هالة محمد: «كأنني.. أدق بابي»

11-01-2009

هالة محمد: «كأنني.. أدق بابي»

وَضَعَت الشاعرة «هالة محمد» تاج «الحيرة» على غرَّتها, واندَفَعَت بشغف جدولاً يقتحم جفاف صحراء تكلَّسَ رملها وتحجَّر حول كعوب نخيل الانتظار «أللَّعلها» تُساقط الرُطَب.
لكأنَّ «هالة» ­ غزيراً ­ قد وُلِدَت في غابة متشابكة من الأبواب الموصدة على المجهول!
هكذا, ومنذ البدء تآلفت مع هاجس الخروج الى الاستكشاف حاضنة في صدرها, وفي آن معاً: رهبة ومهابة الصدمة من جهة, وغبطة بريق المفاجأة من جهة ثانية!
لهذا ­ ربما ­ جاء مسرى ومسار ماء كلامها في «كأنني... أدقُ بابي» طوافاً وسعياً على الأبواب, وليس مروراً عابراً على جغرافيا الروح وهوية الأمكنة. لقد انتقَلَتْ بموروثها الأنثوي من «حال» الى «مقام» ضمن مدى واسع ارتفعت فيه واستطالت الأبواب وَوُئِدَتْ أمام ناظريها «المفاتيح»!!
لم يكن «الانتظار» لدى «هالة» ليرسو ويستكين, لكأنَّه «الصمتُ» الواقف الصامد المتحفِّز بين حد نصل «السَكْت» والتباس «الاصغاء» ليصل شفيفاً وعاصفاً الى بحَّة التساؤل وضواحي التمرُّد, ودقِّ وشم الكتابة على صفحات الأبواب التي لم تستطع هتك وافتراع مصاريعها! والتي لا تؤدي ولا تفضي ­ غالباً ­ إلاَّ الى مزيد من الأبواب, والمتاهات, التي تميت الروح بالوحشة والخواء, وهول صدى الفراغ!!
«يا حبيبي€لا مكان لي, سوى اللحظة. أعِيشُها بيقظةٍ€كأنها لحظتي€أوقظُ عواطفي€ونُسابق الزمن. تعبتُ من الركض فيه€كبرتُ€والزمنُ صار يُربكني€بين ذرات الغبار في الريح€يشمُّ رائحة لحمي العاري€يعرفني, ويمنحني فرصة€ويُربكني€ بيت على الأرض€للأرض... بيتي€ولستُ باباً فيه, أو وردة€عارية€أكثِّف فيه... إقامتي أبتعدُُ ما استطعتُ عن بابه€وأغفو... في ضوءٍ هامشي لا يعبرهُُ... حتى الزمن».
«هالة» الشاعرة المحاصرة بالأبواب, ترسم «شمساً» لتدفئها وليسطع في الضوء شوقها...!
لكن حين أَكَلَتْ الجدرانُ كل النوافذ, انحازَتْ «العتمةُ» الى سلطان الأبواب والأسوار العالية, حتى شُبِّهَ لي أن «هالة» تختلس في «الظُلمة» قطعاً من «الليل» لتخبِّئ في طيّاتها من أحبَّت وتحب أثناء افتضاح ضوء «النهار»!!!
وتراءى لي أنها حَفَرتْ العديد من الشبابيك المفتوحة على أحلامها التي تسكن وتقيم بين النوم وبين اليقظة, وعلى رؤى آتي الأيام وسحر غموضها وبهجة مرارتها!!
«كان لي نافذة€إمحَّت في الجدار»...
لكأن «هالة», تلك المولودة «الساحلية» بعينيها المشرَّعتين على البحر, قد اختزَنَتْ دهراً من الرفض «الأنثوي», وتخطَّت بلغتها المشغولة بأصعب أساليب وَصِيَغ البساطة غالبية السائد والمألوف, وصَنَعَت للمحبِّين «اشرعة ومجاذيف» لا شطَّ لها... ولا مرساة!! فحسبُها أنَّها على ­ رقَّة ووداعة ­ امتلكت «بركان عناد» في صراعها المزمن المتعدد مع «الحيرة» الى حدود الإنهاك وربما «المهادنة» مع «الوهم» ورفض الهزيمة وعدم الاقرار بوقوعها!! ذلك «الوهم» العالي النبيل, الذي ألَّفته وأَلِفتهُ ليغزر طافحاً معه وفيه ومنه ماء زهر الكلام, فبغياب «الوهم» او رحيله, يموت «الانتـظار» ويصبح القلب في وحشة!! وبذلك ينقطع الوصل والتواصل و... يشيخ البريد...!!
«الفراشة! هذا كلامي أُطَيرهُ, كي لا يموت الشوق€الكلام بشر والنحل زهر, والنمل في لحظةٍ... ثرثرة».
«كأنَّني... أدق بابي» كتاب مشغول على «سلَّم خماسي» متعدِّد «المقامات» التي تدعو الى المشاركة في «طقوس» الحيرة المرفوعة على راحات التأمل, وصهوات موج التساؤل, والانضمام الى الشاعرة: العاشقة, المستوحدة, المتمردة, وصاحبة «الوهم الجميل»... إذ, حتى الفراشة, تأمل وتطلب لطيرانها الشفيف الرقيق أن يكون له... كامل الفضاء...!!
«لا أحتمل هذه النافذة€المفتوحة على الغربة€إنها كالجدار... لا أرى منها شيئاً»...
لقد أخذني الكتاب, بل استدرجني على غوى, الى صفحاته غير المعنوَنَة, حتى رأيتني أدق ابواباً متتالية, تعدَّدَتْ فيها التشكيلات وتنوَّعت على كل تجليات «الداخل» لكأنَّ ابواب «هالة» المغلقة هي في الوقت ذاته من يحرس أسرارها! وبالتالي من يشارك في صنع سجنها!! فهل أن «حارس» القلب هو سجَّانه؟؟!
هذه الكتابة غير الآنيّة, وغير العابرة, تُمسك بريف العيون, وتنفذ الى مطارح اجتاحها «النسيان». هو دخول ونفاذ, يُعشِب الذاكرة, ويكشح ضباب لعبة «التناسي» وخرافة «السلوان», حيث الوصول الى ضفَّتي المرتجى والمراد لا يكون عبر «متّكآت» وتجليات لغوية... وإنما بالقبض ­ مكيناً ­ على «لوغو» لبِّ الكلام في المشهد الشعري, كما في المشهد المرئي, وهذا ما جَهدَتْ «هالة» على خلقه وتوليفه, لتطرح رؤى وقد نَفَخَت فيها من روحها وذاكرتها المستنفرة المتواصلة, بهاء وسحر غموض «لوعة» الشوق في موروث «ما بين النهرين»!! ليستحيل معها عَبَق الحالة الشعرية الى نص بصري, تضرب جذوره في الغريب من الزهر البرّي, وليقارب كل مكامن اللهفة والحنين, لنرى الشاعرة: حادياً أحادياً في مدار الدوران, حيث يتطاول لديها طيف الذاكرة ليقدِّس اللحظة, ويمحو الزمن والميقات...!!
«الذاكرة... ملكية فردية لحياة مشاع».
ذاكرتي لملمتها في البيت€ألتقطها من الزوايا... زوايا النظر.
تفاصيل صغيرة, كَبُرَت معي كأسراري... وأوهمتُ نفسي بانتمائي عبرها للعائلة.
أصحِّحُ ذاكرتي€بلا موتى... بلا خصام... كمن يوحِّد ذكريات العائلة. كمن يكوِّن من جديد عائلة.
لكَ ذاكرة€ولي ذاكرة لنفس الذاكرة€لك حاسة شمّ ولي حاسة شمّ€لنفس الرائحة€لكَ... ولي€واقتسمنا إرث التفاصيل. أخذتَ التفاصيل عينَها وأخذتُ التفاصيل عينَها€تفاصيلي تشبهني€وتفاصيلك تشبهك€هو المكان ربما, منشأ الفرق€المكان أنتَ... والمكان أنا».
وللمرة الثانية شُبِّه لي ­ وربما كان يقيناً ­ بأن الشاعرة «هالة» هي زهرة غريبة طالعة على ربوة مطلَّة على الموج, ونابتة على خصر الصخر وعند عيون الماء, متمردة على «القَطْف» ورافضة لكل أشكال وَصِيَغ «المزهريات»!!
ويكاد «الزمن» لدى «هالة» أن يكون وَقْفاً على «الماضي» فقط. فلكي يحقق هذا الماضي نفسه يجب أن يكون قد انقضى وأصبح فائتاً «ذاكرة», إنَّه لكي يوجد يجب أن لا يعود موجوداً. إنه الاتحاد بالفناء, ومن هنا اقترانه الدائم باللوعة والضنى الحرَّاق حيث التضرُّع والابتهال لملكوت «الغبطة» واستحضارها عن طريق هتك «المحجَّب» والمستتر في مكنون الهامد والراكد, ورفض «موروث» العادات التي تَتَمثَّل فيها سلطة الأموات على الأحياء...!
«كصحراء... تقبض على احتمال السراب€على خيال وردةٍ حمراء€على صوتٍ في باطن الرملِ يروي... أنه احتمال الماء»...
هذا «العَطَش»المستولِد للشعر الذي يمسك بالـمُهَج مؤجِّجاً لهفة الوَجْد وشَغَف الارتقاء, مُرجعاً الى النضارة خَفْقَ العمر الجميل والدمع «الذَهَبْ».
كتاب صغير تقرأه في أقل من ساعة, وتقرأه على مدى ساعات... إنه الشعر لشاعرة «سحابة» محوِّمة فوق قامات الحور والصفصاف, واللوز والتين و«الحزن» والزيتون و«طولِ» سنين...!! حيث لا مكان ولا حضور لنخلٍ وإبلٍ ومجدٍ هلامي زائف...
«كم هي صعبة دورة الوجود€ولا نكاد نستلقي, لتبدأ... دورة التراب».
قال منصور الرحباني:
«كي لا يجيء الوقت€جعلتُ حرَّاساً على المداخل€أوصدتُ أبوابي€كسَّرت في بيتي المرايا€حَبَسْتُني في الداخل€لكنَّني ما زلت أكبر في الداخل€أنهارُ في الداخل€وأنَّ ما يأتي يأتي من الداخل»...
هالة محمد: شاعرة مغايرة.
ولقد أنهت هذا الكتاب ببوحٍ حمل العديد من تجلياتها المفتوحة على الأبواب المغلقة:
«ضجيجٌ تحت بيتي€الزمن... يبحثُ عني»!!...

€*€ «كأنني... أدق بابي» للشاعرة «هالة محمد», عن دار «الكوكب», من منشورات «رياض نجيب الريّس».

د. غازي قهوجي

المصدر: الكفاح العربي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...