للفن إسمان فقط ..مغير ومتغير
((الفن دوما مؤرخُ لحياة الشعوب ، دون أن يكون مجرد تدوين للأحداث ،بل سيرة ذاتية للروح في مشاعرها ومواقفها الإنسانية ، وما تفاصيل المكان والزمان غير إطار لا أكثر )) ألبير كامو.
ومن هنا انطلق من غمرة الأحداث الكبيرة التي تشهدها ويشهدها مسرح حياة الشعوب وخاصة العربية، وما تحمله وجدانياتهم من تفاعلات وانفعالات ترسم الملامح الأولية لوجه التاريخ المعاصر ،ومن صلب الحدث سأركز على الفرد المحور فيها و أخص بالذكر منهم الفرد الفاعل الفنان ، الذي هو الممثل الرئيسي على هذه الخشبة إلى جانب الأفراد أخوته في المضمار ، والذي ينطلق من قلب الحدث حاملا باقته الحسية مستقطرا دم المعاني الإنسانية ، مرتجلا إيقاعا صريحا لأوقات مميزة لا تتكرر البتة ، مجسدا عملا يخدم النفوس ويلامس دقات القلوب ،ويترجم هيجان الأفكار وصيرورة المشهد ، محاولا تطوير محتويات الرؤوس من مكنونات ومسلمات جاهزة مسبقا، نتيجة للإرث الثقافي والديني والاجتماعي والسلطوي الحاكم لها ، حيث يعمل على إعادة قولبتها بجانب جمالي ، مسميا الأشياء بمسمياتها الاسقاطية الواضحة أو الرمزية ، مستخلصا رؤيته التحديثية من قلب معاناة الشعوب ، ليشكل نتاجا فنيا ثوريا يضاف إلى مكتبة التاريخ كرصيد فعلي أزلي إلى جانب الرصيد الواقعي الذي أنتجته التصارعات والمناهضات و والحروب والحركات الشعبية الثورية أيا كانت صفتها .
فالفنان الحقيقي مسكون دوما في التغيرات ، لا ساكن فيها ، أيا كان ممثلا شاعرا قاصا رساما كاتبا سينمائيا و كل ما يندرج تحت مسميات الفن بتعريفه الواعي ، فهو القادر على التهام الوجود ومكنوناته واجتزائاته وآلامه، مخمرا تلك المعاناة و الابتهالات والاحتياجات التراكمية لأبناء جيله مستلهما منهم موضوعاته ، معالجا لها، مقدمها ثمرة جمالية وفكرية لمتلقيه الحاضرين في زمنه وبعد زمنه أيضا ، فهو العنصر الحركي و الحراكي الذي يجلس فاعلا على مائدة مسيرة النهضة الفكرية والثقافية والعمرانية والتنويرية لمجتمع ما ، ليأخذ لقيماته منها وبنفس التوقيت يشعل فتيل نيران الأرواح الحرة التي تدين الظلم والتهميش والإبادة والوحشية وترتقي بالإنسان من مرحلة كونه عدد يحصى أو لا يحصى إلى جعله كيانا تستمع الأكوان لصرخته وتعترف بإنسانيته . صرخته الأقوى من كل رصاصات الأرض فتمتدحه وتحلف باسمه الأزمان ،وبذلك يعمل الفنان على إخراج واقعه من الثبات ، محركا مصيره ومصير الأقدار.
ليصير الفن ثورة تغير ولتصير ثورة التغير فن ، فهما وجهان لعملة واحدة ، جاعلة الثائر المتنور الفنان الساعي للأفضل سائل و مسؤول ، فاعل وليس بنائب فاعل
مطالب بالكثير حتى لو كان مطلوب ، فمن موقع هذا ، يناشده جمهوره أبناء شعبه وزملاءه في المسير ، بأغنية جديدة تلهب الساحات ، وبقصيدة فريدة تنصت لها كل الآذان ، وحكاية تسرد جديدهم وشريط سينمائي يؤرق الأجهزة السياسة وتلهث وراؤه السلطات .ويستجديه فنه وجمهوره ألا يتوانى ثانية عن تحقيق حلمه بمدح متطلبات الشعب وتطلعاتهم نحو الحرية والعدالة الاجتماعية ليكون هو حرا فقط وحرا معهم ومنهم
يقول -فريدريش شيلر .( الفن ابن الحرية )
وكذلك ليوجه بفنه صفعة قاتلة لدواعش الفكر وطغاة الظلام المحاربين للفن والجمال أينما كان وأينما وجد ، تهز عرشهم وتنزلهم من على كرسيهم الأبدي ، وتسقط بطانتهم بكل ألوانهم ومقاييسهم .فهو الوحيد الذي يمتلك سلاحا فريدا من نوعه ألا وهو أدوات التعبير والإحساس المرهف والذي يعتبر من أقوى وافتك الأسلحة في الميدان ، مؤديا دوره النضالي السلمي مغيرا صيرورة الأحداث ، صانعا المستقبل معبرا عن إرادته و إرادة الشعب بصناعة الحياة .
والأمثلة عبر التاريخ كثيرة فالفنان التشكيلي بيكاسو استطاع في لوحته الفنية الشهيرة ( غرنيكا ) التي وصفت المجازر والطغيان حينما قصفت المدينة بالطائرات الألمانية عام 1937أن يوجه أصابع الاتهام والإدانة لكل قاتل يفعل فعلته وكأنه رسم لكل المناطق والشعوب التي تعرضت للظلم وأهوال الدمار ، ناقلا رسالته ومشاعره عبر هذه اللوحة الخالدة
وهاهو الشاعر نيرودا الذي كتب ديوانا كاملا عام 1973 محرضا على الثورة التشيلية اسمه (التحريض على إبادة نيكسون ) متخليا عن الجمال اللفظي للكلمات ، صريحا بكلماته مذكرا بقوة الشعر وطاقته على التدمير والبناء
ولا ننسى طبعا الشابي ودرويش وغيرهم كثر إضافة إلى الرصيد الفكري والبصري السينمائي المميز الذي وصف الثورات و عبر عن معاناة الشعوب .
ومن هنا لا يكون الفنان أبدا بمعزل عما يحدث ، فقد يخسر روحه لقاء رأيه ، فيغدو شهيدا للمتغيرات ، يقدم حنجرته التي غنى بها ، ويده التي رسم بها ألوان المستقبل وشعارات التنديد والاستنكار ،ويفقد عينيه التي صورت بكاميرا الواقع مقتطفات النضال ، وتهب له الثورة خلودا لاسمه ومعاهدة للمضي خلف نهجه ومتابعة الحلم .
وبالمقابل إن الفن لا يكون بعزلة عن الفنان نفسه ، فهو أيضا إنسان له فرحه وغضبه وعشقه واعتباراته الشخصية الذي في كثير من الأحيان يلام عليها حينما يعبر عنها في خضم هذه الأحداث ، وهذا ما يسئ له ويجعله في حالة من التناقضات التي تجذبها إليه الأذهان السطحية ، ناسية دوره الاستراتيجي وصنيعه التفاعلي ، جاعلة إياه يدخل القيد ذاته الذي نادى بكسره ، ليتعب من جديد ، مركزا على مقدرته على التغير الاجتماعي البنيوي لهذه الأذهان،وقد يفشل مرات ومرات ،ويتخلى عنه ، وتنبذه بعض الفئات ، ولأنه حقيقي عليه ألا ييأس من كافة المحاولات آخذا بيد من هم بحاجته فعلا
إضافة لذلك ،تشهد الثورات كثيرا من الأخطاء القاتلة التي تحاول نسف ما بناه ، وقد تتغير مساراتها وتوجهاتها وتتحول من مطالب محقة في الأرض إلى حالات عنفية ، والى شعارات تأويلية تقتل التغير ذاته وتغرق الحجر والبشر في بحور من الدماء .
فيعمد هو على إدانة هذه الفعائل داعيا من جديد لثورة على أخطاء المجتمع ومنهجه ونخبها السياسة التي أصبحت مهمتها إصدار التفسيرات والتأويلات و التخوينات من قعر الفنادق ، بعيدة كل البعد عنه وعن زملاؤه في الوقائع
النخب السياسية هذه أثبتت فشلها الذريع وعجزها الفعلي عن فهم المضمون الفكري والذهني والتناقضات الإيديولوجية لاحتياجات شعوبها ، فهي تعيش في حالة من التغريب والنكران الباطني للمعرفة الحقيقة والذي يسعى الفنان الحقيقي فك شرانق غاياتها في السلطة والمناصب ، حاملا صليبه بحثا عن خلاص من كلا الظلمين ظلم الظلاميين وظلم النخب هذه والذين هم أشباه دواعش الفكر ، مذكرا بأنه فقط المرآة الحقيقة العاكسة للواقع واحتياجاته ، وبأنه هو الفن باسمه الثاني المتغير .
رشا الصالح: صاحبة الجلالة
إضافة تعليق جديد