ابن رشد وإشكالية الفلسفة السياسية في الإسلام
حظي ابن رشد، وما زال، باهتمام كبير من طرف الكثير من الدارسين والباحثين والمؤرخين سواء في الشرق أم في الغرب، حيث بدأت الدراسات التي تتناول أعماله وتأثيراته في الفلسفة منذ منتصف القرن العشرين المنصرم، من طرف بعض المستشرقين، ثم تواتر الاهتمام بفلسفته وبأطروحاته من طرف مؤرخي الفلسفة، الذين راحوا يهتمون بابن رشد وبأثره في فلسفة العصور الوسطى والعصور التي تلتها. وفي هذا السياق يأتي كتاب عزيز الحدادي، «ابن رشد وإشكالية الفلسفة السياسية في الإسلام» (دار الطليعة - بيروت، 2010)، ليهتم بالتجربة السياسية لهذا الفيلسوف، على مستوى الفكر والممارسة، محاولاً تبيان ما تعنيه السياسة عنده، وهل هي مجرد آراء مستقاة من فلسفة أفلاطون وأرسطو، أم هي علم مدني يسعى إلى تشييد مدينة فاضلة، تستمد قوتها من عقلانية الفلاسفة القدماء وبخاصة فلاسفة اليونان.
ويرى الحدادي أن ابن رشد استطاع أن يثير مستقبل الفلسفة في الأندلس من خلال دفاعه عن سياسة متنورة، على رغم التباس القول الرشدي في هذا الباب، ويعتقد أن عصرنا بكامله محتاج إلى ابن رشد، وإلى روح ابن رشد، وتجلياتها الفلسفية والسياسية، ذلك أن الغرب عرف كيف يوظف رمزية الرشدية في نهضته الفكرية والثقافية، بينما يقيم العرب في العدمية لأنهم ابتعدوا عن الرشدية. ويعتبر أن ما يتناوله في هذا الكتاب جديد، لم تنتبه إليه الدراسات الرشدية، التي انصبت على تناول فيلسوف الغرب الإسلامي انطلاقاً من صور عدة، وبخاصة صورة ابن رشد العقلاني الذي يقدس أرسطو، وينتصر للقول بالحقيقة المزدوجة وخلود العقل الهيولاني، ويقول بقدم العالم وما يترتب عنه من قضايا فلسفية، وبالتالي ذهب بعض الباحثين إلى القول إن مذهبه العقلاني يتعارض مع روح العقيدة الإسلامية، ويأتي في مقدم هؤلاء إرنست رينان صاحب كتاب «ابن رشد والرشدية» الشهير.
ويهتم الحدادي بتناول علاقة الفلسفة بالسياسة في الغرب الإسلامي، وبخاصة الفلسفة السياسية عند ابن رشد، الأمر الذي اقتضى فحص مقاصد آراء هذا الفيلسوف ومقاربتها بآراء أفلاطون وبآراء الفارابي في السياسة وأيضاً بآراء ابن باجة الذي كان يسعى إلى تأسيس سياسة للمتوحد، ذلك أن الفلاسفة في الأندلس مارسوا تجربة سياسية منبثقة عن الواقع، حيث كان ابن باجة وزيراً في الدولة المرابطية، وكان ابن طفيل وزيراً في الدولة الموحدية، أما ابن رشد فقد كان قاضياً للقضاة، أي وزيراً للعدل. والأهم هو أن النظر في كتب أفلاطون وأرسطو كانت تكمن خلفه إرادة سياسية واضحة، لأن الخليفة هو الذي طلب من الفيلسوف القيام بتفسير كتب المعلم الأول كما هي الحال مع ابن رشد.
ويمكن القول إن ابن رشد تجاوز تلك النظرة الميتافيزيقية إلى علم السياسة كما كان عليه الأمر عند الفارابي، وذلك بفصله عن فلسفة واجب الوجود، لأنه كان يتقاسم مرتبة أشرف العلوم مع علم ما بعد الطبيعة، هذا العلم الذي اعتبره على رأس هرم نظرية العلم، بوصفه العلم المسؤول عن تدبير شؤون المدينة ومصلحة الإنسان وسعادته في هذا العالم، حيث نظر ابن رشد إلى العلوم على أنها وجدت من أجل إسعاد الإنسان وتحقيق كمالاته، لكن ذلك لن يتم في غياب مدينة فاضلة تتسع لأكثر من فرد واحد، شريطة أن يكون رئيسها أو ملكها فيلسوفاً، وهذا موقف يختلف عن موقف ابن باجة، بل إنه أقرب إلى رأي أفلاطون. لكن ابن رشد سعى إلى تشييد هذه المدينة انطلاقاً من تحريض الإنسان على امتلاك الضروري في العلوم، بخاصة علمي الأخلاق والسياسة، أو ما يُعرف في المتن الرشدي بالعلم المدني الذي يحتل بخصوصيته مكانة مهمة في المتن الرشدي. وقد قسّم ابن رشد هذا العلم إلى علم الأخلاق وعلم السياسة، حيث يسعى الأول إلى ترسيخ الفضيلة في النفس، وتعليم الإنسان كيف يمكن أن يصبح فاضل الأخلاق، بينما يرغب الثاني في ربط الفضيلة بالمدينة، وتسيير شؤونها من خلال القضاء على سياسة وحداني التسلط، وعلى سياسة المدينة الجاهلة، وبهذه الجهة يكون الإنسان منتمياً إلى مدينته، وإلى أمته أكثر من انتمائه إلى نفسه. وهذا يعني أن معنى الإنسان في المدينة الفاضلة لا يخرج عن كونه خادماً لغاية خارجة عن ذاته وهي غاية المدينة، وكانت غاية الدولة الفاضلة أسمى من غاية الفرد، ولا يستطيع الإنسان أن يحقق سعادته في منأى عن سعادة المدينة.
