فراغات في سيرة محمد الماغوط ملأها كتاب جان دايه
كان محمد الماغوط (1934 ــــ 2006) ساخراً كبيراً. هذه إحدى الخلاصات التي يخرج بها القارئ من كتاب جان دايه «محمد الماغوط وصوبيا الحزب القومي» (منشورات فجر النهضة). ينطلق الباحث من «نهفة» ذائعة برَّر بها صاحب «حزن في ضوء القمر» انتماءه المبكر إلى الحزب القومي السوري بدلاً من حزب البعث، ألا وهي وجود مدفأة في مقرّ الحزب القومي في بلدته السلمية، ما جعله ملجأً مؤاتياً في أيام الشتاء القاسية.
النهفة هي مجرد مدخل أولي لجهد توثيقي كبير، بذله المؤلف لوضع بدايات الماغوط الصحافية والشعرية في متناول القراء. يضيء دايه في القسم الأول فترةً معتمة من الحياة الحزبية للماغوط التي بدأت 1950 واستمرت 12 عاماً، واحترافه العمل الصحافي في دوريات الحزب القومي. ويخصص القسم الثاني لعشرات المقالات والقصائد المجهولة التي فضَّل الماغوط تناسيها باعتبارها بواكير غير ناضجة، إضافة إلى رواية بعنوان «غرام في سن الفيل» نُشرت على حلقات باسم مستعار في جريدة «البناء».
نقرأ الكتاب فتتراءى لنا مسيرة الماغوط الذي مزج السخرية بكل شيء. علينا أن نقول إنّها سخرية ذات مذاق خاص ومختلف. سخرية خارجة من مخيلة قادرة على خلق معادل مبتكر لأي حدث أو حالة. الذين عرفوا الماغوط شخصياً أدركوا أنه غالباً ما ردَّ على أسئلتهم بأجوبة فيها سخرية مرتجلة وبداهة متحفزة. كان ذلك جزءاً من حضور الماغوط الشخصي وأحد أسباب فرادة تجربته الشعرية والمسرحية. اشتُهر صاحب «العصفور الأحدب» ببراعته في صيد الصور والاستعارات، فضلاً عن غنائيته الخشنة والمقهورة. ولو أفرغنا شعر الماغوط من هاتين السمتين، لفقد هذا الشعر معظم بريقه وحيويته. لعلهما كانتا العصا السحريّة التي بنى بها قصيدته بعيداً عن بحور الشعر التقليدية، وتفعيلات الرواد الجديدة. والأرجح أنهما حفظتا الماغوط نفسه من النسيان وخلَّدتا شعره. إنه واحد من القلة الذين تتفوق بداياتهم على ما انتهوا إليه في كهولتهم. وهو ما حدث في مجموعاته الشعرية الثلاث الأولى.
جرّب الماغوط أن يعود إلى الشعر، لكنه لم يستطع مجاراة قديمه. لا ننسى هنا أن الماغوط عاش من الكتابة، فأخذ فنّ المقالة، فضلاً عن المسرحيات الكوميدية ـــ السياسية التي كتبها لدريد لحام، من وقته الكثير. في العقود الثلاثة الأخيرة من حياته، تحوّل الشاعر ذو الصوت المتفرد إلى كاتب مقال سياسي ساخر. الصور والاستعارات الآسرة حضرت في مقالاته ومسرحياته، وقد تخففت من كثافتها الشعرية. هذا يعني أن النص الماغوطي لم يتغير في الجوهر. والبواكير التي يكشفها لنا جان دايه في كتابه تثبت أن الماغوط بدأ ساخراً وانتهى ساخراً. ربما كان ذلك استراتيجية ماغوطية لتسجيل براءة اختراع لتجربته الفريدة.
بنشره للمقالات والقصائد التي فضَّل الشاعر إبقاءها طيّ الصحف والدوريات التي نُشرت فيها، أراد دايه أن يملأ بعض الفراغات في سيرة الماغوط، وخصوصاً بداياته. هكذا نكتشف مع جان دايه أن صاحب نهفة المدفأة كان حزبياً مثل كل رفاقه الذين لوحقوا واضطُهدوا وسُجنوا. اشتغل في صحافة الحزب. رثى أنطون سعادة. هاجم أعداء الحزب وخصومه، وخصوصاً الشيوعيين والناصريين. مُنع مراراً من الكتابة بسبب جرعات القدح والهجاء العالية في مقالاته، لكنه كان يعود لممارسة لعبته المفضلة بأسماء مستعارة. يخبرنا دايه أن رواية «غرام في سن الفيل» التي كتبها باسم «سومر» هي نتاج إحدى محطات منع زاويته الصحافية: آثر الاستمرار برواية «كانت بمثابة سلسلة مقالات سياسية واجتماعية وثقافية، لم يخلُ مقال منها من النقد الذي اعتاد كاتبها توجيهه نحو خصوم حزبه».
يتعقب دايه فكرة السخرية في الرواية، متسائلاً عما إذا كان الماغوط قد أبدع مدرسة جديدة في هذا اللون الأدبي الصعب والآسر كما فعل قبله أحمد فارس الشدياق وإسكندر الرياشي وسعيد تقي الدين، وغيرهم. ثم يسوق عشر ملاحظات لتبيان خصوصية سخرية الماغوط مقارنة بالآخرين. وهي نتيجة تليق بصاحب «سأخون وطني» الذي ظل حتى أواخر أيامه، رغم مرضه ووحشته وآلامه، محافظاً على رشاقة لافتة في السخرية. لعل هذا يقول لنا إنّ الماغوط كان جدياً في سخريته. سخريةٌ ممتدة كهذه ومتسربة إلى شعره ومسرحياته ومقالاته وأحاديثه وحواراته، لا بدّ من أن تكون طريقة لحضور هذا الشاعر في العالم.
عاش الماغوط حياةً خشنة فبادلها بنبرة مماثلة. لم تفارق مفردات القهر والخوف والفقر والحرمان والوحدة كتاباته. وينبغي أن نشير إلى أنّه اعتاش على تلك السخرية: لقد دُفعت للماغوط مبالغ مجزية لقاء زواياه ومسرحياته. وكتاب جان دايه مناسبة لنستعيد زاويته اللاذعة «أليس في بلاد العجائب» في مجلة «المستقبل» الأسبوعية التي كانت تصدر في الثمانينيات في باريس (لصاحبها الصحافي والكاتب الراحل نبيل خوري). كانت تلك المقالات، إلى جوار نصوص نزار قباني، سبباً في رواج المجلة. وفيما كان نزار يسخر على طريقة «متى يعلنون وفاة العرب»، اتخذ الماغوط منحى آخر في السخرية، بأسلوب يذكرنا بصورٍ من شعره القديم: «العرب مثل طائرة الهليكوبتر/ ضجيجها أكبر من سرعتها».
حسين بن حمزة
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد