غازي أبو عقل: معول الحافر في حجر السرائر (4)
الجمل ـ غازي أبو عقل: شرحتْ الرواية معنى كلمة شلّيطا السريانية الأصل، أي الأحمق الظالم. اكتشفها الروائي لأول مرة في روايته دلعون 2006، ويبدو أنها أعجبَتْه فأعاد استعمالها هنا، مما أوقعه في مساوئ التعميم، بإلغاء الفوارق الكثيرة بين دوافع الضباط الثلاثة وشخصياتهم وسياساتهم. أما إذا حسبنا مدة بقاء الانقلابيين الثلاثة في السلطة لوجدناها أقل من خمس سنوات، مما لا يؤهلهم لإتقان تنفيذ المهمة التي يشير إليها معنى الكلمة السريانية، أي الحاكم المتسلط مجازاً...بخاصة إذا خطر في بالنا مضاهاتهم بالمغفور لهما سالازار وفرانكو، إن لم نضعهم وجهاً لوجه مع شليطا دلعون. الذي سيسخر منهم لعدم جدارتهم بحمل مثل هذا اللقب السرياني العريق.
أما القول بأن الثلاثة "حوّلوا الهزيمة في فلسطين إلى "انتصار" فهو غير مقبول، لأنهم لم ينهزموا في فلسطين عام 1948، ولم يفرّوا من ميادين القتال على الأقل، بل بادر شليطا الثالث إلى استباق حرب 1948 وتطوع منذ عام 1947 للقتال في فلسطين.
ويأتي التساؤل (إلى انتصار) ولكن على من؟ لكي لا تختلط الأمور بلا أي مسوّغ، وتجعل الكتابة نوعاً من السَّبرجَة، وهي مفردة ليس لها أصل سرياني في حدود علمي، لماذا لا تجيب الرواية عن هذا السؤال الخطير؟ كانت محاولة الإجابة ستكلفها كثيراً من البحث "التاريخي" النزيه، وقد تعطي العسكر الحق – ولو مؤقتاً – لقلب الحكومة التي أضعفت الجيش وقبلت في اللحظة الأخيرة تنفيذ أوامر الجنرال البريطاني غلوب باشا، قائد جيش الملك عبد الله، الذي نصبّوه قائداً عامّاً للجيوش العربية في أيار 1948، فألغى إلى محور هجوم القوات السورية التي وضع قادتُها خطةً عملية ممتازة لاحتلال الجليل، والدخول من اتجاه محور مرجعيون إلى فلسطين للقاء مجموعات جيش الإنقاذ، مما كان سيغير مصير الحرب.
هل قال واحد من أولئك "الشّليطات" أنه انتصر في فلسطين؟ تمنيت لو أن حجر السرائر قرأتْ المقدمة التي كتبها الأستاذ عصام محايري لمذكرات المقدم حسين الحكيم وعنوانها "لعنة الانقلابات": "وينقل لنا المقدم الحكيم في السياق نفسه ما قال له أديب الشيشكلي العائد هو أيضاً من جيش الإنقاذ حزيناً كسير الفؤاد، يا حسين، حافظ على نفسك لأن كل تضحياتنا ستذهب هدراً ولن تؤدي إلى نتيجة. إنها مؤامرة دنيئة شارك فيها حكامنا عن جهل وغباء"...
ناقضت الرواية نفسها حين جعلت العسكر اللاعبين الوحيدين بمصير "الأوطان" فهي أجرت على ألسنة بعض شخصياتها ما يكشف دور الأحزاب والسياسيين "المدنيين" في جر العسكر إلى حمأة السياسة اليومية والانقسامات الحزبية التي لا تضع مصلحة "الأوطان" إلا بعد مصلحة "الحزب". والعسكر في نهاية المطاف نِتاج مجتمع معيّن، له ظروفه الموضوعية التي تيسّر أمرَ من يريد السيطرة عليه، أو تجعل ذلك الأمر عسيراً صعب المنال.
في كتاب "حطام المراكب المبعثرة" وهو حوار بين بعثي قديم نبيل الشويري وصخر أبو فخر، نقرأ في الصفحة 241 إجابة الشويري عن سؤال حول دور الضباط في السياسة": كلا، ليس الضباط بل زعماء سوريا. الضباط ما كان في استطاعتهم تسيير أي أمر لو أن حزب البعث وأكرم الحوراني رفضا ذلك، الحكم كان في يد الأحزاب والضباط يتلقون الأوامر من هؤلاء الزعماء".
لا أضيف هنا شهادتي – كضابط- عن المرحلة التي واكبتُها يومياً من 1955 إلى 1958، حتى لا أُثقل على من قد يقرأ هذا النص، أولاً، وكي لا أُفحم الرواية، ثانياً.
عندما أرفض القول بانهزام العسكر في 1948، أبتغي وضع الأمور في سياقها الواقعي، لا الدفاع عن العسكر ولا تسويغ اعمالهم؟ ذلك أن الجيش السوري لم ينهزم في 1948، برغم الظروف السيئة التي أحاطت بدخوله تلك الحرب. من معاني "انهزم" انه فرَّ، وهذا ما لم يحدث، فقد عبر الحدود التي رسمتها اتفاقية سايكس- بيكو، واحتلّ رؤوس جسور على الجانب الغربي من نهر الأردن، مساحتها أكثر من سبعين كيلو متراً مربعاً. حتى بعد أن نقله غلوب باشا من مرجعيون إلى سَمَخ. أي من جنوب لبنان إلى جنوب الجولان. ألا يُعدّ احتلال سبعين كيلو متراً غرب نهر الأردن نجاحاً بالمعنى (العَمَلاني)- كما يقولون في الجيش اللبناني؟ لا بدّ لي من الإعجاب بمقدرة "حجر السرائر" على تحديد مسرح عملياتها زمنياً بين عامي 1949 و1950، لكي لا تُفضي إلى قرائها بما يُثقل قلبَها من أشجان، في المسألة الفلسفية الخاصة القائلة بانكسار العسكر مع العدو وانتصارهم في الأوطان، مما قد أعود إليه في "المسكوت عنه" في الرواية.
لن أقاوم إغراء نقل هاتين الحكايتين الشارحتين لمسألة انكسار العسكر مع العدو، لأتوقف عند زيارة رئيس الجمهورية شكري القوتلي، إلى قطعات الجيش التي نُقلت من مرجعيون إلى سمخ. حيث اصطدمت ببعض تحصينات خط إيدن الذي كان البريطانيون قد أقاموه أيام كان المارشال الألماني رومل في العلَمين غرب الاسكندرية أثناء الحرب العالمية الثانية. وبرغم هذا الظرف العسير، الذي لم يدخل في خطة الجيش السوري "إلا أن العسكر السوري احتل سمَخ". فكتب الأستاذ عصام محايري، مقدِّماً كتاب (لعنة الانقلابات) للمقدم حسين الحكيم:" تأخذ نشوة الحماسة فخامة الرئيس وهو يهنئ بسقوط سَمَخ، فيقذف سمعَ الضباط من مستقبليه بفيض من الأوامر والتوجيهات، يا عبد الوهاب بك (العقيد عبد الوهاب الحكيم آمر الجبهة) ألاحظ أن تقدمكم بطيء جدّاً وتحرير فلسطين لا يحتاج إلى كلّ هذا الترتيب، تقدّموا بسرعة أكثر وأرجو أن يصلني غداّ خبر احتلال طبريا، ثم لماذا هذه المدافع باقية هنا ولماذا قيادتكم في أرضنا، تقدموا وأسرعوا. ولا يلتفت الرئيس إلى رأي الكفاءة العسكرية التي تحاول لفتَ نظره إلى أن موقع مدافعنا على هذه المرتفعات أفضل بكثير من نقلها إلى المنخفضات".
و" أما الصفعة التي وجهها دولة رئيس مجلس الوزراء جميل مردم (الحاكم العسكري يومئذ) إلى ضابط كبير الرتبة والمكانة في الجبهة، وعلى مرأى ومسمع من رفاقه الضباط الذين يحملون له كل تقدير على البلاء المميز في إدارة الحرب. وحسبنا من هذه الصفعة الآثار الوخيمة التي ولدتها، ودور هذه الصفعة في جملة العوامل التي أدت إلى مسلسل الانقلابات التي تورط فيها الجيش"، فلا تحتاج إلى تعليق.
ما الذي حال بين حجر السرائر وبين حشر مثل هاتين الحكايتين مع حكايات صندوق الدنيا الذي كانت نديدا تُهرع إليه وهي طفلة في الحارة؟ لو أن الرواية حدثتنا عن "الصفعة"، أما كانت أتاحت لنفسها فرصة "تاريخية" لتوجيه سؤال إلى السيد جميل مردم، مآله لماذا لم يَدخر قواه لصفع ابن عمه المقدم فؤاد مردم، الذي أُرسل للإشراف على شحن آلاف البواريد وذخائرها، فألهاه طيشه وانسياقه وراء غرائزه عن واجبه، مما أدّى إلى وصول الأسلحة مجاناً إلى حيفا لا إلى بيروت؟
لقد هربت حجر السرائر مراراً وتكراراً من نقل " الجو المهيمن" على سوريا في تلك الأيام، دون أن نعرف لماذا؟ فهي حرمتْنا من معرفة أسباب انكسار العسكر مع العدو وانتصارهم في الأوطان. ودوافع الانقلابات العسكرية وتسارع وتيرتها في 1949، ونتائجها الأكثر أهمية على سلوك مكوّنات المجتمع الدمشقي على أقل تقدير، إذا تناسينا حركات الطبقة السياسية المحترفة.
أحاول كلما عدتُ إلى حجر السرائر، تشكيل لوحة جامعة لأكثر ملامح المجتمع الدمشقي، فلا أحصل إلا على ضربات ريشة متناثرة على وجه تلك اللوحة. ربما كان هذا أسلوب الرواية في الرسم، فأين الخطأ؟...
فلنقبل كون حجر السرائر حكايةً لعبَ فيها خيال الروائي الدورَ المعهود في كل رواية، غير أن "التخييل" لا يمكن أن يعمل دون بعض الضوابط، بخاصة عند ملامسته حوادث تُصنّف في الواقع التاريخي. برغم هذا "التحفظ"، فأنا لا اعلّق أهمية كبيرة على طريقة كل رواية في سرد الحوادث أو في تخييلها، لأنه أمر ثانوي، يُخيّل لكتّاب الروايات التاريخية ونقّادها أنه مهم...المهم فعلاً – في رأيي- هو موقف الروائي أو الرواية من "الحادثات"، وموقفه من الدنيا والناس، من حيث منحاه العام "التقدمي" أو النكوصي أو غياب إدراكه لطبائع الأمور.
من هذا المنطلق، أجد القولَ بانكسار عسكر سوريا في 1948، هذه السنة التي سبقت الانقلابات، ليس منصفاً ولا ينسجمُ مع واقع الحال. فسوريا "المستقلة" حديثاً لم تتمكن من حشد أكثر من ثلاثة آلاف إلى خمسة آلاف مقاتل فعلاً على الجبهة. هذا الجيش كان عديده، عند جلاء فرانسا، أكثر من عشرة آلاف جندي، ثم أُنقص إلى ثمانية آلاف وخمسمائة في موازنة 1947، وكان الملحوظ إنقاصه في 1948 أيضاً. بينما جرتْ زيادة المستخدمين المدنيين في وزارة الدفاع وفي المدة نفسها من أربعمائة إلى نحو ألف مستخدم مدني، لأسباب "انتخابية" على ما أظن، بالإضافة إلى تسريح الجنود القدماء ووقف التطوع.
الأمر الخطير الذي أسهم في صنع نتائج جولة 1948، هو الاختراق العميق للجسم العربي، إذا استعرتُ ما كتبه الأستاذ الراحل أنطون مقدسي، فقيادة الجيوش العربية كلها عُهد بها إلى عبد الله ملك الأردن، أي إلى الجنرال البريطاني غلوب، الذي ألغى الخطة المحكمة التي وضعتْها هيئة أركان الجيش السوري طوال ثلاثة أشهر، من أجل الدخول إلى الجليل. كما ينبغي ألا ننسى الاختراق البريطاني الصهيوني في قيادة الجيش السوري أيضاً، حيث كان يرتع الكولونيل فوكس، الخبير العسكري البريطاني منذ 1946.
كتب المقدم حسين الحكيم في لعنة الانقلابات:"...ترسختْ قناعتي بأن تغيير خطة جيشنا بناء على أوامر الملك عبد الله كانت ضمن إطار تحطيم قدرات الجيش السوري". وهذا أقل ما يُقال.
لم تُظهر حجر السرائر حرصَها على "رؤيتها الشاملة والواضحة لمرحلة مهمة من تاريخ سوريا"، وإلا فما معنى سكوتها عن هذه الواقعة التي سأحكيها بعد قليل. فهي حاكمت العسكر ودانتْهم، ولكنها لم تأت على ذكر ذيول "انكسارهم مع العدو"، وصمتتْ عن أمر أكبر من أن يُغيّب، فأضاعت حقَّ قرائها الشباب في معرفة تاريخ بلادهم، على ضوء رؤيتها الشاملة والواضحة، وتركتْهم فرائس للروائيين الذين لا رؤية شاملة لديهم ولا واضحة ولا من يحزنون.
ما لم تأت حجرُ السرائر على ذكره بعد انكسار العسكر في 1948، قيام المجلس النيابي السوري بتشكيل لجنة تحقيق نيابية في أوضاع وزارة الدفاع والجيش، برئاسة صبري العسلي، وكان مقرر اللجنة أكرم الحوراني. إن قراءة تقرير هذه اللجنة التي مَثَل أمامها وزير الدفاع وكبار موظفي الوزارة، ورئيس أركان الجيش وقادته جميعاً، كفيل بتعديل صيغة الحكم المُبرَم الذي وضعتْه حجر السرائر في شكل إعلان يُمهد لصدورها ونوّهتْ به في آخرها، وبالذي لا أملُّ من استعادته، وهو انكسار عسكر 1948 مع العدو وانتصارهم في الأوطان...ولكن على مَن؟
انتهز القارئان الشابان برهةً، صمتَ فيها القارئ العجوز الذي استرسل في بيان عورات حجر السرائر "التاريخية"، كما أسلفتُ منذ قليل، فقالا والدهشة بادية على ملامحهما: هل قلتَ لجنة تحقيق نيابية مع قيادة الجيش؟ كنا نظن أن تشكيل مثل هذه اللجان في منطقتنا لا يحدث إلا في "إسرائيل"؟
- سأعطيكما نسخةً مصورةً من التقرير، لا لشيء، إلا لتتعلما التفكير النقّاد أثناء قراءة الروايات التاريخية وغير التاريخية! قلت لهما.
استأذنتْ القارئةُ الشابة في إضافة هذه الملاحظة: قرأتُ ما قاله الروائي المعروف رشيد الضعيف في ندوة الرواية والحرب:" الهزيمة هي إعادة نظر الإنسان بنفسه، وهي لحظة لتأمل الأشياء ووضعها في سياقها"...فهل أعاد العسكر النظر بأنفسهم، وهل تأملوا ما جرى؟ تمنيتُ لو أن حجر السرائر اشتغلتْ على هذه الفكرة، مثل اشتغالها على ما في الشام من خُرافات أيام الانقلابات العسكرية. ولو أنها فعلتْ لكنا فهمنا – ربما- ونحن في مطلع القرن الحادي والعشرين بعض خفايا تاريخنا في منتصف القرن العشرين.
كتبَ المؤرج الإسرائيلي آفي شلايم في "الجدار الحديدي" عن مفاوضات الهدنة التي جرتْ بإشراف الأمم المتحدة بين سوريا وإسرائيل عام 1949 في جزيرة رودوس (التي شارك فيها بعض شخصيات حجر السرائر)..كتب هذه الجملة المعبّرة "وجدتْ سوريا نفسها في موقف عسكري متين، لكنها كانت تشكو من عدم الاستقرار الداخلي...".
كما كتب المقدم حسين الحكيم، الذي أصبح ملحقاً عسكرياً في المفوضية السورية في القاهرة في 1952- 1953، هذه الشهادة التي قالها اللواء محمد نجيب، أثناء استقباله للملحق العسكري السوري:" أنا معجب في جيشكم لأنه الوحيد الذي أحرز نصراً على الجيش الإسرائيلي، ولكن يا خسارة "...
ملحوظة ذات صلة بما قبلها:
تناولتْ حجرُ السرائر الانقلابات العسكرية في حوار بين نديدا وغزال، نفهم منه أن نديدا تدين الأحزاب التي تنادي بالانقلاب وعينها على العسكر، وأن شهوة السلطة تكاد تعمي الجميع، وتضيف إن المهم ألا يكون الجيش في البرلمان أو في القصر الجمهوري. فيقول لها غزال: أتاتورك كان عسكرياً أم لا؟ فترد نديدا: أتاتورك حوّل الهزيمة إلى انتصار، انتصر علينا وطارت اسكندرون من سوريا".
تفرض نفسها هنا ملاحظة مديدة، فالاسم "العربي" الصحيح "للسنجق"– اللواء- هو الاسكندرونة. ثم أنها حين طارت من سوريا كان أتاتورك في عداد الأموات. والأهم من هذا وذاك هي عائدية الضمير في انتصر علينا؟ كانت سوريا يومئذ تحتلها فرانسا، التي تعهدت أمام عصبة الأمم بالمحافظة على سلامة سوريا في حدود اتفاقية سايكس– بيكو، إلا أنها خانت وعدها وتنازل بعض حكامها تحت ضغوط متنوعة عن هذه القطعة من سوريا، لإغراء تركيا عشية الحرب العالمية الثانية في 1939 بالبقاء على الحياد وعدم الانضمام إلى ألمانيا كما فعلت في الحرب العالمية الأولى. صحيح أن بعض السياسيين السوريين في الحكومة قد تواطؤوا أو خضعوا لمشيئة تلك القوى، إلا أن هذا كله لا يسمح لرواية "تاريخانية" ببعث أتاتورك حياً وجعله ينتصر "علينا". كما أنه لا يعطي الأستاذة المحامية اللامعة نديدا الحقّ بالقول:" لا تجوز هنا المقارنة بين أتاتورك وبين قادة الانقلابات السورية، ومع ذلك ها هم أمامك، شلّيطا الأول وشلّيطا الثاني وشلّيطا الثالث حوّلوا الهزيمة في فلسطين إلى انتصار، ولكن على من؟".
يطيب لي استرجاع ما قاله أديب الشيشكلي- شلّيطا الثالث- بعد عودته من جيش الإنقاذ:" كل تضحياتنا ستذهب هدراً ولن تؤدي إلى نتيجة"، فهو كان يدرك حقيقة الأمر. كما انقل هذه الصورة لشلّيطا الثاني- سامي الحناوي- من الصفحة الثامنة والأربعين من كتاب المقدم حسين الحكيم (لعنة الانقلابات)، عند الهجوم لاحتلال مستعمرة مشمار هايردن (كعوَش):" لم أكن بعيداً عن مؤخرة قواتنا المهاجمة (فهو كان ضابط إشارة مسؤولاً عن تأمين الاتصال بين القوات)، وتقدمتُ إلى أقرب شجرة لأرى ما يحدث. كان جنودنا يقفزون من حفرة صغيرة إلى أخرى بسبب تساقط قنابل الهاون هنا وهناك ورأيتُ بينهم سامي الحناوي (هكذا كان اسمه قبل أن يصبح شلّيطا الثاني) منتصب القامة يتقدم على عكازه، كان ضخم الجثة لا ينحني أبداً وكان يصرخ تقدموا يا أولادي لا تخافوا...أخيراً تم احتلال التّل.."
ينبغي على الرواية إعطاء الشخصيات حقها قبل إصدار أحكام عمومية وعشوائية عليها. هكذا كان عسكر 1948: شلّيطا الثالث يتطوع للقتال في فلسطين، والثاني يقود جنوده تحت نيران العدو كما ينبغي للضابط، ونسامح حجر السرائر بالأول، لأسباب لا محلّ لها هنا.
لم أقرأ ولم أسمع في ما مضى كلمة من أي شلّيطا قديم توحي بأنه حوّلَ الهزيمة في فلسطين إلى انتصار. صحيح أن هؤلاء الثلاثة قد "انتصروا"- ربما- على الفنانين التشكيليين والموسيقيين والإعلاميين والشعراء في سوريا، باستثناء الروائيين القادرين على التغلب على الجاذبية بالمعنى الفيزيائي، لأنهم يمتطون صهوة "التخييل" الأقوى من الجاذبية، برغم أن هذا التخييل، قد يعني ركوب الخيل، ويمكن أن يتحول إلى عنطزة على ظهر التاريخ والجغرافيا والتعبئة والسَوْق أي التكتيك والاستراتيجية.
ثانياً، الحرب والسلاح
إشكالات تسليح الجيش السوري على ضوء ما جاء في الصفحة الثامنة والثمانين من حجر السرائر:
يُخيّل لي أن الروائي فضّل ألا يشغل بال القارئ "بالملابسات الدرامية" التي واكبتْ عملية تسليح الجيش السوري، قبل جولة 1948 وفي أثنائها وبعدها، أيكون مردّ هذا الموقف وقوع 1948 خارج النطاق الزماني للرواية المحدد في 1949 و1950؟ وأيا كانت أسباب قلة الاهتمام بمسألة المال والسلاح - وهما عصب الحرب- قديماً وحديثاً، فلستُ أفهم لماذا ضنّتْ الرواية على مسألة تسليح الجيش ولو بصفحة كاملة واحدة؟ حين أوقفتْ على المسألة عشرة أسطر من الصفحة الثامنة والثمانين، وذلك ضمن سياق رسم ملامح شخصية الضابط بدر الدين أتماز، "رئيس الشعبة الثانية" في تلك الأيام. مما يوحي بأن تعريفنا بشخصية ذلك الضابط، أكثر أهمية لأحجار السرائر من تسليح الجيش، مع أن هذه القضية كانت محركاً مهماً وراء "انكسار العسكر مع العدو وانتصارهم في الأوطان"، وهي لازمة الرواية Leitmotiv ومغزاها المعلَن. لست حريصاً على صورة أتماز في الرواية، لأنها بنت خيال الروائي، أمّا ما جاء عن تسليح الجيش فهذه سطوره العشرة حرفياً:
" عندما قرر قائد الجيش أن يصير رئيس جمهورية، أنا لا أقول الجنرال ولا المشير ولا المرحوم حسني الزعيم ولا شلّيطا ولا خلافه، شراء الأسلحة طار بدر الدين مع من طاروا إلى قبرص واشتروا الدبابات بالطن على عطلها. دبابات تركها الحلفاء في أرضها حتى تشرفنا في ليلة ما فيها ضوء وتبيت في مستودعات قطنا وفي مستودعات القابون. تمت صيانة 15 دبابة وسجلوها في السجلات الرسمية. والباقي؟ الباقي بقي في العراء: سلاسل السير والأبراج كلها مشلّعة. هنا لم أسمع من ابن آدم ولا من بنت حواء كلمة بحق بدر الدين. ما مِن أحد اتهمه أو أتّهم من كان معه بشراء هذه الخردة مقابل عمولة لا سمح الله. ولكن إذا كانت النية سليمة تبقى الجحشنة ويبقى الجهل واللامبالاة"....
لسْت اعرف إلى مَ استندتْ حجر السرائر بشأن دبابات قبرص، فالرواية ليست بحثاً جامعياً ينبغي له التنويه بالمصادر عند الاقتباس منها، وأنا أرجّح أن الروائي قد مزجّ دبابات قبرص بقصة غيرها كي لا يُقال إنه أفشى أسراراً عسكرية، ربما. والأمر الواضح أنه حاول إضفاء مسحة واقعية على مسألة هذه الصفقة، لأنه استقاها من مصدر ما، فهي ليست معروفة عند الرأي العام، على نقيض سفينة المقدم فؤاد مردم مما سيأتي ذكره عمّا قريب. غير أنني لم أفهم سبب إعماله "التخييل" في أرض غير صالحة لذلك.
حكاية دبابات قبرص
باختصار وبدون إعمال الخيال، رأيتُ إلقاء ضوء على هذه المحاولة التي جاءت مع غيرها في سياق إعداد الجيش السوري "للانكسار مع العدو والانتصار في الأوطان"....
من أجل إتقان "إعمال المخيلَة"، ينبغي دراسة الحدث والإلمام بتفاصيله الواقعية عبر نظرة "محايدة" أولاً. فإذا ألمّ – الروائي- بجوانب الموضوع كلها، أو بالملامح المهمة فيه، انتقل إلى رسم رؤيته الخاصة. (سألتُ نفسي عمّا إذا كنتُ أريد أن أكون معلّم كتابة روايات فأجابتْ بالنفي مما أشاع الطمأنينة في نفسي).
يبدو أن الرواية تريد أن تقول للقارئ: إن الضابط أتماز الذي تتحدث عنه كثيراً في صفحاتها، ليس فوق سوية الشبهات، وانه برغم مركزه الأمني المهم، يمكن أن يتقاضى عمولات كغيره من أبناء آدم، عليه السلام. ومع تأكيدي عدم معرفتي المصدر الذي استندتْ إليه الرواية، غير أنني بحثت عن الموضوع في مظانّه حيث أتوقع وجوده، وقرأتُ الحكاية الكاملة لهذه العملية في: "تقرير اللجنة النيابية التي شُكلت للتحقيق في أوضاع وزارة الدفاع والجيش السوري بعد 1948". ووجدتُ في التقرير مادة لو أنها نُقلتْ إلى الرواية، لكانت أدهشتْ القارئ فعلاً، حتى من الناحية "الفنية"، لأنها مرّت بمراحل عجيبة كفيلة بإضفاء جوّ غريب على الواقع الأغرب من الخيال كما يُقال. لو أن الرواية غامرتْ في هذه المسألة لخدمتْ الأجيال اللاحقة والسابقة والتاريخ، برغم كونها رواية لا تاريخية....
هل فكّرت الرواية في احتمال عودة قارئٍ ما إلى " وقائع" تلك الأيام، ليكتشف أن أحداً ما "من الذين طاروا إلى قبرص" لم يبرم صفقة شراء دبابات، "ولم يتقاض عمولات لشراء هذه الخردة...لا سمح الله." فالجهة "الوصائية" دوّنت على تقرير اللجنة بعد عودتها من قبرص "للحفظ"، وكان ذلك في السابع عشر من كانون الثاني 1948. ولمّا سأل رئيس اللجنة عن معنى الكلمة قيل له "للإهمال"...فكيف جاءت الرواية بالدبابات – على عطلها- من قبرص إلى مستودعات قطنا والقابون؟ بإعمال المخيلة طبعاً، لأنها لا تُسمّى رواية تاريخية إن لم تفعل. وهي بهذا حرمتْ نفسها – وقراءها- من مادة ممتعة، كانت ستجعلها تستحق نوعاً ما، هذا التنويه الذي جاء في تقديم الرواية:" من أنها تمتلك تلك الرؤية الشاملة والواضحة لمرحلة مهمة من تاريخ سوريا"...
تمنيتُ لو أن حجر السرائر أفردت فصلاً كاملاً من فصولها وأوقفتْه على ما جرى في سوريا من محاولات هدفها تسليح الجيش، وذلك من أجل استكمال "رؤيتها الشاملة" على الأقل، ولو تنازلتْ قليلاً عما يتصل "بالواضحة"، رؤيتها أعني. لربما كانت قد نقلتْ إلينا ما كان في المجلس النيابي من تيارات، وفي الحكومة، وفي قيادات الجيش، يعمل بعضها مخلصاً في هذا السبيل، انطلاقاً من الإمكانات المادية المتاحة، وظروف سوق السلاح في العالم. كما وُجد من كان يسعى إلى الربح من وسطاء، وأصدقائهم في مواقع المسؤولية، ومن كان يرى في شراء الأسلحة نوعاً من التبذير لا طائل تحته.
تكشف الوثائق محاولات جادة لشراء السلاح، انتهى بعضُها إلى نتائج مقبولة، وبعضُها الآخر إلى غير ذلك، أدّى فيها العنصر البشري- من سوريين وأجانب وإسرائيليين- أدواراً مهمة. تفيد قراءتها ربما الأجيال الجديدة، كي لا تقف معلوماتهم "التاريخية" عند ما تنقله وسائل الإعلام الحديثة فقط.
كان بوسع حجر السرائر إنْ لم تتمكن من اصطحابنا إلى دهاليز الصفقات، أن تأخذنا إلى إيطاليا لشراء طائرات فيات، وإلى سويسرا لشراء مدافع خفيفة مضادة للطائرات، وإلى تشيكوسلوفاكيا لشراء بواريد وذخائر...أو إلى صحراء مصر وليبيا لشراء عتاد متنوع، بعد أن تقرأ ما كتبه الذين كُلّفوا بمهام الشراء، لا قبل ذلك.
أما ما فوّتته الرواية على نفسها- بصفتها شاهدة على ذلك العصر- وعلى قرائها، فكانت مغامرة نقل الثمانين ألف بارودة وطلقاتها من تشيكوسلوفاكيا إلى إيطاليا، ثم إلى "إسرائيل". وهي "المغامرة" التي كان بطلها المقدم فؤاد مردم- ابن عم جميل مردم الوزير السابق ورئيس الوزراء- والتي "صدحتْ بها سوريا كلها وليس الشام وحدها". لان محكمة فعلية عادلة أُقيمت لمحاكمة "بطلها". ففي وثائق تلك المحكمة ما "يثير" أي قارئ مهما كان بليداً. بخاصةً بعد أن أفرجت إسرائيل عن بعض وثائقها المتصلة بالقضية، بعد مرور الزمن القانوني عليها، ونشرتها في كانون الثاني 1986 جريدة الأحرار المصرية نقلاً عن المصدر الإسرائيلي.
أمّا لماذا اكتفت ْ حجر السرائر بذريعة استكمال رسم شخصية الضابط الخطير أتماز لكي تُعرّج بنا على قبرص، المكان الذي لم يتم فيه شراء دبابات ولا بيعها، فهذا شأن داخلي من شؤون الرواية لا أسمح لنفسي بالتدخل فيه، لأن لكل رواية منطقها الذاتي.
إن من كان في مركز أتماز ليس بحاجة للطيران إلى أي مكان ليحصل على عمولة، لأنها تسعى إليه من حيث يدري ولا يدري، حتى ولو لم تكن هناك صفقات "شراء دبابات بالطن على عطلها". ولو أن الرواية أضافت إلى ما سبق كله، حكاية إرسال الضباط إلى البادية السورية لشراء أغلفة الطلقات الفارغة من البدو من أجل إعادة ملئها في رحبة التسليح، وحكاية رحلات ضباط آخرين إلى أرياف الساحل السوري وجباله ، بين طرطوس والحفة ومصياف وجسر الشغور، تلك الرحلات التي اصطحبني في بعضها زوج عمتي الملازم أول رضا استانبولي الذي كان يبحث حتى عن البواريد القديمة "العثمانية" لشرائها (كنتُ سعيداً لركوب سيارة جيب ويلّس القديمة مثل سعادة من يركبون اليوم سيارات B.M.W ذات الدفع الرباعي)...لو أنها أضافت ذلك، لغدا تخييلها مفيداً لاقترابه من الواقع...
لم تتضمن حجر السرائر لسبب ربما له صلة بمنطقها الذاتي، ذلك الفصلَ الذي تمنيته، والذي كان مرشحاً لإثارة انفعالاتي المتنوعة، من غضبٍ وحماسة وأسفٍ وغيرها...ولو فعلت لجعلت القارئ "يتفاعل" بالرواية التي يقرؤها- كما الوسائط التفاعلية في أنظمة المعلومات المعاصرة...وما نفع رواية- أو غيرها- لا تجعل قارئها منفعلاً لكي لا يكون متفاعلاً....بها أو معها؟ أما عارضَ سيلين الكتاب العتيق، قائلاً "في البدء كان الانفعال"...وما فائدة كلمة لا تثير الانفعال...كما تفادى علي الجندي هذا الجدَل وعنوَنَ ديوانه "في البدء كان الصمت" وهو أعمق أنواع الانفعال.
أي قارئ كان لا ينفعل لو ختمتْ حجرُ السرائر فصلَ تسليح العسكر لينكسروا مع العدو وينتصروا في الأوطان" بهذه الحكاية:" شهد العميد المتقاعد جورج محصَّل بأنه عندما كان برتبة ملازم في 1948 كُلف بالقيام بهجوم على مستعمرة يهودية مع اثنين وثلاثين جندياً، كان سبعة عشر منهم مسلحين ببواريد قديمة، أما الباقون فكانوا عزّلاً من السلاح".
يرسلون العسكر إلى الحرب عزلاً من السلاح، ويأتي روائيون ينعون عليهم انكسارهم مع العدو.... أليست هذه قمة الكوميديا السوداء...أي الرواية التاريخية في صيغة أخرى؟...
ثالثاً- أليستْ إسرائيل في خطرٍ من السلام؟
سرْبلَتْ حجرُ السرائر نفسَها بالبراءة المماثلة لبراءة نزار قباني في قصيدة أَيَظنَُ، لكي تزرع في وعي القارئ، أو في لا وَعيه، فكرةً أحاول، عبثاً، فهمَ دوافع الرواية من زرعها.
ففي الصفحتين التاسعة والسبعين والثمانين، وهما تختتمان الفصل الأول، رمانا الروائيُ بحجر ظاناً نفسَه بلا خطيئة، وهو ينعش ذاكرتنا الضعيفة ويمنح حسني الزعيم قائد أول انقلاب عسكري، براءة اختراع "الدولة اليهودية"....بالمعنى الذي يريده ناتنياهو وليبرمان في هذه الأيام. جاء ذلك في سياق قرار حسني الزعيم إضافة "الضابط سنان" في الرواية، إلى الوفد السوري الذي كان يفاوض الإسرائيليين حول اتفاقات الهدنة، بإشراف الأمم المتحدة في جزيرة رودوس. يقول الضابط سنان:".. قبل أن يقول لي أحد، لا رئيس الوفد ولا غيره، قال لي هو بنفسه، الرئيس قال لي بنفسه: أريد أن أكون أول حاكم عربي يُسالم الدولة اليهودية، ما قال إسرائيل. لاحظي قال الدولة اليهودية".
أستأذن هنا في سرد هذه الحكاية: منذ عدة أشهر أتاح لي الأستاذ جمال باروت قراءة الطبعة الفرنسية من كتاب مهم جدّاً نشره المؤرخ الإسرائيلي المعروف آفي شلايم، غير المرغوب فيه في إسرائيل. عنوان الكتاب "الجدار الحديدي" الذي يدحض مؤلفه مزاعمَ إسرائيل بأنها تسعى للسلام مع العرب منذ قيامها وإلى يومنا هذا. ولقد أفرد الكاتب صفحات للمفاوضات التي جرت بعد انتهاء جولة العام 1948 بينها وبين الدول العربية. وأوقف الصفحة السادسة والسبعين وما بعدها من كتابه على مفاوضات الهدنة بين سوريا وإسرائيل. قمتُ بترجمة هذه الصفحات لإضافتها إلى وثائق دراسة كنتُ أعدها عن قناعتي بأن إسرائيل في خطر من السلام أولاً. وحدّثتُ الأستاذ نبيل بهذا الشأن، وقال لي إن لديه مصادره أيضاً ولكنه يرحب بإضافة معلومات أخرى إليها. فأعطيته نسخة من الترجمة.
يُخيّل إلي، بعد قراءة حجر السرائر، أن صفحتها التاسعة والسبعين مدينة بأهم ما فيها لما كتبه آفي شلايم. ولستُ أرى ضرراً في الأمر لولا هذه الملاحظة التفصيلية. ذلك أن من يقرأ تلك الصفحة في حجر السرائر، يكوّن فكرةً تصم الزعيم "بالتهالك" على إغراء إسرائيل باقتراحات "استسلامية". والدليل قول الضابط سنان (لا الروائي شخصياً، لكي لا يخرج لي ناقدٌ أكاديمي شاهراً أدواته...النقدية طبعاً، مستنكراً تحميل الروائي وِزرَ أقوال شخصياته الروائية). أعود إلى "ملاحظتي" لأن حسني الزعيم ليس هو المتكلم بل آفي شلايم الذي كان ينقل عن التقارير الدبلوماسية أو عن مصادره الأخرى. وإذا أضفنا إلى هذا التجاهل، توكيد- الضابط سنان- "لاحظي، ما قال إسرائيل قال الدولة اليهودية"، تصبح مسؤولية القائل مضاعفة، حيث يصبح الكلام اتهاماً وتعريضاً. برغم كل شيء، ليس في نيتي الدفاع عن "شلّيطا الأول"، بل التوقف عند رؤية الرواية لتلك المرحلة لتاريخ سوريا.
لن أملّ من ترداد ما جاء في تقديم الرواية من أننا "نتلمس لديه- لدى الروائي طبعاً- تلك الرؤية الشاملة والواضحة، لمرحلة مهمة من تاريخ سوريا، والتي بدأت مع الانقلاب الأول...إضافة إلى البعد الواقعي التاريخي لشخصيات كانت ذات يوم موجودة بين الناس ومؤثرة غاية التأثير في سير حركة التاريخ في القطر العربي السوري..."
لا يلوم الروائي إلا هذا التقديم إذا مال قارئ ما- كثير الفضول- إلى مضاهاة الشخصيات الحقيقية المُسمّاة في الرواية بما عُرفَ عنها في الواقع...بخاصة وأن ما قيل صدر عن الناشر الذي يعرف فحوى ما نُشر، برغم ميلي إلى ما يضعفُ ذلك.
لن أستسلم إلى رغبتي في إلقاء محاضرة، قد تكون مملّة، في شرح الإستراتيجية الصهيونية التي كثيراً ما تنجح في جعل خصومها يتحركون ضمن حدود ملعبها. ذلك أن روايات عربية كثيرة تمارس فن "التّعامي" لأسباب فلسفية. لكنني أمام رواية تتمتع برؤية شاملة وواضحة لتلك المرحلة، وأرى من واجبي مدّ يد العون إليها من اجل زيادة وضوح الصورة، وما ذلك إلا من اجل القارئة والقارئ – الشابين- فالقارئ العجوز لم يعد يهمّني كثيراً.
أسارع إلى القول إن حجر السرائر في نظرتها إلى موقف حسني الزعيم من مسألة السلام مع "الدولة اليهودية" كانت رحيمة به، بمضاهاتها مع ما كشفتْهُ مذكرات سياسيين سوريين مهمّين جدّاً في هذه المسألة بالذات، من قصور رؤيا تاريخي عن فهم حقيقة إستراتيجية إسرائيل والمشروع الصهيوني الفسيح في المنطقة. غير أن مكان شرحها ليس هنا. وهذه نقطة إيجابية تُحسب لها بصفتها رواية على الأقل، وليست مذكرات تاريخية.
عرضَ حسني الزعيم إرساء سلام دائم على أساس مرور خط الحدود الدولية في منتصف بحيرة طبريا، واستقبال مئتي ألف فلسطيني بالإضافة إلى المائة ألف الذين كانوا قد لجؤوا إلى سوريا. كما اقترح الاجتماع مع كبار المسؤولين الإسرائيليين. ولكن آفيغدورغرين (المتنكر خلف اسم داوود بن غوريون) رفض الفكرة من أساسها، لا لشيء إلا لأنه كان يعرف حقيقة المشروع الصهيوني، ويثق بأن السلام يعني نهاية "الدولة اليهودية" التي أخذتْ حجر السرائر على الزعيم استعماله هذه التسمية لها برغم من أن صاحبها هو المؤرخ الإسرائيلي لا شلّيطا السوري.
سخرت حجر السرائر من حسني الزعيم وموقفه من السلام، فكانت سخرية الأعشى من المبصر:
"لا، لا سنعود إلى الحدود القديمة بدلاً من حدود وقف إطلاق النار. بن غوريون اسمعني أريد لقاء منفرداً بك. لكن بن غوريون رفض..." (ص79)
لستُ ألوم روايةً ... تاريخية على قصورها في إلقاء نظرة موضوعية "شاملة وواضحة" على مرحلة مهمة من تاريخنا المعاصر، لأن مَن كان واجبه من السياسيين فهم المرحلة لم يفهمها على حقيقتها.
لكن المؤسف أن لا تدرك "رواية " كُتبت بعد عشرات السنين من تلك الأحداث، انكشف فيها غوامض كثيرة من أهمها رفض إسرائيل القاطع "السلام" مع العرب، أن لا تدرك حقائق الأمور. ما كان حسني الزعيم ينطلق من "نبوغه" السياسي عندما عرض السلام الكامل، بل من نصيحة خبراء ودبلوماسيين أمريكيين وفرنسيين كانوا مهتمين بمصالح دولهم، وأولها إرساء سلام في منطقة النفط، آباراً وخطوط أنابيب ومرافئ تصدير ومصافٍ مهمة جدّاً. وكانت عين المشروع الصهيوني على التوسع وعلى استنزاف المجتمعات العربية. كان أفيغدور غرين يهيئ لاحتلال سفوح جبل الشيخ حيث خزّان الماء، وينابيعه ذات الأهمية الإستراتيجية، التي عرّج عليها مؤلف حجر السرائر في رواية له نُشرتْ منذ سنوات، لذلك هالني استسهاله تناول هذا الشأن الخطير، وانسياقه وراء "تخوين" حسني الزعيم فقط، مبتكر صيغة الدولة اليهودية، والمتهالك على الاستسلام إلى السيد غرين. ولما كانت حجر السرائر لا تعرف ربما، أن الشيشكلي قد قدّم العرض نفسه للسلام (قد يكون بتأثير الخبراء أنفسهم)، وأن إسرائيل رفضَت أي سلام لا يعطيها أكثر مما تحتاجه، فإن الرواية اكتفتْ بوصف "الأخ العارف العقيد أديب الشيشكلي الفائق الاحترام حامي الماسونية السورية العربية؟" (ص 229). لن أحاول هنا وضع بعض النقاط على ما ينبغي من حروف، لأنني تركتها للقسم الذي يعالج المسكوت عنه في حجر السرائر، ولكنني لن أحرم نفسي متعة توجيه هذا السؤال إلى من يهمّه الأمر: ماذا لو أن كلمة ماسوني التي لا تعني إلا صفة يكتنفها الغموض في أذهان أكثرية الناس، ماذا لو كتبتْها الرواية بمعناها الحقيقي- البنّاء الحر Franc-Maçon، هل كان هذا يغيّر شيئاً؟ أو لو أنها كتبتْها "فرمسون" كما يكتبها أكثر من كاتب أو صحافي. يبدو لي أن أنها ظنّت الكلمة شتيمة، فأطلقتْها من اجل وضع الرجل في دائرة الشبهة الغامضة فحسب، لأنها لم تفسر لنا ماذا فعل الشيشكلي بماسونيته ولا ماذا فعلتْ هي به.
لستُ أعترض على حرية كل شخص في اتخاذ موقف معين من الأحداث، ولا على حقه في "تقويل" الحادثة أو "تأويلها" كما يريد. إلا أنني أود بيان تأويلي الخاص وإضافته إلى ما يُقال أو يُكتب. فأنا أرى في الصفحة التاسعة والسبعين من حجر السرائر ثغرةً لم تخدم "حكمة الرواية" بصورة عامة. ذلك أن السخرية المجانية من قائد الانقلاب الأول- الذي هتفتْ له جماهير غفيرة كما يعرف من كانوا في سوريا يومئذ- والتعريض بموقفه إلى حدود التخوين، أراهما في غير مصلحة الرواية لأنهما يرتبطان بسويتها. كنتُ أتمنى توظيف موقف "شلّيطا الأول" الباحث عن السلام من أجل إدانة موقف أفيغدور غرين، لا لشيء، إلا لتلقين الأجيال الحديثة دروساً في جوهر مهمة المشروع الصهيوني في بلادنا. ألا تقوم السياسة السورية، اليوم، على مبدأ خيار السلام العادل والشامل؟
أنفقت سوريا بين 1946 و1956 مليار ليرة سورية بأسعار تلك الأيام على تسليح الجيش. ولو أُنفق نصف هذا المبلغ- لماذا ليس كله؟ -على التعليم والصحة والبُنى التحتية والزراعة والصناعة، أما كان شعبنا اليوم قد جنى ثمار ذلك الإنفاق؟ نكتشف بمرور الزمن أن "رئيسنا المفدّى" حسني الزعيم، كما تهكمت عليه حجر السرائر، دون أن ننسى تسميته "شلّيطا الأول"، كان ملهماً بما في الكلمة من معنى مباشر وغير مباشر، عندما أراد صنع السلام يومئذ، فهو كان يعرف أن الغرب الذي أقام إسرائيل ليتخلّص من بعض أوزاره لن يسمح "بإزالتها" أو بالتضييق عليها كثيراً....هل أصبحت إزالتها اليوم متاحة في المدى المنظور؟ فأراد تهيئة بيئة جديدة تنمو فيها الأجيال الصاعدة، لكنه أُعدم، بسبب ذلك ربما؟
أعود إلى العذر الذي وجدتُه لأحجار السرائر في موقفها – غير الناضج- من مسألة خطيرة، وأقرأ مذكرات أكثر سياسينا وضباطنا أهمية، فأجد التفكير نفسه، التخوين أولاً وأخيراً خدمة للمصالح السياسية الضيقة، وحشد للجماهير التي تسوقها عواطفها.
تكمن حكمة الرواية في كونها تهتم جدّا بنزاهتها الفكرية، أو هكذا ينبغي لها، كما فهمتُ من نص للأستاذ الفرنسي هنري جودار، جاء في كتابه "سيلين الفضيحة": "النزاهة" مفهوم أخلاقي يُلمس في السلوك المادي... أما النزاهة الفكرية فهي مفهوم معرفي - إذا جاز القول- قد تتجلّى في الموقف من "الثقافة" ومن العالم...هذه مسألة تستحق التفكير بها.
ملحوظة ذات صلة بما قبلها
يعرف "روائي" حجر السرائر بلا ريب من هو صاحب شعار "السلام خيارنا الاستراتيجي". ذلك أن عُمر هذا الشعار تجاوز الثلاثين عامَاً. وبهذه المناسبة أود نقل هذا الجزء من حديث رئيس الجمهورية العربية السورية إلى صحيفة "وول ستريت جورنال" كما نقلته السفير اللبنانية في الأول من شباط 2011:
" سؤال: أين ترى عملية السلام؟ هل تبدو ميتة؟
جواب: لا ليست ميتة لأنه ليس لديك خيار آخر. إذا أردتَ التحدث عن عملية السلام الميتة، فهذا يعني أن على كل شخص أن يستعد لحرب مقبلة، وهذا أمر ليس في مصلحتنا أو مصلحة المنطقة ككل (..........) علينا الإيمان بأن السلام فقط هو الذي يساعدنا"
هل سوف يأتي روائي سوري في النصف الثاني من القرن الواحد والعشرين فيدين رؤية رئيس الجمهورية كما دانت حجرُ السرائر رؤية "رئيس سوريا" في منتصف القرن العشرين؟ أتمنى فعلاً أن يتحلّى روائيو المستقبل بقليل من وضوح الرؤيا، لا الرؤية (بالفرنسية Lucide وتعني: المتمكن من مَلَكاته الفكرية كاملة. الثاقب الفكر. البصير والبعيد النظر....).
* مقالة نقدية من (51) صفحة مخصصة لنقد رواية نبيل سليمان الجديدة «حجر السرائر» ننشرها على حلقات
إضافة تعليق جديد