهما حديث ملأ الصفحات 181، 182، 183. هذا الحديث لا يمكن أن يدور في سجن "مهم " هو الآخر، ولو تُركا في غرفة " غير مراقبة". بخاصة وأن السجين كان يحتل منصباً رفيعاً في جهاز الأمن. الحديث كما جاء في الرواية يمكن أن يدور في خلوة، في بيت ليس فيه من يسترق السمع، أما في سجن المزّة، فهو أمرٌ غير مقنع.

من هذا القبيل مشهد غناء النسوة الموقوفات في "النظارة" ورقصهن، مما سيأتي ذكره في باب الغناء، غير أن هذا المشهد – على ما يبدو لي – قد كتب من أجل إثارة حمية الصائمين ممن سيشاهدون المسلسل الرمضاني المنتظر. كما يأمل الناشر في تقديمه الرواية.

 

ثالثاً؛ في "حنبلية" اللغة ....الروائية:

أتكون لدى مؤلف حجر السرائر رغبة مُضمرة بإعطاء بعض المفردات مدلولات مغايرة، أو كتابتها على خلاف الإملاء المعتاد؟ على أية حال لا أناقش حريته في استعمال اللغة..ولا حريتي أيضاً. قرأت في الرواية: أشهر الخنجر. وأشهر الملازم مسدّسه. وكنت أعرف القول: عجبتُ لمن بات جائعاً لا يخرج على الناس شاهراً سيفه. لا بدَ من أن يكون أحد القولين هو الصواب. كما قال: أخفض صوته. وأهلَّ عيد الأضحى. ويقول ابن منظور غير ذلك. وكتب: أركزَ نظراته. وأركزَ نظارتيه. والصحيح رَكَزه يركزه ركْزاً في مركزه.

وكتب: أثنتني عن الخروج. والأصح: ثنتني. وثنيتُه: صَرَفْته عن حاجته.

ومن ذلك: سرًها بقدر ما أقْبضها. والأصح: إنه ليقْبضُني ما قَبَضَك. وفي الحديث : في فاطمة بضعة مني يقبضني ما قبَضَها.

وقرأْتُ: أطاح برئيس الجمهورية. والصحيح أطاحه.

أمّا " نسائم العصاري الناعشة" فلا وجود للصيغتين في اللسان. وفيه: نعشَه وأنعشَهُ: رفعَه. وانتعش: ارتفع... وقرأتُ: لكن الزكام اشتد حتى " أعيا" الأطباء...أعيى يُعيي؟ ربما. أمَا "تصحو من سدورها"، فلا تُقال كلمة سدور إلا في: سَدَرَ ثوبه سدْراً وسدوراً: أي شقَه. ويُقال سَدرَ بصره سَدَراً فهو سدِر لم يكد يُبصر. كان الأصح القول بأن بصر نديدا قد سَدِر، وفي الرواية: بحثاً عن مطرح ليوئدْهما فيه. الأصح يئدْهما. وأدَ يَئِدُ وأداً.

وأدهشني قوله: ولسانه ليس زَرِباً. والخلط بين "الزين والذال". ففعل زرب يقال للماء.إذا سالَ. ومنه الزريبة: موضع الغنم. أما ذَرِبَ الرجل: إذا فَصُح لسانه. وفيه ذرابة: أي حِدّة. وقال: بعض ما كان لدي هو ما أكرم به علَيّ. أعرف أنه يُقال تكرَّم عليّ أو أكرمني. وقال: تصلّبَ صوتُه وهو يمطّطُ الكلام. لا توجد صيغة مَطّطَ. ويُقال: مطَّ الشيءَ مَطّاً: مدّهُ. والمطمطة: مدّ الكلام وتطويله. ولا تخلو الروايات من هذه السمة..ولا المقالات كالتي أكتبها.

قال: لدي أخبار هامة. وهو خطأ شائع والأفضل: مهمة. وهي صيغة استعملها أحد مقدّمي الرواية.

تحدثت الرواية عن: تعطيل القانون وتغييبه وتعريجه (يريد جعله أعرجاً فخانه التوفيق) فالعَرَج والعُرْجَة: الظَّلَع. أما عرّج بالمكان: إذا أقام. والتعريج: ان تحبس مطيّتكَ لحاجةٍ.

استعمل الروائي دائماً فعل: هَزَجَ وهَزَجت: بمعنى قالت. لكنه في حجر السرائر، طوّر الفعل وأعاره إلى الأشياء. فإذا قبلناه في جملة: هزجتْ واحدة من الموقوفات، إلا أنها في جمل مثل: الكنبة هازجة، وهزَج الراديو، وهزجَ ضياء الشمس، فإنها تصبح بلا معنى. كما أضافت الرواية إلى "الهَزج" فِعْلَيْ: سَحَجَتْ وفَحَّتْ وهي أفعال مُنَفَرة في رأيي.

رابعاً؛ كيف ضاعت هذه الفرصة؟

في الصفحة الرابعة والستين، عرَّج الروائي على مسألة العدالة المنقوصة، كما تُجسّدها المحكمة العسكرية فكتب: "كان بوسع نديدا أن ترى رأي العين كما في المنام الجنرال الجديد قبل أن يصير رئيس الدولة، قد تزَيّا بزي القاضي، وتصدَّر منصةً، وأعلن أنه رئيس المحكمة العسكرية، وأنه في غنى عن قاضي اليمين وقاضي اليسار، وفي غنى عن المدعي العام، وعن الكاتب وعن الشرطي، فالمحكمة يكفيها هذا الذي سيصير بعد ساعات رئيس الدولة، وهذا الذي كان قبل ساعة رئيس الجمهورية. بالأحرى يكفيها حسني الزعيم وسامي الحناوي. لذلك صدحَتْ سوريا كلها، وليس دمشق وحدَها:

"ع الهوب الهوب الهوب والعدل آخد مجراه

على حالك لا بقا تخاف ..والأفوكاتيه ملاح

والقاضي لابس روب. وماعاد في ذمة بنوب

والحكام صارو ظراف. بالشنطة ولّا الروب..."   انتهى النقل من الرواية.

لن أتوقف عند كيفية "توليف" هذا المقطع، لأن الأمر عسير، ولأن اهتمامي ينصب على تشويه جرى لصفحة كان بوسعها خدمة النص.

جرى تشويه مقطوعة الزجل بتداخل أجزائها المختارة هنا، وباجتزائها من أصلها  بشكل عشوائي. فإذا أضَفْنا إغفال اسم الشاعر – وهو مشهور- وإغفال المناسبة التي أوحت بالمقطوعة، تكون إضاعة الفرصة تامة كاملة.

لو كان الأمر لي لحكيت الحكاية من أولها. وهأنذا أفعل لان الأمر ليس لي.

أرادت فرانسا التي كانت منتدبة على دولتي المشرق، لبنان وسوريا، ابنتَي السيدين مارك سايكس وجورج بيكو، قبل شيوع  زواج المثليين...أرادت تحديث مرافق البلدين، فقررت جعل القضاة والمحامين يرتدون في المحاكم " المشلح" فوق ثيابهم، وهو نوع من العباءة السوداء تُسمّى "روب" بالفرنسية، كلمة استوطنت لغتنا بعد أن دخلت غرف النوم باسمها الفرنسي "روب دوشامبر"،  عباءة الغرفة بالعربية. التقط الزجّال اللبناني الشهير عمر الزعنّي 1895-1961، المفارقة فوراً، فالعدل لا يسود بمظهر القضاة والمحامين، بل في فصل السلطات أولاً واستغلالها واحترام القوانين. فكتب في 1930، بعد فرض الروب، هذه المقطوعة التي تسخر من العدل الشكلي، في حين تُغيًب شروط تحقيقه فعلاً. وهذا نصها:

         (1)                                                       

عالهوب الهوب الهوب

والقاضي لابس روب

والحق آخذ مجراه

ماعاد في ظلم بنوب

        (2)

على حقّك ما بقا بخاف

 الحكام صاروا نضافْ

والأبوكاتيه ظرافْ

ما فيهم واحد جوب

        (3)

لابسين رواب جدادْ

ما لبستها الأجدادْ

ولا شافت هالبلاد

نعمة أحسن من الروب

        (4)

الحمد لله صار مفهوم

مين حاكم مين محكوم

والأبوكاتو معلوم

بالشنطة أو بالروب

         (5)

الخَلط ما عاد ينفع

صار في حكام تسمع

فانوس الحق شعشع  

حطوله عاراسه كلوب

         (6)

الحمد لله صار في أمان  

صار في ذمة و وجدان

يا ريتنا من زمان

استهدينا على هالروب

         (7)

فليحيا اللي نشلنا

و أحيالنا أملنا

شو كان صار بحالنا

لو ما لبسنا هالروب؟  1930     

 

 

 

هوامش: 1-بنوب: بتاتاً، 2-الأبوكاتية: المحامون من كلمة avocat الفرنسية، 3-جوب: الغش، 4-كلوب: قنديل. 

المصدر: كتاب عمر الزعني :حكاية شعب. بقلم فاروق الجمال. منشورات دار الآفاق الجديدة ببيروت، 1979 .

                         --------------------------

هكذا تتم السخرية من عدالة المظاهر، وهي اشتهرت يوم قيلت كغيرها من أزجال الزعني، الذي كان يغنيها بصوته الأجش، ويسجل بعضها على اسطوانات، قبل أن تبدأ الإذاعة.

جميل أن يهتدي الروائي إلى هذه الزجلية، وهو يسخر من العدالة العسكرية، ولو بشكل (وقور). لكن اجتزاء المقاطع وخلطها ببعضها أضاع الفائدة. وكان الأجمل تدوين نصها كاملاً، وهي ظهرت قبل أحداث الرواية بنحو عشرين سنة، مما يضعف احتمال أن تصدح بها سورية كلها. ولو نُقلت كاملة لأسهمت في تعريف قراء الأجيال الجديدة بصورة مشرقة لفن السخرية والنقد اللاذع المفيد كما كانا منذ ثمانين سنة .

من سوء طالع القارئ المعاصر، التعرف إلى هذه المقطوعة المهمة بشكل مشوه، دون معرفة اسم مؤلفها، ولا ما يساعده على وضع الأمور في إطارها الفعلي. (يتبع..)

* مقالة نقدية من (51) صفحة مخصصة لنقد رواية نبيل سليمان الجديدة «حجر السرائر» ننشرها على حلقات

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...