رقص معاصر في دمشق
في العقد الأخير من القرن العشرين ازداد اهتمام المسرحيين السوريين بما تعكسه لغة الجسد من دلالات، ومع نهاية القرن بدأت تظهر في دمشق أولى فرق المسرح الراقص، وفي العام الماضي شهدت دمشق انطلاقة أول ملتقى للرقص المعاصر كتظاهرة فنية سنوية جديدة من نوعها تُعنى بمختلف تيارات الأداء الحركي الحديث، قام بتنظيمها تجمّع "تنوين" ضمن إطار سلسلة مهرجانات شبكة مساحات الإقليمية للرقص. هذا العام تنعقد فعاليات الدورة الثانية للملتقى ما بين 20 و29 نيسان الجاري بمشاركة سبع فرق أجنبية وسورية وبالتعاون مع دار الأسد للثقافة والفنون.
حسب معطيات نشرة الملتقى "تنوين" هو أحد التجمّعات الأهلية، أسسته الكوريغراف مي سعيفان العام الفائت، وهو يضم نخبة من اختصاصيي المسرح وفنون الأداء الحركي، ويهتم بمختلف أجناس الرقص المسرحي الأكاديمي المحترف بدءاً من الباليه حتى المسرح الراقص الحديث. كما يعمل هذا التجمّع الفتي على تطوير حركة الرقص في سوريا من خلال إقامة ورش عمل وجلسات مشاهدة وحوارات حول مدارس الرقص المسرحي الأكاديمي، واستقطاب جميع الفنانين المحترفين الراغبين في خوض تجارب الرقص المعاصر أو الدخول في مشاريع فنية قائمة على تزاوج أنواع مختلفة من فنون الرقص والمسرح، إضافةً إلى تشكيل فرقة رقص تابعة للتجمّع تعمل وفق اتجاهاته المعلنة.
وتجمّع "تنوين" لا يعمل على المستوى المحلي فقط. إنه جزء من مشروع إقليمي أوسع، كان قد انطلق في العام 2007 تحت اسم "شبكة مساحات للرقص المعاصر" جراء لقاء الفرقة اللبنانية "مقامات للمسرح الراقص" بإدارة عمر راجح، والفرقة الفلسطينية "سرية رام الله الأولى" بإدارة خالد عليان، ومن ثمة "المركز الأردني الوطني للثقافة والفنون الأدائية" بإدارة رانيا قمحاوي، والشبكة تسعى إلى تطوير حركة الرقص المعاصر في المنطقة من خلال برامج تبادل ثقافية ومشاريع مشتركة، كما تسعى إلى تأسيس جمعية للراقصين والكوريوغرافيين العرب.
عروض الرقص
تتوزع يوميات "ملتقى دمشق للرقص المعاصر" في دورته الثانية ما بين عروض الرقص الحية والأفلام السينمائية الراقصة والحوارات المفتوحة مع الفنانين وورشات العمل والمحاضرات، بحيث يوفّر الملتقى مادة غنية على المستويين النظري والعملي لجمهوره من المختصين والمهتمين على حد سواء. ويشمل برنامج العروض الحية باقة منوعة من التجارب المتباينة في مجال الرقص، بدءاً من العروض المبنية على الحركة كقاعدة أساسية للعرض، مروراً بالعروض الراقصة ذات البناء الدرامي المسرحي، وصولاً إلى العروض المغرقة في الرمزية والتجريد، حيث افتتح الملتقى فعالياته مع عرض "تسفاي لاند-أرض الاثنين" للفرقة الألمانية الشهيرة (ساشا فالس) التي تأسست في برلين في العام 1993، ويدور العرض حول الاشكالات العديدة التي تقلق الشباب الألماني في بداية الألفية الجديدة من خلال عيون أبناء جيل الوحدة بين شطري ألمانيا.
وتقدّم فرقة "آلتا رياليتات" الإسبانية عرضها "أوليليس" المأخوذ عن رواية "جمرات" للكاتب الهنغاري ساندور ميراي، من تصميم الراقص الشهير ومدير الفرقة جوردي كورتيس بالاشتراك مع داميان مونوز، والعرض عبارة عن مواجهة ثنائية تدور حول فكرة الزمن والحب والفقد، وتتميز بشعرية الأداء تارة وعنف الحركة تارة أخرى.
العرض الثالث "بافلوفا 3,23" للكوريغراف الفرنسية ماتيلد مونييه، مأخوذ عن "موت البجعة" لآنا بافلوفا في رؤية معاصرة تستلهم نهج ما بعد الحداثة في فهمها للماضي وحركتها الدائرية، حيث تتحول الرقصة المنفردة الشهيرة إلى رقصة جماعية ذات طابع جمالي خاص.
وتشارك الفرقة السويسرية "لينغا" بعرض "لا شيء" من تصميم مؤسسي الفرقة كاتارزينا جانيك وماركو كانتالوبا، ويبدأ العمل بطرح السؤال حول إن كان ما زال في امكان جمالية الإيماءة أن تحرّض العواطف في مجتمع مهووس بامتهان الجسد، من خلال التركيز على الرقص بحد ذاته لتقديم تعبيرات جسدية تتصف بالحنان والقوة، وهو الأسلوب الذي يميز الفرقة.
وفي سياق المشاركة السورية يعرض الكوريغراف إياس المقداد "عزلة" في محاولة لتقديم عرض رقص تفاعلي معاصر، يحكي عن العزلة الروحية من خلال رقص ارتجالي (أي غير منسق كحركة قبل العرض) مصاحب لموسيقى معدّة مسبقا مع كاميرا تلتقط حركات الراقص، وتعرضها على شاشة في عمق المسرح.
وتقدم فرقة "سمة" السورية عرضها "تركيب" وهو عبارة عن مجموعة من اللوحات التعبيرية الراقصة صمّمها وأخرجها الكوريغراف علاء كريميد باستناده إلى مقطوعات موسيقية للفنان ظافر يوسف.
الفعاليات الموازية
بالتوازي مع البرنامج السابق تشهد يوميات الملتقى عروضا لعدد من أفلام الـ "فيديو دانس- video dance"، يعقبها لقاء وورشة عمل مع الخبيرة البريطانية ليز آغيس لتسليط الضوء على مدى انفتاح الرقص المعاصر على أشكال الفنون الأخرى كافة لا سيما السينما.
وبالتعاون مع معهد غوته في دمشق يخصّص الملتقى يوماً كاملاً كتحية لذكرى مصممة الرقص الألمانية الراحلة بينا باوش، حيث تُقدّم عروضا مسجلة لمؤسسة المسرح الراقص، وعددا من أهم الأفلام الوثائقية عن باوش ومعها في محاولة لاكتشاف الإرث الشعري الجسدي والتعبيري الذي تركته هذه الفنانة العالمية منذ نهاية الستينيات وحتى رحيلها المفاجئ العام الماضي، وفي هذا السياق يُعرض فيلم "قهوة مولر" الذي يعد واحداً من روائع العروض الراقصة المصوّرة للسينما، والذي أخرجته وصممته باوش في العام 1978.
ولا شك في أن "ملتقى الرقص المعاصر" حمل لجمهوره متعا راقية من نوع خاص، ووسع من أفق الرؤية لفنون الأداء الحركي وتوظيفاتها المتباينة، لكن السؤال يظل عالقا حول غياب الفرق العربية عن دائرة الفعاليات باعتبار أنها ميدان عمل الملتقى الأساسي.
تهامة الجندي
المصدر: الكفاح العربي
إضافة تعليق جديد