الأحاديث النبوية غير ملزمة

12-03-2023

الأحاديث النبوية غير ملزمة

د.سامح عسكر:

صديق يسأل: لماذا تنصح بأصول الفقه في الدين وتنهى عن الحديث، برغم أن الحديث نفسه دليل في الفقه؟
قلت: بدايات الحديث من القرن الأول حتى الخامس الهجري كانت اجتهادا، ولم يزعم المحدثين الأوائل أن مؤلفاتهم مُلزِمة لغيرهم مثلما يزعم أتباعهم الآن، فالخلاف بين المحدثين ثابت وصل فيه لحد الشتائم المتبادلة والتكفير أحيانا، وقد أفضت بعضا من ذلك في محاضراتي..

وقدسية المحدثين بدأت منذ عصر الإحياء الثاني مع ابن الصلاح وغيره في القرن 7 هـ، قبل ذلك كانت هناك قدسية على مستوى الأفراد لكن لم يحصل المحدثون على القدسية الجماعية سوى متأخرا، والسر أن منتجهم الفكري يتسم بصفات (النقص - والجهل – والتضارب – والخرافة – والكذب – والكيدية – والأنانية ) كل ذلك حدث بدافع المصلحة الشخصية أو مصلحة الأقوياء والنافذين، فمن الطبيعي أن يحصل الصراع بين المحدثين ورجال الدين ما دام دليلهم الأول بهذا العَوَار..

نخلص من ذلك أن ما يسمى علم الحديث وإن كان ظهوره عند السلف بدعوى الاجتهاد مشروعا لكن وجوده الآن ليس مشروعا، فقد تطور الإنسان كثيرا ووصل إلى مرحلة عقلية وعلمية يصعب معها الجمع بين الحقائق والواقع من جهة وبين تلك الروايات والأخبار من جهة..فالعقل المشترك الذي سوف يجمع بين الأمرين معدوم لأن الغالب على الروايات (الظاهرية والحرفية الشديدة) التي لا مجال فيها للعقل والتأويل..

أما أصول الفقه فمدارها الأول على العقل وتتميز بالسعة الشديدة والمرونة، وهدفها الأسمى (مصلحة الناس) بما يتوافق مع مصلحة الدين، فلو حدث التعارض ينظر الفقيه في تأويل النصوص للمصلحة، وعلى ذلك كانت أًصول الفقه على مدار مئات السنين، وأذكر أن الشيخ محمد الغزالي (1917- 1996م) رغم تطرفه وتسببه في قتل فرج فودة، لكنه لاحظ هذا الأمر وكتب كتابا جلب عليه نقمة التيار السلفي وهو (السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث) الذي نادى فيه بإعادة الاعتبار للفقه وأصوله بعد سيطرة المحدثين عليه بدعوى الرواية، علما بأن الغزالي في هذا الكتاب – وغيره – أنكر عشرات الأحاديث الصحيحة وردها لفسادها وعوارها وتسببها في نشر الخرافة والعنف والتكفير – حسب وجهة نظره.

لقد درست أصول الفقه في مرحلة الإخوان ووقفت على أن الحكم الفقهي ليس واحدا بل على نوعين (تكليفي ووضعي) فالأول: نظري أي ظاهر ما يقوم عليه الدليل بأصل التكليف، والثاني : عملي أي جوهر ما يقوم عليه الدليل من مصلحة ومناط وقابلية للتطبيق، وبالتالي قد يكون النص – قرآن وحديث – يقول بكذا وكذا، لكنه وفقا للحكم الوضعي (لا يصلح تطبيقه) أو به عوار ظاهري يستدعي الظلم والقهر والبطش، فيقوم الفقيه بعملية عقلية واسعة يخرج بها الحكم من تكليفه الظاهري لمساحة الوضع والتطبيق كي يراعي مصلحة الناس العامة، ويبقى ما وصل إليه الحكم الوضعي هو الحَكَم الأخير والغاية من أصول الفقه باعتبار أن الدين نزل لمصلحة الناس..

ونموذج مصغر للتفريق بين الحكم التكليفي والوضعي:

قطع يد السارق في القرآن مثلا، هذا حكم تكليفي ورد بأصل الدليل وهو القرآن، فوفقا لطبيعته التكليفية يكون تطبيقه إما (واجب أو مندوب أو جائز ومباح) لكنه وفقا للحكم الوضعي لا يكون هكذا، لأن الوضعي هنا يبحث في (موانع تطبيقه) و (رخص التحلل منه) فأول مانع لتطبيقه هو طبيعة الدولة الحديثة وتطور القوانين والعقوبات للسجن والنفي والغرامة..إلخ، ويبحث في رخص التحلل منه بربط هذا القطع (بعلة وأسباب وجوده) في القرآن وهي ( الردع وتنظيم الحياة) فيخرج قطع يد السارق في الأخير وفقا للحكم الوضعي هو مجرد (وسيلة للردع والتنظيم) وليس هدفا ومقصدا في ذاته، وبناء عليه يكون قد حقق الفقيه مصلحة الناس من جهة ولم يخالف الدين وجوهره ومضمونه من جهة، بل فعل ما هو أروع وفقا لتوصيف البعض هو النظر لروح الدين ورسالته..

أيضا حسب أصول الفقه فلا توجد سنة واحدة ولا شريعة واحدة بل شرائع وسنن، لأن الدليل الذي يستند إليه الفقيه منه ما أجمع عليه كمفهوم (مثل السنة والقياس والإجماع) لكن اختلف عليهم كمصداق، أي في تصور هذه الأمور في الواقع الحسي، وبناء عليه أنكر بعض الفقهاء وجود الإجماع أصلا ، وكذلك استحالة وفاق الأئمة في القياس كونه عمل عقلي نسبي يرجع إلى منظور الفقيه الخاص، وكذلك استحالة إجماعهم على السنة التي تعني تصور الفقيه لطريقة الرسول والسلف في فهم الدين ودليها العلمي غامض ومتضارب نظرا للمرحلة التي أعقبت موت الرسول وتصارع الصحابة، وكذلك فقدان الاتصال بالنبي فترة طويلة جدا من الزمن مما أدى لشيوع الكذب عليه واعتباره صدقا ، ثم دخول هذه الأكاذيب كتب الحديث التسعة المشهورة مما دفع المحدثين والفقهاء لإنكار ورد الآلاف من من تلك الأحاديث لما تمثله من تهديد ليس فقط على العقل الإسلامي بل على حياة وبقاء المسلمين..

كذلك فالمرونة التي تتسم بها أصول الفقه سمحت للفقهاء القدامى بالنظر في صحة الدليل نفسه، وقالوا بالتعارض والترجيح فيه، وهي عملية عقلية رائعة لم ينجزها المحدثون الذين نشروا خرافاتهم دون النظر في تعارضها أو ترجيح أفضلها وأصدقها..

أنا عاشق لأصول الفقه لعلمي أنه قابل للتجديد ويراعي مصلحة الناس العامة في المقام الأول، ومن خلاله يجري التنظير السياسي وأذكر أنني كتبت منذ 5 سنوات مقالا بعنوان (عشرة أدلة على العلمانية من الفقه الإسلامي) فالقارئ في الفكر الإسلامي بحيث يقدم أًصول الفقه على الحديث سيرى أن الإسلام في جوهره لا يقول بالدولة الدينية بل يقول بالفصل بين الدين كرسالة فردية وبين الدولة كقانون جماعي متفق عليه

ولولا سيطرة المحدثين منذ عقود على عمليات الفقه وتقديم منتجهم الفكري الروائي على أنه دين ما انتشرت جماعات الإرهاب، فهم الذين خلطوا بين الحكم التكليفي والوضعي، وبين المتواتر والآحاد، وبين القطعي والظني ، وبين الدليل المتفق عليه من حيث المفهوم ومن حيث المصداق، وجعلوا الدليل المختلف عليه - كمرسل الصحابي والعُرف وسد الذرائع والأًصل في الأشياء -على أنه دليل متفق عليه، وأنكروا الخلاف على ما يقولوه تماما ، وهو كذب فاحش وقع فيه أئمتهم وزعمائهم، مما دفع المصلحين والتنويريين ورجال الدين العقلاء للانتفاضة وتجاوز ذلك وامتصاص هذه الهجمة البدائية المتوحشة على عقول المسلمين التي أدت لانتكاسة وردة فكرية لشعوبنا لم تخطر على بال المتشائمين قبل نصف قرن..

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...