ويرى الحدادي أن ابن رشد استند إلى نظرية العلم، أي إلى الصنائع التي تتعاون في ما بينها لتفسير نظريته في توحيد السياسة بالأخلاق والفلسفة، وذلك من أجل أن يوضح أهمية التعاون في إطار وحدة الغاية. لكن رؤية ابن رشد لعلم السياسة كانت رؤية معقدة وغامضة في الوقت نفسه، بخاصة أنها تمتد على مساحة شاسعة من متنه، وسعت إلى توحيد السياسة بالفلسفة، وبما يجعل العلم خادماً للنظر وللأخلاق. وعليه يحضر التساؤل في ما إذا كانت رؤيته سبباً مباشراً في إبعاد الدراسات الرشدية من الاهتمام بالسياسة المدنية عند هذا الفيلسوف، وعما إذا كانت هناك أسباب أخرى؟ لكن الحدادي يدافع عن الإشكالية التي تعتبر أنه في قلب كل فلسفة توجد السياسة، وذلك إما من خلال الخاصية السجالية والنقدية لمظاهر الاستبداد والآخر الحضاري والفكري، أو من خلال دعم هيمنة أيديولوجيا الطبقة الحاكمة. وعليه، يعرّف السياسة باعتبارها صراعاً للنخب داخل المقاولة السياسية، أي المجتمع، مع تأكيده اعتبار مكيافلي أن هدف السياسيين يظل واحداً، ألا وهو الحصول على الثروة والشرف وقتل الفكر المتنور، لأنهم يسمحون لأنفسهم بممارسة الشر العام من أجل تحقيق الخير العام. وهذا يقتضي العودة إلى إشكالية العلاقة التقليدية، أو الوسطوية، التي كانت قائمة بين الفلسفة والسياسة، والتي كان ابن رشد متأثراً بعمق مفاهيمها وأسئلتها، لأنه كان يفكر في عصره انطلاقاً من المرجعية الأرسطية، باعتبار أن أرسطو أو المعلم الأول كان هو كمال الفلسفة. في حين أن الحدادي يرجع إلى هيغل الذي حدد للفلسفة هدفاً واحداً هو الحقيقة، أي الرغبة في عدم الاختفاء، ورفع الحجاب عن الوجه المشرق لحقيقة الأشياء. أما السياسة، فإن هدفها ليس البحث عن الحقيقة، بل السعي إلى التدبير، إلى الهيمنة، ولو اقتضى الحال إخفاء الحقيقة. وبعبارة أخرى، إذا كانت الفلسفة تعتمد على السؤال في كشفها عن الحقيقة والإعلان عنها، على رغم أن الحقيقة تقتل، كما قال نيتشه، بل إنها تقتل نفسها حين تتعرف إلى الوهم كأساس لها، فإن السياسة تقدم باستمرار أجوبة عن الممكن والمستحيل؛ إنها إقامة في المستحيل كما يقول مكيافلي. وعليه، تكون الهيمنة هي الوجه الآخر للحقيقة السياسية، ذلك أن الذي يهيمن يفرض بالقوة حقيقته، التي هي عبارة عن آراء سياسية تعبر عن موقف مبدعيها، وبعبارة أدق إنها تهمّ الهيمنة الإيديولوجية للطبقة الحاكمة، سواء تعلق الأمر بدعمها أم بنقدها ورفضها. ولعل ابن رشد كان يمثل هذا الوجه المشرق للفيلسوف الذي يفكر سياسياً وفلسفياً في مجتمعه وحاضره، وينتقد الطبقة الحاكمة، على رغم أنه كان يعيش تحت جناحها.
وإن كانت الفلسفة قد منحت ابن رشد مكانة رفيعة في عصره، فإن السياسة كانت السبب الحقيقي وراء محنته ونبذه، ما يشير إلى محنة الفيلسوف، ابن رشد، وإلى محنة الفلسفة في عصره والعصور التالية في الفضاء العربي الإسلامي. وقد حاول ابن رشد أن يؤسس خطاباً سياسياً يستوعب الأزمة السياسية في الأندلس في عصره، لكنه وجد نفسه في الأخير محاصراً بآراء أهل المدينة الجاهلة. ومع ذلك استطاع أن يبدع نظرية سياسية خاصة من خلال اختصاره لـ «جمهورية أفلاطون» التي أخرجها في صورة جديدة، حيث نقلها من الجدل إلى البرهان، وفسّر السياسة بخطاب البرهانية، وحاول أيضاً أن يخلق علاقة اتصال بين السياسة والأخلاق، لأن السياسة علم يتسلم مقدماته في نظره من علم الأخلاق.
عمر كوش
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد