«كتاب الاعتبار» لأسامة بن منقذ: احترم الآخر ولو كان عدوّك!
لسنا ندري اذا ما كانت هناك دراسة تقارن بين كتابات الجبرتي حول حملة نابوليون على مصر عند المنعطف الفاصل بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وكتاب اسامة بن منقذ حول الصليبيين، الذي وضعه هذا الأمير الدمشقي المثقف والهادئ، خلال الربع الاخير من القرن الثاني عشر في التقويم الميلادي. صحيح ان الفوارق بين الكتابين كبيرة، خصوصاً ان كتاب الجبرتي كتاب في التاريخ، بينما كتاب اسامة كتاب في السيرة الذاتية، غير ان ما يجمع الكتابين ويدعو الى المقارنة بينهما، انما هي تلك النظرة التي يحملها كل منهما ازاء «الآخر» أي تجاه قوة أجنبية جاءت الى المنطقة كي تغزوها وتقيم فيها امبراطورية بديلة للحكم العربي فيها. وهي نظرة تبدو متشابهة في نهاية الامر: فيها من التسامح بقدر ما فيها من الحيرة، وفيها من الغضب - ازاء الاحتلال الاجنبي - بقدر ما فيها من محاولة للتفهم والتساؤل حول ما يمكن العثور عنه من ايجابي لدى الآخر الدخيل، في لحظة تلاق بين حضارتين.
> فالحال، ان ما يمكن التوقف عنده اساساً، في كتاب «الاعتبار» الذي ألفه اسامة وهو قد تجاوز الثمانين من عمره، ليس فقط ما فيه من وصف للأحداث التاريخية، وليس فقط ما يحمله من ملامح السيرة الذاتية والتأمل الفلسفي، وليس فقط صور اللهو والعلاقة مع الطبيعة وممارسة القنص والصيد والحب في زمن لم يمنع عصفه وصعوباته ذلك الأمير الشاعر المقاتل من الانصراف لنفسه وهواياته. ان ما يمكن التوقف عنده اكثر انما هو تلك البساطة والاريحية التي بها يتحدث اسامة عن «الاعداء». ولنقرأ مثلاً هذه الفقرة: «كنت اذا زرت البيت المقدس دخلت الى المسجد الاقصى وفي جانبه مسجد صغير قد جعله الافرنج كنيسة. فكنت اذ دخلت المسجد الاقصى وفيه الداوية (فرسان الهيكل من الجنود الصليبيين) وهم اصدقائي، يخلون لي ذلك المسجد الصغير لأصلي فيه. فدخلته يوماً فكبّرت ووقفت في الصلاة. فهجم علي واحد من الافرنج أمسكني وردّ وجهي الى الشرق وقال: «كذا صلّ!» فتبادر اليه قوم من الداوية اخذوه وأخرجوه عني. وعدت انا الى الصلاة. فاغتفلهم وعاد وهجم علي (...) وردّ وجهي الى الشرق وقال: «كذا صلّ!» فعاد الداوية ودخلوا اليه وأخرجوه واعتذروا اليّ وقالوا: «هذا غريب وصل من بلاد الافرنج في هذه الايام وما رأى من يصلّي الى غير الشرق». فقلت: «حسبي من الصلاة!». فخرجت فكنت اعجب من ذلك الشيطان وتغيير وجهه ورعدته وما لحقه من نظر الصلاة الى القبلة».
> وضع اسامة كتاب «الاعتبار» بعد تجارب دامت عشرات السنين من الحكم والقتال والحياة الهادئة حيناً، الصاخبة حيناً آخر. وربما كان اول كتاب من نوعه يضعه «مسؤول» سياسي وعسكري في ذلك الزمن، ويحاول فيه ان يكون منصفاً. غير انه في الوقت نفسه لا يبدو على الاطلاق مبهوراً بذلك العدو الذي اتى الى المنطقة حاملاً معه تجديدات في ستى الميادين آخذاً معه الى دياره البعيدة ما وجده من تجديدات بهرته هنا. فلئن كان اسامة قد اسهب في فصول كتابه في وصف حياة الفرنجة وعاداتهم معتبراً اياهم، بعد كل شيء، بشراً، لا مجرد اعداء وحسب، ولئن كان يعترف في صفحات الكتاب بما وجد لديهم من معارف وتقدم، فإنه كان يدرك - وكما يشير امين معلوف بحق في كتابه «الحروب الصليبية كما رآها العرب» - ان «الافرنج في القرن الثاني عشر (الميلادي) متأخرون جداً عن العرب في جميع الميادين العلمية والتقنية». وهو اذ يستنكر جهلهم ويتحدث عنه مطولاً، فإنه يستنكر ايضاً بعض اخلاقهم وعاداتهم. وهنا يقول امين معلوف انه «بقدر ما يزداد اسامة معرفة بالغربيين تزداد فكرته عنهم سوءاً. فهو لا يقدّر فيهم سوى الصفات الحربية». اياً يكن من الامر علينا ان نذكر هنا ان اسامة بن منقذ انما تعرّف على الافرنج - ما اتاح له التعرف بهم عن كثب وبعيداً من الاحكام المسبقة، ما يسجل سابقة فريدة من نوعها في ذلك الزمن، كان دخوله طرفاً - كما يروي هو نفسه - في ذلك التعاون الذي قام بين دمشق المسلمة وامارة القدس الصليبية. وكان ذلك في مرحلة هدأت فيها الحروب الصليبية بعض الشيء لكي تنفجر من جديد بعد ذلك بزمن. وهذه المرحلة هي التي يؤرخها اسامة ويكتب في مناخ من الحنين اليها ذلك النص الذي لطالما فتن المفكرين والمؤرخين الغربيين وتعاملوا معه كدليل على موضوعية فكر عربي معين. ولقد وصل هذا الافتتان الى حد ان مستعرباً فرنسياً هو اندريه ميكيل حوّل سيرة اسامة بن منقذ وحكاية كتابته لـ «الاعتبار» الى رواية متميزة، اعادت هذا البطل العربي المسلم، الى الفكر الغربي بعد غياب. والحال ان الغرب كان تعرّف الى اسامة من خلال كتاب آخر صدر في الفرنسية عنوانه: «حياة اسامة» خلال العشرية الاخيرة من القرن التاسع عشر، وفي وقت اهتم فيه المستشرقون بجمع تراث هذا الأمير المتأمل.
> في نهاية الأمر يمكن اعتبار كتاب اسامة بن منقذ واحداً من اول الاعمال الادبية العربية التي حاولت ان تتعاطى مع صورة الآخر. وذلك في وقت كانت فيه الكتب التي يصدرها هذا «الآخر» عن الشرق والمسلمين حافلة بالتجني والاحكام المسبقة. وفي هذا الاطار قدم اسامة دون ادنى شك درساً طيباً - ولم لا نقول نادراً!؟ - عن امانة الكتابة وموضوعية النظرة.
> والقاء هذه النظرة لم يكن، على اي حال، غريباً عن ذلك الأمير الاديب، الذي ولد وعاش في منطقة وزمن كان الاختلاط والنماذج سمتهما الرئيسة. وكان القتال نفسه فيهما فعل ايمان بالقيم الاخلاقية. وتقول «الموسوعة الاسلامية» ان اسامة يدعى في الاصل اسامة بن مرشد بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الشيزري الكناني. وهو ولد في عام 1095م في بلدة شيزر شمال حماة في سورية. وكانت شيزر مقر حكم اسرته من آل بني منقذ. وكان اسامة في الرابعة حين استولى الصليبيون على بيت المقدس. ولئن كان اسامة منذ ان شب عن الطوق قد خاض القتال، ضد الفرنجة، كما ضد منافسي اسرته من امراء المناطق الاخرى، فإنه ظلّ طوال عمره على اتصال مستمر بالفرنجة «يخاصمهم حيناً ويصادقهم حيناً». وهو كان كأبيه محباً للقتال وللصيد، ولكن للكتابة ايضاً. وعلى رغم انه أمضى تسع سنوات من حياته في جيش اتابك الموصل الزنكي، فإنه لم يتوقف عن الكتابة يوماً. وحين توفي ابوه اضطر، لأسباب عائلية، تتعلق بخشية عمه الوارث الامارة، منه، اضطر الى مغادرة شيزر ليعيش متنقلاً طوال اعوام عديدة في بلاط بني بوري في دمشق، خصوصاً. كانت هي الفترة التي اقام فيها صلات وعقد معاهدات مع الفرنجة في بيت المقدس وصار الداوية اصدقاءه. بعد ذلك قصد مصر الفاطمية وشارك هناك في دسائس القصور. ثم قاد حملات ضد الصليبيين في فلسطين. وهو غادر القاهرة بعد ان مكث فيها 10 سنوات، واستقر في دمشق التي مات فيها في عام 1188م وقد اربى على التسعين. اشتهر من كتبه الى «الاعتبار»، «لباب الآداب» و «المنازل والديار» و «القلاع والحصون» و «اخبار النساء» و «النوم والأحلام»... الخ.
إبراهيم العريس
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد