عن سؤال «بي بي سي» وشتيمة ياسر عبد ربه
مناخ مسموم تشيعه حروب السياسة والسياسيين على شاشات الفضائيات، مناخ تؤججه بؤر التوتر في العراق وفلسطين ولبنان، فتحوّل البرامج الإخبارية والسياسية وبرامج «التوك شو» إلى نوع من الردح، شيء أقرب إلى العصاب إذا أردنا الدقة. يستوي في ذلك أمراء حروب سابقون وميليشياويون ودبلوماسيون، ربما كنا لنقبل الصراخ والتذمر من مواطن خرج للتو من مذبحة ليواجه الكاميرا ودمها البارد، ولكن يصعب أن نتقبّل من دبلوماسيّ رفيع المستوى أن يردّ سؤال المذيع بشتيمة مقذعة، في وقت يخضع فيه دبلوماسيو العالم المتحضر إلى دروس في أصول التعاطي مع الإعلام.
مناسبة الحديث هذا هو عودة تداول «الواقعة» بين الزميل محمود مراد من «بي بي سي» العربية وعضو اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عبد ربه، كمادة دسمة على المنتديات ومواقع الانترنت مثل «يوتيوب»، في استعادة قديمة جديدة للحدث.
لم يكن سؤال الزميل مراد ليستحق شتيمة ياسر عبد ربه، ولو أن في السؤال خطأ ليس من عادة المحطة الإخبارية، التي تنحدر من أصول إعلامية عريقة، أن ترتكبه. سأل مراد: «من هو عدوكم في السلطة الفلسطينية، إسرائيل أم حركة حماس؟»، واستطرد ليشرح: «إسرائيل، وعلى لسان وزير دفاعها، تقول أن لا سلام قريباً مع الفلسطينيين، وأنتم تصّرون على التفاوض معها، بينما ترفضون في الوقت ذاته أي تفاوض أو حوار مع حركة حماس».
لم يكن السؤال سؤالاً على وجه الدقة، إنه نوع من الجواب؛ هل يتوقع الزميل مراد أن يقوم ضيفه بالاختيار بين إسرائيل وحماس؟ في السؤال أيضاً شيء من الاتهام: إنكم تلهثون وراء الاسرائيليين الذين لا يريدونكم، وترفضون لقاء إخوتكم في الوطن. إنه نوع من الحسم أيضاً، فالجدل يكاد لا ينتهي حول الاتهامات المتبادلة بين طرفي «فتح» و«حماس» ومن منهم يعطّل الحوار ولا يريده، فكيف قرّر المذيع أن السلطة هي من يرفض الحوار مع «حماس»، هو الذي ينبغي أن يقف على الحياد ليسمع من الطرفين، أو لينقل لمشاهديه وجهة نظر الطرفين.
عبد ربه سمع السؤال حتى النهاية، ثم قال للمذيع بهدوء: «اسمع، ألو؟ (كأنما أراد أن يتأكد من وجود المذيع على الخط، ومن وصول الشتيمة)، أنا مش حَ أكلمك لأن السؤال الذي قدمته وقح ورخيص، وأنت وقح ورخيص أيضاً». كرّر عبد ربه عبارته ثلاث مرات، فيما المذيع مذهول يدفع عن نفسه الشتيمة برجاء أن يحفظ الضيف لسانه.
إن خطأ السؤال لا يبرر لعبد ربه هذا الهجوم، وكان بإمكانه، وهو المتمرس بالحوار أن يُفهِم مضيفه استياءه من سؤاله، وأن يبيّن خطأ السؤال، ويترفع في النهاية عن كلام صغير كالذي قاله. لكن بطل «وثيقة جنيف»، داعية السلام الشجاع، لا يتورع عن أن يفتح حرباً صغيرة على مذيع تلفزيوني، وفي النهاية في وجه محطة تلفزيونية تفرد مساحة كبيرة لمناقشة قضيته ومتابعة أدق تفاصيلها. لكن من سوء حظ الإعلام أن يكون هو الآخر واحداً من ضحايا الحرب، والشواهد كثيرة؛ قتل وخطف واعتداء على الصحافيين، وإغلاق مكاتب لمحطات تلفزيونية، هل ضاق الفلسطينيون بالإعلام إلى هذا الحد؟
إن جواب عبد ربه لم يكن في مكانه أبداً، ولعله أراد أن يزايد قليلاً في موقفه، ليقول للناس إن من نافل القول إن «حماس» ليست عدواً. وصلت الفكرة للناس، ومعها وصل وجه يصعب فهمه عند أبناء حركات التحرر في التعامل مع الحياة، شيء ليس أقل من العصاب.
راشد عيسى
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد