مستقبل النزعة الاستقلالية في السياسة الفرنسية والصراع مع واشنطن (2)
الجمل: تمثل فرنسا على أساس الدور والمكانة المرتبة الرابعة عالمياً في تراتبية تسلسل هرم القوى الدولية بعد الولايات المتحدة وروسيا والصين، هذا ومن المعروف أن فرنسا من البلدان الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي وبالتالي فهي تتمتع بحق النقض (الفيتو) لمنع صدور قرارات المجلس التي لا توافق عليها فرنسا.
* أهمية السياسة الخارجية الفرنسية: الأبعاد القارية:
يمتد نطاق السياسة الخارجية الفرنسية بشكل يغطي كل قارات وبلدان العالم، وتتميز هذه السياسة بأهميتها ودورها الوظيفي الشديد الحساسية لجهة كافة التطورات والوقائع والأحداث المتعلقة بقضايا الاستقرار والأمن، هذا ويمكن الإشارة إلى الأبعاد القارية للسياسة الخارجية الفرنسية على النحو الآتي:
• القارة الأوروبية: تعتبر فرنسا قوة رئيسية لجهة خمسة عوامل تتمثل في الآتي:
- حجم فرنسا الكبير بالنسبة لرقعة القارة الأوروبية.
- موقع فرنسا الجيو-ستراتيجي الهام بالنسبة للقارة الأوروبية لجهة الجوار الإقليمي الذي يربطها مع معظم بلدان غرب أوروبا: إسبانيا، إيطاليا، ألمانيا، سويسرا، وعبر بحر المانش مع بريطانيا.
- قوة الاقتصاد الفرنسي وتأثيره المالي والتجاري على المعاملات والأسواق المالية والعلاقات الاقتصادية البينية الأوروبية.
- عضوية فرنسا الراسخة في الاتحاد الأوروبي ونفوذها المؤسساتي القائد للاتحاد.
- القوة العسكرية الفرنسية التي تمثل القوة الأولى المتفوقة في القارة الأوروبية واستعداد فرنسا الدائم لجهة حماية الأمن الأوروبي.
هذا وترتبط فرنسا أوروبيا بعلاقات تعاون مع كل من ألمانيا وإسبانيا ومعظم البلدان الأوروبية ما عدا بريطانيا التي يسود التوتر علاقاتها مع فرنسا بسبب ارتباطها الشديد بالولايات المتحدة الأمريكية ومعارضتها المتزايدة للنزعات الاستقلالية الأوروبية التي تتبناها السياسة الفرنسية.
• القارة الإفريقية: وتأتي في المرتبة الثانية من حيث الأهمية بالنسبة لفرنسا وترتبط أهمية القارة بالإرث الاستعماري الفرنسي فيها، حيث كانت فرنسا تسيطر على معظم بلدان وسط وغرب وشمال إفريقيا على النحو الذي ما زالت فيه هذه البلدان مرتبطة اقتصادياً وسياسياً وثقافياً بفرنسا.
• القارة الآسيوية: لا ترتبط فرنسا بعلاقات سياسية قوية في الوقت الحالي مع البلدان الآسيوية وبرغم ذلك، فإن العلاقات التجارية بين فرنسا وبلدان آسيا وعلى وجه الخصوص الصين وبلدان تكتل آسيان واليابان ما تزال تشهد تطوراً متزايداً. أما بالنسبة لبلدان غرب آسيا، الموجودة شرق المتوسط فإن فرنسا أكثر ارتباطاُ بسوريا ولبنان ولكان بالنسبة للعلاقات مع تركيا فإن التوترات ما تزال قائمة على خط باريس – أنقرة بسبب إرث الارتباط التركي التاريخي المعاصر بواشنطن وبالسياسة الأمريكية وقد توترت العلاقات بقدر أكبر بفضل سلبية فرنسا إزاء ملف انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي.
• أمريكا اللاتينية: تعتبر فرنسا شديدة الارتباط بمستعمراتها السابقة في غيانا الفرنسية إضافة إلى بعض جزر الكاريبي الناطقة بالفرنسية مثل هاييتي وغيرها وإضافة لذلك، توجد علاقات اقتصادية وتجارية فرنسية قوية مع البرازيل والأرجنتين وفنزويلا.
• أمريكا الشمالية: برغم الروابط المعلنة على خط باريس – واشنطن فإن التوترات الكامنة بين الولايات المتحدة وفرنسا تظهر إلى السطح بشكل متقطع وعلى وجه الخصوص حول القضايا المتعلقة بالآتي:
- ملف العلاقات الأوروبية – الأمريكية.
- ملف التدخل الأمريكي في القارة الإفريقية وعلى وجه الخصوص في الدولة الحليفة لفرنسا مثل ساحل العاج والسنغال والكاميرون وتشاد ومالي وغيرها.
- ملف الضغوط الأمريكية على فرنسا لتتعاون مع الولايات المتحدة في ملفات مجلس الأمن الدولي.
أما بالنسبة لكندا فإن التوترات على خط مونتريال – باريس تظهر بشكل واضح بين الحين والآخر وعلى وجه الخصوص في القضايا المتعلقة بحلف الناتو وبإقليم كيبيك الكندي الناطق بالفرنسية.
* السياسة الخارجية الفرنسية والصراعات الدولية والإقليمية:
ترددت فرنسا كثيراً إزاء المشاركة في ملف الحرب على الإرهاب وعلى وجه الخصوص حرب أفغانستان والعراق ولكنها اشتركت لاحقاً على أساس اعتبارات الأمر الواقع وحالياً برغم التعاون الفرنسي – الأمريكي فإن موقف باريس أخذ طابعاً أكثر خصوصية من موقف واشنطن:
• إزاء الصراع العربي – الإسرائيلي: بدت باريس أكثر انفتاحاً لإنجاز صفقة السلام في الشرق الأوسط وبمنظور يختلف نسبياً عن منظور محور تل أبيب – واشنطن وحالياً تؤيد باريس المحادثات السورية – الإسرائيلية غير المباشرة التي ترعاها تركيا وبرغم معارضة واشنطن لهذه المحادثات.
• إزاء الصراع القوقازي: تقود فرنسا مبادرة لحل الخلافات بين جورجيا وروسيا من جهة ومن الجهة الأخرى تتبنى موقفاً معارضاً داخل الاتحاد الأوروبي للطرح الأمريكي المطالب بفرض عقوبات أوروبية على روسيا.
• إزاء الملف النووي الإيراني: أصبحت فرنسا في الوقت الحالي أقل انفتاحاً للحل العسكري وأكثر انفتاحاً للحل الدبلوماسي لأزمة الملف النووي الإيراني.
• إزاء الصراعات الإفريقية: تتبنى فرنسا حالياً بعض المواقف التي تنسجم مع توجهات واشنطن من جهة وتختلف عنها من الجهة الأخرى، وبكلمات أخرى تقف باريس مع ضرورة تبني التوجهات الهادفة لإيجاد الحلول السياسية للنزاعات الإفريقية ورفض التدخل العسكري الذي تحاول أمريكا الدفع من أجله وتشير التسريبات إلى أن الدبلوماسية الفرنسية قد لعبت دوراً كبيراً في دفع معظم القادة الأفارقة إلى رفض فكرة استضافة مقرات القيادة الإفريقية الأمريكية في بلدانهم.
عموماً، تشير التوقعات إلى أن التفاهمات على خط باريس – دمشق والتفاهمات على خط دمشق – أنقرة ستؤدي إن مضت الأمور على ما يرام إلى تكوين مثلث دبلوماسي، حيث سيتوقف الأمر على مدى قدرة أنقرة على التجاوب مع باريس بدلاً من التمسك بملف الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي كمعيار للعلاقة الحقيقية مع فرنسا على خلفية مشروع مبادرة الاتحاد من أجل المتوسط التي لو تحقق نجاحها فإن محور دمشق – باريس – أنقرة سيلعب دوراً تاريخياً رائداً في السيطرة على أهم منطقة في العالم وهي المجال الحيوي الذي يتكون من شرق المتوسط ومناطق القوقاز والبلقان والشرق الأدنى.
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد